يواصل د. علي محيي الدين القره داغي عرض كتابه المشكلة الاقتصادية وحلها والذي ننشر حلقاته يوميا على صفحات «رمضانيات»، وقد تناولنا فيه عبر الحلقة الماضية «عرض كتب العلماء العرب في الاقتصاد الإسلامي» وتطرقنا لمعالم المشروع الإسلامي الاقتصادي لحلَ هذه الأزمة المالية، وفي هذه الحلقة يتحدث فضيلته عن آيات القرآن التي تحدثت عن مدح وذم المال:

أولاً ـ مجال مدح القرآن للمال: أ- عشرات الآيات التي تحدثت عن الجهاد بالمال والنفس حيث قدمت معظمها الجهاد بالأموال على الأنفس، منها على سبيل المثال قوله تعالى: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» فالجهاد بالمال هو من أعظم أنواع الجهاد الذي ينقذ الأمة من ذل الكفر، والفقر والجهل والمرض، ومنها قوله تعالى: « الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ». ب- المال هو ثمن الجنة فقال تعالى: « إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ».ج- المال يكون قرضاً حسناً خيراً للمرء فقال تعالى: « مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ».

د- المال قيام المجتمع، إن المجتمع لا ينهض ولا يتقدم ولا يعمر الكون إلاّ من خلال المال ـ بعد الايمان فقال تعالى: «وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً». هـ ـ المال زينة الحياة الدنيا قال تعالى: «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً» قال الماوردي: لأن في المال جمالاً ونفعاً وفي البنين قوة ودفعاً. وحبّ المال من الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولذلك نزلت التشريعات السماوية لتنظيمها فقال تعالى: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ»ـ أن انفاق المال يؤدي إلى تطهير النفس والتزكية فقال تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وتزكيهم بها» وقوله تعالى: «الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى». ح- سبب للقوامة فقال تعالى: «الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ» فسره ابن عباس رضي الله عنهما بالمهر والنفقة. فالأموال في هذه الآيات هي الأموال الحلال التي تنفق في سبيل الله، ولنهضة الأمة وتعمير الكون، وللتواصل، وخدمة الناس. ثانياً ـ في مجال الذمّ: وردت آيات كثيرة تدل في ظاهرها على أن المال مذموم كالآتي: أ- المال عذاب لصاحبه، قال تعالى: «فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ» حيث يدل على أن المال عذاب لصاحبه، ولكن المقصود به المال الذي يكون للكافر أو المنافق.ب» المال فتنة فقال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ قال الرازي: «لأنها تشغل القلب بالدنيا وتصير حجاباً عن خدمة المولى». ج- أن المال لا يفيد صاحبه عند الله تعالى فقال تعالى: «لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» وقال تعالى: « مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ» فالمقصود به أموال الكفرة، أما أموال المسلمين التي انفقت في سبيل الله فهي تنفع أصحابها، وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم فقال تعالى: « يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» حيث يدل بوضوح على أن المال لا ينفع صاحبه إلاّ مع الاخلاص والنية وسلامة القلب.د- المال سبب للخسران، فقال تعالى: « رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً» حيث يدل على أن المال سبب للخسران، ولكن الآية واضحة في أن ذلك خاص بالعاصي الكافر.هـ- إن المال يؤدي إلى الطغيان والضلال والترف فقال تعالى: «كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى» فهذا واضح أيضاً في ان المقصود هو الإنسان الكافر الطاغي، وقال تعالى: «إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ» في حق فرعون، وقال تعالى: « وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ».و- صرفه في الصدّ عن سبيل الله فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فالاية واضحة في أن المال سلاح ذو حدين فإذا كان بأيدي الأعداء فينفقونه في الصدّ عن سبيل الله. في السنة المشرفة: ز- وهكذا نجد مثل هذين النوعين من المدح والذم في الأحاديث النبوية الشريفة، منها في الذم على سبيل المثال قول النبي صلى الله عليه وسلم: « إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال». ومنها في المدح على سبيل المثال قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا حسد إلاّ في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً، فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها وقوله صلى الله عليه وسلم: اتقوا النار ولو بشقّ تمرة حيث يدل على أن نار جهنم يمكن أن يحفظ المسلم نفسه منها بسبب المال، بل جعله الإسلام سبباً لخير الإسلام فحينما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن خير الإسلام ؟ قال: «تطعم الطعام وتقرأ السلام……. ». فهذه الأحاديث لو عمقنا النظر فيها لوجدنا أن ذم المال ينصرف نحو المال الحرام، أو المكنوز، أو المال الذي يكون فتنة لصاحبه، أما المال الحلال الذي يصرف في سبيل الله وفي وجوه الخير فإنه وقاية من النار، وخير وبركة، ووسيلة لدخول الجنة بل قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ذهب أهل الدثور بالأجور…. ولذلك ورد في الحديث الثابت: نعم المال الصالح للرجل الصالح. الفقر والجوع والزهادة في الدنيا والغنى وحبّ الدنيا: وهكذا الأمر في مسألة الفقر والجوع والزهد عن الدنيا، والغني وحب الدنيا ، حيث وردت مجموعة من الأحاديث في الأمرين والمقصود بهما في النهاية هو أن السعي لتحصيل المال والغنى خير مطلوب في سبيل الله، ودعم الجهاد، ما دام صاحبه يخرج عنه حق الله تعالى وحق عباده، وانه يصرفه في وجوهه، وأنه لا يغى به، بل يكون شاكراً عابداً لله تعالى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب الغني التقي الخفي ولكن الغنى يصبح شراً وفتنة إذا طغى به صاحبه واستغنى وتكبر وتجبر، وصرف غناه في سبيل الشر والطغيان، أو لم يؤد حقوق الله تعالى والعباد، ولم يصرف في وجوهه التي أمر الله تعالى بها. بل إن الإسلام جاء بمصطلح جميل وهو أن الزهادة في الدنيا ليست بترك الدنيا، وإنما بعدم انشغال القلب بها، وجعلها أكبر الهموم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا اضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديك أوثق مما في يد الله، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها أقيت لك فهذا الحديث أعاد الزهد إلى الجانب القلبي الذي يجب أن يكون مشغولاً بذكر الله تعالى وأن يكون واثقاً بما عند الله أكثر مما هو واثق مما في يديه، وأن يكون تحقيق الثواب في المصيبة هو الهمّ الأكبر. وقد أوردت كتب الحديث عدداً من هذه الأبواب، إذا نظرت إليها نظرة شمولية، وجمعت بعضها إلى البعض يظهر لك ما ذكرناه، فمثلاً ذكر الامام النووي: باب فضل الزهد في الدنيا، والحثّ على التقلل منها، وفضل الفقر، ثم أورد عدداً من الآيات منها قوله تعالى: « اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ». والتحقيق أن هذه الآية تصور الحياة الدنيا حينما تكون منفردة عن البحث عن الحياة الآخرة، حيث تكون حينئذٍ متاع الغرور، ولكن يمكن تحويلها إلى مزرعة الاخرة، وسبب تعميرها وشراء الجنة بالايمان والجهاد والعمل الصالح، وبالتالي تحقيق السعادة للدنيا والآخرة. ثم ذكر أحاديث كثيرة حتى قال الامام النووي: « وأما الأحاديث فأكثر من أن تحصر، فننبه بطرف منها على ما على سواه» ونحن أيضاً نذكر بعض ما ذكره مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: أبشروا، وأمّلوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها، كما تنافسوا، فتهلككم كما أهلكتهم. والحديث ليس في ذم الغنى من حيث هو، وإنما في ذم الغنى الذي يصل إلى التنافس، وبالتالي الهلاك. ثم ذكر النووي باب فضل الجوع وخشونة العيش، والاقتصاد على القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ النفوس وترك الشهوات، فأورد فيه عدداً من الآيات والأحاديث كلها تدل على تربية المؤمن على القناعة والرضا والصبر بالقدر والقضاء، وحينئذ يكون الأجر والثواب، بل إن كلها في تعلق القلب بالدنيا وشهواتها وإرادة الحياة الدنيا وتفضيلها على الآخرة، فقال تعالى في قارون: « فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ» فالمؤمن يتعلق بالآخرة وثوابها، ويسعى لها في الدنيا من خلال تعميرها وانفاق الأموال فقال تعالى: « وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ»