أ.د. عصام أحمد البشیر
نائب رئیس الاتحاد العالميّ لعلماء المسلمین
الحمد لله الذي أنزل الکتاب والمیزان لیقوم الناس بالقسط، والصلاة والسلام علی سیدنا محمد الهادي إلى الحق والعدل وعلی آله وصحبه أجمعین، وبعد:
فإنّ غایةَ الشریعة ومقصدها العليّ هو أن یقوم الناسُ بالقسط، ولا یتحقق هذا الأمرُ إلّا بفقه الکتاب والمیزان، فقهًا یميّز صاحبُه بين الأصول الفروع، والثوابتِ والمتغيرات، وبين ما كان حقًّا لله، وما كان حقًّا للمخلوق، وبين الحكمِ المقتضي للامتثال والتّسليم، والرأيِ القابلِ للنظر والاجتهاد، فقهًا يدرك صاحبُه مواطنَ تنزيل الحكم، وكيفية التنزيل، فقهًا يُصاغُ من منطلقاته الخطابُ الإسلاميّ المعاصر، وتُبنى على أسسه آلياتُ التجديد، ويُضبط وَفق ضوابطه الاجتهادُ، وتُبنى على قواعده الفتوى، كما أنّ فقه الميزان يضع بين يدي المجتهد الأُسسَ التي يبني عليها إطارًا مشتركًا يجمع الأمة ويُوحّدها، ويقيها فتنةَ التّشرذم والاختلاف، ويُبيّنُ طبيعة الظّنّيات ومحالّ الاجتهادات التي لا يجوز أن تفترق لأجلها الصفوفُ، ولا يصحّ أن يُعقد عليها ولاءٌ وبراءٌ، وإنَّ الجهلَ بهذا النوع من الفقه يُؤدّي إلى عدم القدرة على فهم علل الأحكامِ وإدراكِ حكمها ومقاصدها، فتنحرفُ بسبب الجهل به المفاهیمُ، وتنزل في غير محالّها الأحكامُ، وتَنحرف بوصلةُ الخطاب، فتُبنى الثقافة على مصطلحات زائفة، ويقوم الفكرُ على مفاهيم مغلوطة، وتجد الفُرقةُ والاختلاف بيئتَها الخِصبة ومرتعها السّهل.
ویُسهم فقه المیزان في تکوین الملکة الفقهیة، والنظرة المقاصدیة والعقلیة القادرة علی تطبیق الأحکام وتنزیلها بحکمة، مستلهمة من النّصّ الشّرعيّ ما یُلبي حاجة الفرد والجماعة، عقلیة قادرة علی التغییر المطلوب من خلال فقه الموازنة بین السُّنن الکونیّة والاجتماعیّة التي شرعها اللهُ، وأودع صورها في الحرکة التاریخیة.
کما أنّ فقه المیزان یضع الحلول للکثیر من القضایا؛ سواء ما کان منها من أصول الدین، أو قضایا التغییر بکلّ صوره وأسالیبه وآلیّاته، حیث یضع لکلّ ما ذُکر الضوابط الدقیقة لیؤطّرها في إطار القَبول والرّشد، کما أنّه یمثّل عاملًا مهمًّا في ضبط التّصوّر والاستنباطِ وامتلاك القدرة علی فهم الواقع. والفقیهُ الذي لا یمتلك هذا المعیار الدقیق لا یدرك حقائق الأشیاء، ولا یستطیع النفوذَ إلی دقائقها وأغوارها، ومن هنا تبرز حاجة الفقیه إلی هذا النّوع من الفقه الذي یُکسبه نظرةً أوسع وأرحب للأحکام التي یقتضيها الواقع المتجدِّد.
وقد مارس العلماءُ والأئمة المجتهدون هذا النوعَ من العلم في استنباطهم وفتاویهم، غیر أنّه لم یُدوّن بعد علمًا مستقلًا بذاته؛ لأجل هذا كان من الضرورة بمكان أن يجد هذا النّوع من الفقه طريقه إلى النّور. ویُعدّ کتاب فقه المیزان الذي بین أیدینا صَفيّ هذا الباب الواسع من أبواب الفقه، والذي حاز قصب السبق إلى تدوينه أخونا الحبیب العلّامة الدکتور علي القره داغي، وقد انشغل به نحوًا من ربع قرن، فكان مشروعًا مبارکًا وجهدًا كريمًا، یضع رؤیة متوازنة للأشیاء حتّی لا یقع الخلط والتّصادم، وحتّی تتمكّن العقلیّة المسلمة من امتلاك أبجدیات فقه الواقع الذي یُمکّنها من القدرة علی تنزیل الأحکام وتطبیقها، كما أنّه يهدف إلى ترشيد الجيل الصاعد من أهل النّظر والاجتهاد، ويُسهم في ضبط الفوضى الفكرية والاجتهادية، وذلك من خلال بيان المقاييس التي توزن بها الأمورُ، وتُؤطّر بها المصطلحات وتُجلى بها المفاهيم.
وقد جاء الکتابُ في وقته، وطرق الباب في حينه، حيث جاء والأمّة متعطّشة إلى فقهٍ يستلهم من النّصّ ما يفي بحاجاتها، ويُداوي عللها، ويعالج مشكلاتها، فقهٍ يكبح جماح الغلوّ والتّسيّب، ويَحدّ من وطأة الخلاف والتّمزّق.
وتتجلّى أهمّية الكتاب وقيمته في أنّه يسهم في فهم النصوص وترشيد الاجتهاد، ويعصم المجتهدَ من الوقوع في مغبّة الانحراف المنهجيّ؛ إذ به يُعرف أنّ لكلّ شيء قدره، فالعقائد لا تتساوى مع الشرائع، والثّابت لا يساوي المتغيّر، والحكم لا يكون والرأي في مقام واحد، والسياسات غير العبادات. كما أنّه استطاع أن یُقدّم قیمة علمیّة منهجیّة تهدف إلی معالجة المشکلات المعاصرة، فقد ذکر مؤلفُه في ثنایاه الموازینَ المبثوثة في القرآن والسُّنّة والسّیرة النّبویّة؛ کموازین علم العقیدة بجمیع أنواعها، وعالمِ الغیب والشهادة، والآخرة والدنیا، والعبادات المحضة والعبادات غیر المحضة، ومیزان البدع المحرّمة، ومیزان الإبداع المطلوب شرعًا، ومیزان الرّخصة والعزیمة، وموازین المعاملات المالیة، والأُسرة وما یتعلّق بها، والجهاد والحرب والصُّلح، والعقوبات والحدود والسّیاسة الشّرعیّة وما یتعلّق بها، والشّرع والطّبع والعاطفة.
وقد قدّم الکتابُ نظراتٍ فاحصةً ونماذجَ هادیةً؛ حیث جمع بین الجانبين النّظريّ والعمليّ، فقد سرد الأدلّة من الکتاب والسُّنّة والسّیرة النّبویّة وسیر الخلفاء الرّاشدین علی فقه المیزان، ودعّمها بالأمثلة التّطبیقیّة، ممّا جعل القارئ یعیش متعةً مع ما یجد من نماذج ملهمة وقراءة سلیمة؛ ذلك لأنّه فتح نظرات عمیقةً لفهم النص، مستعینًا برسوخ الفقه ومنطق العلم والاستدلالات الـمُحکمة بالأدلّة الثّابتة مع عدم الإخلال بالتّوازن وضبط الاستدلال والاحتفاظ بالرّؤیة الشُّمولیّة للمقاصد العُلیا للشّریعة الإسلامیّة.
وقد اشتمل علی جوانب مهمّة تُسهم في إثراء المکتبة والعقلیة الإسلامیة، ولعلّ الطبعة القادمة للکتاب تستوعب أنماطًا أخری تشتدّ إلیها الحاجة في عصرنا؛ کفقه میزان “الإقدام والإحجام”، ومیزان “المبدئیات والمرحلیات”، ومیزان “التجدید بین التّهیُّب والتّسیُّب”، وفقه میزان “النهضة والشهود الحضاري”، ومیزان “المشترك الإنسانيّ”، ومیزان “الأقلیّات بین الاندماج دون ذوبان، والخصوصیة دون انغلاق”، ومیزان ” التّأسیس لحلف فُضول عالميّ عادل وفاعل، ومیزان ” السُّنن الکونیّة والاجتماعیّة”، ومیزان “التدین بین الفرد والجماعة والدولة والأمة”، ومیزان ” العلاقات الدولیة بین المبادئ والمصالح”.
نسأل الله تعالی أن یُعظم النفع بهذا الکتاب، وأن یُبارك في جهد مؤلفه، ویَتقبله في الصالحات، وأن یَمنحه توفیقًا علی مراقی الفلاح، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمین. وصلی الله علی سیّدنا محمَّد وعلی آله وصحبه وسلمَ تسلیماً.