بل إن القرآن الكريم يرشدنا بقوة ويربينا بكل الوسائل لتحقيق هذا الدعاء وهو: «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» وعلق الله تعالى على هؤلاء الذين يدعون بهذا الدعاء بقوله: «أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ» وبين بأن الذمّ لهؤلاء الذين يحصرون دعاءهم على حسنة الدنيا حيث قال تعالى: «فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ».
ثم أورد النووي: باب القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة والانفاق وذم السؤال من غير ضرورة، فأورد فيه آيات وأحاديث كثيرة، ثم أورد باب الحث على الأكل من عمل يده.. وباب الكرم والجود والانفاق في وجوه الخير ثقة بالله تعالى، فأورد فيه آيات وأحاديث كثيرة تدل بوضوح على فضل المال الذي ينفق في سبيل الله، ويكفي أن الانفاق في سبيل الله «أي وجوه الخير كلها» يذكر قبل الجهاد في النفس، وأنه يؤدي إلى حشر صاحبه في ظل عرش الله أو رعايته وعنايته يوم لا ظل إلاّ ظله، وأنه خير الإسلام، وأنه سبب لدخول الجنة ووقاية من النار…..الخ.
بل أورد النووي: باب لفضل الغني الشاكر، فأورد فيه عدداً من الآيات، منها قوله تعالى: «فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى» ثم قال النووي: والآيات في فضل الانفاق في الطاعات كثيرة معلومة. بل إن الأحاديث النبوية الشريفة تدل على أن الغني الشاكر أفضل عند الله تعالى من الفقير الصابر، وذلك لأن خير الغني الشاكر لنفع الناس، وخير الناس أنفعهم للناس، فقد روى البخاري ومسلم بسندهما عن وعن ابي هريرة رضي الله عنه ان فقراء المهاجرين اتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: «ذهب اهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال: «وما ذاك؟» فقالو «يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فلا اعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون احد افضل منكم الا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبحون، وتكبرون، وتحمدون، دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة فرجع فقراء المهاجرين الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سمع اخواننا اهل الاموال بما فعلنا، ففعلوا مثله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» متفق عليه.
والخلاصة أن المال من حيث هو خير، ولكنه يختلف باستعماله، وأنه سلاح ذو الحدين فإذا استعمل في الخير كان خيراً، وإذا استعمل في الشرّ فهو شر وفتنة، ولذلك عقد العالم الرباني الزاهد المعروف بابن أبي الدنيا «ت281هـ» باباً لفضل المال وبدأ برواية حديث «نعم المال الصالح للمرء الصالح» ثم أورد عدة أحاديث في فضل المال، وكما روى عن بعض الصحابة والتابعين فيه، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الحسب المال، والكرم التقوى» وعن عمر قوله: «وإن يكن لك مال لك شرف…» وقوله في خطبته: «… أصلحوا هذا المال فإنه خضرة حلوة وإن هذا المال يوشك أن يصير إلى الأمير الفاجر، أو التاجر النجيب» وعن الصحابي قيس بن عاصم المنقري: «…وعليكم بالمال فاستصلحوه، فإنه منهبة للكريم، ويستغنى به عن اللئيم» وعن سعد بن عبادة دعاءه: «اللهم ارزقني مالاً أستعين به على فعال فإنه لا فعال إلاّ المال» وعن سعيد بن المسيب قوله: «لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حله، يكف بها وجهه عن لناس، ويصل به رحمه، ويعطي منه حقه» وقوله: «ينبغي للعاقل أن يحب حفظ المال في غير امساك، فإنه من المروءة، يكف به وجهه، ويكرم نفسه، ويصل منه رحمه» وعن محمد بن المنكدر قوله: «نعم العون على الدّين الغنى» وعن فضيل بن عياض عن سفيان الثوري قال: «كان من دعائهم: اللهم زهدنا في الدنيا ووسع علينا منها، ولا تزورها عنا فترغبنا فيها» وعن داود عليه السلام قوله: «نعم العون اليسار -أو الغنى- على الدين»، وعن سفيان قوله: «المال في هذا الزمان سلاح للمؤمن»، وعن الحسن قوله: «ليس من حبك للدنيا طلبك ما يصلحك فيها»، وعن أبي صالح الأسدي: «وجدت خير الدنيا والآخرة في التقى والغنى، وشرار الدنيا والآخرة في الفقر والفجور»، ومثل هذا القول مروي عن الصاحبي الجليل الزبير حينما قال ابنه عبدالله: «ما هذا إلاّ تكاثر الناس وفخرهم فقال الزبير: إنه والله ما بالدنيا بأس، ما تدرك الآخرة إلاّ بالدنيا، فيها يوصل الرحم، ويفعل المعروف، وفيها يتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة، فإياك أن تذهب أنت وأصحابك فتقعوا في معصية الله، ثم تقولون: قبح الله الدنيا، ولا ذنب للدنيا« ، ثم أورد ابن أبي الدنيا تأييداً لهذا القول حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم المطية الدنيا، فارتحلوا تبلغكم الآخرة» وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «نعم الدار الدنيا، فيها يصلون وفيها يصومون».
ثم أورد ابن أبي الدنيا باباً واسعاً لاصلاح المال ذكر فيه أهمية الاستثمار وعدم إضاعة المال، والاستفادة من كل جزء من جزئياته لصالح الدنيا والدين، حيث روي الأثر القائل: الافلاس سوء التدبير، والكمال تقدير المعاش، والحفظ للمال من غير اسراف ولا تقتير، واستصلاحه بالتجارة والصناعة والعمل، ومنعه من الاضاعة كما نقل القول بأن أكيس الناس هو من يصلح ماله، ويقتصد في معيشته.
وذكر في باب الاحتراف قول النبي صلى الله عليه وسلم: «طلب الحلال جهاد، وإن الله عزّ وجل يحب العبد المحترف» كما روى بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال في قوله تعالى: «رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ» «هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله» وروى كذلك بسندده عن نعيم بن عبدالرحمن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تسعة أعشار الرزق في التجارة»، وروى كذلك عن سعيد بن المسيب: «من لزم المسجد وترك الحرة، وقبل ما يأتيه فقد ألحف في السؤال».
المبادئ العامة المستنبطة مما سبق:
بعد هذا العرض الموجز للآيات الكريمة والأحاديث المطهرة نستطيع القول بأن الإسلام قد وضع المال في مكانه الصحيح دون افراط ولا تفريط، ودون تعارض ولا تضاد واختلاف، وأن المبادئ العامة الإسلامية بشأن المال هي ما يأتي:
1ـ المال نعمة من نعم الله، ويتوقف على وجوده كثير من المصالح العامة والخاصة، من تعمير الأرض، والجهاد في سبيل الله، وتحقيق مهمة الاستخلاف، وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية ونحوها، فالقوة المالية تحتل المراتب الأولى لتحقيق الحضارة والتقدم والرفاه، والدفاع عن النفس.
2ـ المال قيام للمجتمع، فلا ينهض «بعد الايمان» إلاّ به.
3ـ إن حفظ المال من مقاصد الشريعة الكلية، ولذلك حرم الله تعالى الاضرار بالمال دون حق، وأكله، واضاعته، وأكل أموال الناس بالباطل، وبالمقابل أوجب الله تعالى حمايته وحفظه وتنميته وتداوله بين الناس «كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ» وشرع لحفظه مجموعة من العقود من الرهن والكفالة، بل إن الله تعالى شرع لحفظ المال حدّ السرقة وهو قطع اليد لمن اعتدى على المال إذا توافرت شروطه واندرأت الشبهات، وكذلك شرع حدّ الحرابة والفساد في الأرض إذا اعتدى على المال عن طريق القوة والافساد.