قبل أن نخوض في تفصيلات هذه الصور المعاصرة للقبض يمكننا أن نضع لها ضابطة وهي أن مبنى القبض وأساس مسائله وصوره قائم على العرف , حيث أن الشرع أطلقه فيكون الرجوع فيه إلى العرف , ومن هنا فكل ما عدّه العرف قبضاً في أي عصر من العصور فهو قبض , ما دام لا يصطدم مع نص شرعي ثابت صريح , وكذلك لا يجب الالتزام بجزئيات القبض وصوره في عصر ما بالنسبة للعصر الذي يليه ما دام العرف قد تغير , لأن ما هو مبني على العرف يتغير بتغيره يقول العلامة ابن القيم : ( …. فمهما تجدد في العرف فاعتبره , ومهما سقط فألغه , ولا تجمد على المنقول في الكتب طول عمرك , بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تجره على عرف بلدك , وسله عن عرف بلده فأجره عليه , وأفته به دون عرف بلدك , والمذكـور في كتبك ” ثم نقل عن المحققين من العلماء قولهم ” فهذا هو الحق الواضح , والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين , وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين … وما جـرت به العــادة … واشتهر ذلك عند النـاس بحيث صار عرفاً متبادراً إلى الذهــن من غير قرينة …. حمل عليه …. ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل و أضل , وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبّب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم , بل هذا الطبيب الجاهل , وهذا المفتي الجاهل أضرُ على أديان الناس وأبدانهم والله المستعان .
وقد أكد على مثل ذلك العلامة ابن عابدين في رسالته القيمة فقال : ” أعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلا ً, فقالوا : تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة ….. , وقال في القنية : ” ليس للمفتي ولا للقاضي أن يحكما على ظاهر المذهب ويتركا العرف ” بل ذكر أن النص المبني على اعتبار عرف ما مثل النصوص الواردة في اعتبار الحنطة والشعير ونحوهما من المكيلات لا يدل على عدم جواز بيعها بالوزن إذا تغير العرف وأصبحت تباع بالوزن أيضاً , فالنص في ذلك الوقت إنما كان للعادة …. , فإذا تغيرت العادة تغير الحكم – أي هذا الحكم الجزئي – فليس في اعتبار العادة المتغيرة الحادثة مخالفة للنص , بل فيه اتباع النص ” .
وهذه الضابطة تسهل كثيراً من صور القبض المعاصرة ما دامت لا تتعارض مع نصوص الشريعة الثابتة الواضحة .
وعلى ضوء ذلك نقول : إن عملية القبض ( التسلم والتسليم ) في عصرنا الحاضر ليست جميع صورها حديثة , بل إن كثيراً من صورها لا تزال باقية , مثل قبض العقار سواء كان أرضاً أم بناءً , وكذلك قبض الأشياء التي لا يمكن نقلها دون تغيير في شكلها كالمصانع فهذه الأمور لا يختلف فيها القبض في عصرنا عما كانت عليه في السابق , فيكون قبضها بالتخلية كما قال فقهاؤنا الكرام .
وأما المنقولات فهذه هي يمكن الاختلاف فيها حسب العصور والأزمان , حيث جدّت معاملات حديثة , وتطورت كيفية القبض , ولا سيما في نطاق السلع والنقود ( الصرف ) .
فعلى نطاق السلع الحاضرة أو التي رآها المشتري سابقــاً يتم فيها القبـض بعد العقد بمجرد التخلية ما عدا الطعام حيث لا يجوز بيعه إلا بعد نقــله , أو كيــله , أو وزنـه – كما سبق – ويعتبر تسليم البضاعة وإدخــالها في السفينة , أو الطيارة أو السيارة بعد إرسال ( بوليصة الشحن ) تخلية وقبضاً .
وأما السلع الغائبة فإما أن يتم العقد فيها بين المستورد والمصدر مباشرة , وذلك بأن يبعث المستورد طلباً بالبضاعة ومواصفاتها المطلوبة , ويوافق عليها المصدر , ثم يبعثها عن طريق البر , أو البحر , أو الجو , ففي هذه الحالة فإن العقد لا يلزم إلا بعد وصول البضاعة إلى المشتري ومطابقتها للمواصفات المذكورة في العقد , وحينئذ لا يتم القبض فيها إلا بعد وصولها والتأكد من التطابق , ولا يخفى أن رؤية الوكيل البضاعة مثل رؤية الموكل , ومن المعلوم فقها أن رؤية البعض قد تغني عن رؤية الكل .
وقد يتم العقد عن طريق البنوك من خلال الإعتمادات المستندية ( ( CREDIT وهي تعني توفير الضمان للبائع ليحصل على بضاعته , وللمشتري ليحصل على البضاعة التي تعاقد على شرائها , حيث يتعهد البنك فاتح الاعتماد بنـاء على طلب عميله وتعليماته : بأن يدفع لأمر المستفيد ( البائع ) مبلغاً معيناً من المال في غضون مدة محدودة , مقـــابل قيام المستفيد بإرسال البضاعة ( موضوع البيع ) أو نحوها , وتسليم مستندات معينة مطابقة للشــروط المبنية في خطاب الاعتماد .
والاعتماد نوعان : اعتماد استيراد يفتحه المستوردون لصالح المصدرين الأجانب لاستيراد سلع أجنبية , واعتماد تصدير لصالح المصدرين المحليين لسلع محلية .
والاعتماد المستندي إما أن يكون مغطى غطاءً كلياً , حيث يدفع طالب الاعتماد بتغطية مبلغه بالكامل للمصرف حتى يقوم المصرف بتسديد ثمن البضاعة بالكامل لدى وصول المستندات الخاصة بالبضاعة إليه , أما إذا كان مغطى غطاءً جزئياً , فحينئذ يدفــع المصرف الباقي من ماله الخاص .
فالعناصر المشتركة في الاعتماد المستندي هم :
1- المستورد الذي طلب فتح الاعتماد , وتم بينه وبين البنك فاتح الاعتماد عقد تضمن جميع النقاط التي يطلبها المستورد من المصدر .
2- المصرف الذي فتح الاعتماد للمستورد بعد الموافقة على شروطه .
3- المصرف الذي يرسل إليه مبلغ الاعتماد , وهو إما أن يقوم بدور الوسيط بين المصرف الفاتح , وبين المصدر دون أي التزام عليه , وإما أن يقوم بتبليـغ الاعتماد إلى المستفــيد , ويضيف إليه تعزيزه , وحينئذ يكفل دفع القيمـــة للمصدر بشرط أن تكــون هذه المستندات مطابقة لشروط الاعتماد .
4- المستفيد المصدر .
والذي يهمنا في هذه القضية أن المصرف إذا دخل كوكيل فإن استلامه البضاعة عن طريقه مصحوبة بكافة سندات الشحن يعتبر قبضاً , وهذه الحالة إنما تتم في الغــالب حينما يكون الاعتماد المستندي مغطى غطاءً كلياً وكذلك يعتبر استلامه البضاعة – مع توفر الشروط – قبضا إذا دخل كشريك في الصفقة , وهذا يتم في الغالب عندما يكون الاعتماد المستندي مغطى غطاءً جزئياً .
أما إذا دخل البنك كمرابح ( بيع المرابحة ) فحينئذٍ يكون قبضه للبضاعة قبضا للبنك , ولا يتم القبض للعميل إلا إذا وصلت البضاعة إلى الميناء المطلوب , ويتم العقد بينهما , ثم يراها , ويخلي بينه وبينها حسب العرف التجاري , وحينئذ ٍ يتم القبض .
وأما القبض في النقود في عصرنا الحاضر فلا بد أن يتم فيه القبض في المجلس , لأن الإجماع على ذلك قائم يقول ابن المنذر : ” وأجمعوا : أن المتصارفين إذا تفرقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد , وقد ذكرنا أن الجمهور لم يشترطوا الفورية بل قيدوا التقابض بالمجلس سواء طال أم قصر , في حين أن المالكية إشترطوا الفورية , وقد رجحنا مذهب الجمهور .
وإذا كان هذا محل إجماع لا ينبغي أن يمس , فإن العرف يمكن أن يتحكم في بعض صور القبض المعاصرة فيحكم عليها بالقبض ولذلك سنلقي بصيصاً من الضوء على كيفية الصرف في البنوك مع بيان حكم كل نوع منها .
فالبنوك ( أو محلات الصرافة ) إما أن تتعامل بالنقود مناجزة حالة حيث يدفع العميل النقود التي يريد بيعها , ويأخذ في مقابلها العملة التي يريدها , فهـذا لا إشكال فيه ما دام قد تم في مجلس العقد حتى وإن طال المجلس – كما سبق – .
وإما أن تتعامل معه على هذه الصورة , وحينئذ تكون أمامنا الصور الآتية :
1- يدفع العميل للمصرف الإسلامي مبلغاً من النقود على أن يسجله في حسابه الجاري , أو الاستثماري ( المضاربة , أو الشركة ) فيقبله المصرف , وبذلك يصبح المصرف مديناً في حالة تسجيله في حسابه الجاري , ومضارباً , أو شريكاً في حالة المضاربة أو المشاركة .
2- يدفع العميل للمصرف مبلغاً من النقود ( ريالات ) على أن يسجله لحسابه الخاص بالدولار , فيتسلمه المصرف ويجري عملية التحويل مباشرة , ثم يدخل في حسابه الخاص ما يقابله من الدولارات , ويعطيه ايصالا ًبذلك .
فهذا أيضاً جائز , لأنه من قبيل المصارفة في الذمة التي أجازها جماعة من الفقهاء , ويدل على جوازه حديث ابن عمر الثابت حيث كان على ذمته دراهم , ويدفع دنانير , وبالعكـس , فأقـره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بشرط أن يتم ذلك قبل التفرق – كما سبق – .
وقد أكد ذلك مؤتمر المصرف الإسلامي بدبي , حيث جاء في توصياته : ” يرى الاستمرار في المعاملة الخاصة لبيع وشراء العملات , وذلك على الصورة الموضحة في بيان أعمال البنك , لأنها من قبيل المصارفة , وتطبق عليها أحكام الصرف المحدودة في فقـه الشريعة الإسلامية .
3- عملية التحـويل سواء كانت للنقود مباشرة , أو عن طريق الشيكات :
فالأول : مثل أن يدفع العميل مبلغاً من النقود ليحولها المصرف بعملة البلد المحول إليه فيدخله في حساب المحول إليه أو يأخذه , فهذا أيضاً جائز , لأن أخذ العميل ورقة التحويل وتثبيت المقدار المحول بمثابة قبض ثم قيام المصرف بتحــويله إلى الآخر بمثابة السفتجة , وهي جائزة عند جماعة من الفقهاء , وكذلك يشتمل على المصارفة في الذمة إن حوّل عملة العميل مباشرة إلى العملة التي يريدها , وهي أيضاً جائزة – كما سبق – .
والثاني : وهو عن طريق الشيكات – له عدة صور منها :
أ – أن يتقدم العميل بشيك مسحوب على فرع البنك الذي يقوم بتحصيله , وفي هذه الحالة يقوم الفرع بعملية التسوية بين الساحب والمستفيد حيث ينقص من حساب الأول , ويضيف إلى حساب الثاني بقيمة الشيك , أو يسليمه القيمة نقداً دون إضافتها في الحساب .
وهذا جائز , لأن القبــض قد تم بصورة صحيحة , حيث تم التسلم والتسليم بين العـميل والمصرف .
ب – أن يتقدم العميل بشيك مسحوب على فرع آخر من فروع البنك , فيقوم هذا الفرع بتسوية علاقة المديونية القائمة بين الساحب والمستفيد بالطريقة السابقة نفسها .
وهذا جائز أيضاً , وذلك لأن الذمة المالية للبنك واحدة في كل فروعه , ومن هنا كان القبض قد تم بصورة مشروعة .
ج – أن يتقدم العميل بشيك مسحوب على بنك آخر , فيقوم البنك بإيداع قيمة الشيك في حساب العميل , ثم يقوم بتحصيل قيمة الشيك من المصرف الآخر في غرفة المقاصة , أو العكس , بحيث يطالبه المصرف الآخر إذا كان الشيك صادراُ منه .
وقد كيّف الباحثون المعاصرون عملية تحصيل الشيك على الوكالة حيث يقوم المستفيد بتوكيل المصرف المحصل في قبض الدين الذي حصل له بمقتضى الشيك , ومن هنا أجازوا للمصرف أن يأخذ الأجرة بناءً على عقد الوكالة المستقل .
وقد يقوم المصرف الذي تعامل معه العميل بتحويل المبلغ النقدي أو المسحوب بالشيك يحوله إلى مصرف آخر , أو شخص أخر في أي بلـد , ســواء كان عن طريق التحويلات الخطابية , أو عن طريق التلكـــس , أو البــــرق , أو التلفــون , أو نحــو ذلك , فهذه العـمليات كيّفت على أســاس ( السفتجة ) – كما سبق – حيث أجازها جماعة من الفقــهاء , وقد يأخــذ العميل مقابل نقوده شيكات مصرفية أو سياحية , فلا يخفى أن قبض الشيك المصرفي , أو السياحي بمثابة القبض . والله أعلم .