جريدة الراية

دعا فضيلة د.علي محيي الدين القره داغي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين إلى أن يهتم المسلمون بالأمانة، وألا يعتبروها خاصة بالحكام فقط، وإنما تخصهم جميعاً في كل تصرفاتهم، وقال إن هذه الأمانة في بيتكم، في مدرستكم، وفي جامعتكم، وفي إدارتكم، فهي تخصنا بأن نتحملها بحق، ورأى فضيلته أن من هذه الأمانة ألا يقدم موظف بسيرة ذاتية مزورة، مشيرا إلى أنه حتى لو كان مظلوما في رواتبه فيجب أن يكون أمينا، ما دام وافق على العقد فيجب أن يحافظ على هذه الأمانة، أمانة الإدارة، وأمانة الأشياء الموكلة إليه، وإلا نسأل عنها يوم القيامة وتكون خزيا وندامة.

وقال فضيلته في خطبة الجمعة أمس بجامع عائشة رضي الله عنها بفريق كليب: إننا كما ندعو لإخواننا في سوريا، ندعو لإخواننا في مصر أن يكتب لهذا الشعب الذي كان له دوره التاريخي في خدمة الإسلام والمسلمين على مر تاريخنا الإسلامي، نسأل الله لهم التثبيت وأن يزيل عنهم ما يسمى بالثورة المضادة، فهناك مؤامرة كبرى ضد مصر لإشغالها بالفوضى بعد أن حفظ الله مصر وحقق لها الخير بدون فوضى، فبعد أن استقرت الأمور يريدون لها فوضى بدون مناسبة. فلتبقَ الثورة مستمرة لكن لتوجه الثورة للاستقرار، ولا يمكن لبرلمان منتخب أن يحل مشاكل الناس بين عشية وضحاها ما أفسده هؤلاء الحكام خلال خمسين سنة وأكثر، فكيف يصلح الفقر ويعالج البطالة بأيام معدودة.. ووجه لهم نداء: لهؤلاء الذين يتظاهرون في ميدان التحرير ومن باب سد الذرائع أن يتقوا الله سبحانه وتعالى وأن يتقوا الله في شعب مصر، لأن خلال هذه المظاهرات يمكن أن يدخل فلول النظام كما رأيتم في المرة السابقة في بورسعد، وقتل وجرح عدد كبير، وأعطى صورة سيئة للمصريين وهذا لا ينبغي، وأن الشعب الآن يتجه باتجاه صحيح وأن السلطة تسلم وأن الجيش المصري كان له دوره فبدل أن يهاجم يجب أن يشكر ولكن هذه الثورة تبقى مستمرة إذا وجد اي إخلال وأسأل الله أن يحفظ مصر من كيد الأعداء من الداخل والخارج.

حمل الأمانة

وكان فضيلته قد بدأ خطبته الأولى قائلا: إن الله سبحانه وتعالى خلق هذا الكون، وسخره لهذا الإنسان، ولكن الله سبحانه وتعالى في مقابل هذه النعمة العظمى، نعمة التسخير، ونِعمه التي لا تعد ولا تحصى، كلّفه بحمل الأمانة، هذه الأمانة الثقيلة التي لم تستطع السموات بعرضها وقوتها وسمكها أن تتحملها، ولا الأرضون ولا الكون كله، وتحملها الإنسان، لأن الله سبحانه وتعالى زوّده بكل الوسائل الممكنة التي تُسهل عليه حمل هذه الامانة، فقال سبحانه وتعالى “إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا”، وأشفقن منها أي أخفن منها خوفا شديدا، وحملها الإنسان، ولماذا حملها الإنسان؟ ولماذا كلف الله سبحانه وتعالى الإنسان؟ لأن هذا الإنسان لها قابلية أن يتحمل هذه المسؤولية من خلال الوحي المنزل عليه المتمثل بالقرآن الكريم، وبيانه المتمثل بالسنة، بالإضافة إلى العقل الذي زود الله سبحانه وتعالى به الإنسان، هذا العقل الكامل لم يزود به غير الإنسان.

ما دام الإنسان ينزل عليه الوحي وما دام قد زوده الله سبحانه وتعالى هذا العقل، إذاً يزول الجهل ويحل محله العلم، ويزول الظلم ويحل محله العدل، ” إنه كان ظلوما جهولا”، معظم المفسرين يفسرونه بأنه كان كثير الظلم وكثير الجهل حينما تحمل هذه الأمانة، ولكن هذا التفسير غير دقيق، وإنما المراد – والله أعلم – والتفسير الدقيق له، أن اللفظ “ظلوم” غير “ظالم” ولفظ “جهول” غير “جاهل” أي أن هذا الإنسان له قابلية الجهل وقابلية التعلم، قابلية الظلم وقابلية زوال هذا الظلم، هذا هو الإنسان الذي بالوحي ثم بالعقل يستطيع أن يصبح عالما وأن يصبح عادلاً، ومن هنا يستطيع أن يتمكن من الأرض، ويستحق أن يسخر الله سبحانه وتعالى له السموات والأرض، هذه السموات والأرض والجبال التي لم تتحمل المسؤولية وحملها الإنسان، حينئذ جعل الله سبحانه وتعالى هذه السموات والأرض خدمة ومسخرة لهذا الإنسان حتى يتمكن من تحقيق العدل والتنمية وتعمير الأرض في ضوء منهج الله سبحانه وتعالى.

التكليف

وأشار فضيلته إلى أن هذه الأمانة الثقيلة ليس المقصود بها أمانة الحكم فقط، وإنما هي أمانات التكاليف، والمسؤوليات كلها، كل شيء فيه مسؤولية، وكلما ازدادت المسؤولية ازداد العبء وازدادت الأمانة، وازدادت المسؤولية، وازداد السؤال أمام الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، وأمام البشر في الدنيا، وأمام التاريخ الذي لا يرحم من ظلم، وإنما يكتب ما يريد أن يستحق أن يكتب له الخير.

هذه هي الأمانة التي ربما نستهين بها، ولكنها هي الأساس في التكليف، وهي الأساس في النجاح في هذه الدنيا، وهي الأساس والمرجع في فلاح الإنسان في هذه الدنيا، وكذلك فلاحه في الآخرة سواء كان من المحطة البعيدة بدءا من الموت والقبر ثم بعد ذلك الحشر والسؤال والحساب ثم بعد ذلك الجنة أو النار، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يفوزون ويستحقون الأجر والثواب ونيل المسؤولية لنسير بهذا الطريق سالمين حتى ندخل جنة الفردوس حينئذ ونحن متقابلون ونتذكر ما فعلناه وما سمعناه.

أمانة العبادة

وقال إن هذه الأمانة، المسؤولية العظمى هي أمانة التكاليف، أمانة العبادة، أمانة المسؤولية بينك وبين الله سبحانه وتعالى في حقوق الله، كل حقوق الله من العبادات داخلة في هذه الأمانة، في هذه المسؤولية، وأنت تسأل عنها، وكل المسؤوليات الدنيوية داخلة في هذه الأمانة، وعلى رأسها أمانة الحكم التي تشمل الخليفة والرئيس والأمير والحاكم والمسؤول والوزير والمدير، إلى كل من لديه شخص واحد وهو مسؤول عنه، فهو مسؤول ” كلم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته” وكلما ازدادت الرعية ازدادت المسؤولية، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الرجل راعٍ ومسؤول في بيته، مسؤول عن زوجته، مسؤول عن أولاده، ومسؤول عن إدارة البيت أنحو السعادة والعلم والخير في الدنيا والآخرة، أم نحو الخسارة والضياع والهلاك والفساد، ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ”. والمرأة كذلك مسؤولة في بيتها عن زوجها، كما أن الزوج مسؤول عن زوجته، المرأة كذلك لها مسؤولية، وتتحمل المسؤولية ايضا في أن تنصح زوجها وألا تضغط عليه، وأن تكون مثل النساء الصالحات في عصر النبوة وعصر الرسالة والتابعين، حينما يخرج الزوج كانت المرأة تأخذ بكتف زوجها، ويقول يا أبا فلان: اتقِ الله فينا، نحن نصبر على الجوع ولكن لا نصبر على الحرام، يذكره بالله سبحانه وتعالى حتى لا يقدم على فعل الحرام، أو يدخل السرور الظاهري على قلب زوجته من خلال شراء هدية أو نحو ذلك، وكذلك هي مسؤولة عن أولادها، فالمسؤولية مشتركة بين الطرفين وهكذا جميع المسؤولين أمام الله سبحانه وتعالى.

المسؤولية

وأردف قائلا بأن المسؤولية الكبرى هي مسؤولية الحكم، مسؤولية تطبيق شرع الله سبحانه وتعالى، مسؤولية تحقيق الرفاهية للأمة، فهذه المسؤولية ايضا نراها في سورة النساء، وبدأت الآيات بالأمانة، ثم تحدث بعد ذلك عن الحكم بالعدل فقال سبحانه وتعالى “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا”، أن تؤدى الأمانات الى أهلها، كل من كان عليه مسؤولية أن يؤدي هذه المسؤولية الى أهلها، وبالتالي أن يعيد الحقوق الى أصحابها، وأن يحافظ على هذه الحقوق حفظا كاملا سواء كانت هذه الأمانات مادية أو معنوية أو مسؤولية، فالأمانة في القرآن الكريم لا يقصد بها الامانة التي نذكرها في الفقه من الأموال والبضاعة والكماليات، بل هي أوسع من ذلك بكثير، كل المسؤوليات هي أمانة، فالله سبحانه وتعالى أمرنا ان نؤدي هذه الأمانة ثم تحدث عن أكبر الأمانات “وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْل إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ” فالله سبحانه وتعالى يعظنا أحسن موعظة وأفضل موعظة في أن نربط الأمانة بالحكم، وأن يحافظ الحكام على هذه الأمانة العظمى نحو شعوبهم، بل نحو البيئة، بل نحو الحيوانات التي تعيش في تلك الديار التي تحكمها هؤلاء الحكام.