فقه الميزان دعوة لبناء المجتمع والحفاظ على الإنسان
علاء الدين ال رشي
يتمظهر المشروع الفقهي للإمام القره داغي في مفاصله الكبرى و في مبتغاه الأول بـ (امتلاك الميزان)، كما تشكل داخل سياق النصوص الإسلامية في القرآن الكريم وصحيح السنة ومعقول الفهم الذي توافق مع صريح المنقول.
يضع الإمام القره داغي فقه الميزان كأهم معيار لفهم الشريعة فهماً صحيحاً عميقاً، ومن أهم أسباب رفع الخلاف، أو تقليله، أو على الأقل فهم البعض واستيعابه للبعض.
ولعله يمكننا القول أن مفهوم فقه الميزان هو اجتهاد خالص جادت به قريحة هذا العالم الكبير بعد مسيرة ربع قرن حيث يهدف الإمام القره داغي من خلال تأصيل هذا الفقه الإسهام في:
- دقة الفهم والاستنباط من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
- رفع الخلاف أو تقليله، ومواطن الخلل والزلل.
- دفع الإفراط والتفريط في الفهم والتطبيق بإذن الله تعالى وتوفيقه.
- ردّ المتشابهات إلى الموازين المحكمات فقد قال تعالى : (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) .
وسيحاول كاتب هذا المقال استجلاء دلالة هذا المفهوم باعتباره يندرج ضمن المفاهيم الفقهية، التي أصّلها الإمام علي وعمل على بلورتها لتتناسب مع مقاصد القرآن العليا وتطبيقات الفعل النبوي وتجليات الاجتهاد الفقهي الراشدي، بعدما استقاها من ميادين معرفية متعددة و متباينة.
يقول الإمام علي القره داغي “فقه الميزان هو:
- معرفة أن لكل شيء ميزانه الخاص به، ووزنه الخاص به.
- لكل باب من أبواب الشريعة ميزانه، فإذا وزنت به أشياء أخرى، أو بابٌ آخر يختل الميزان، ولذلك عبّر القرآن الكريم عن العدالة المطلقة يوم القيامة بالموازين (جمع كثرة) لأن الله يحاسب المؤمن حسب ميزانه باعتباره مؤمناً، والكافر الظالم المعاند حسب ميزانه باعتباره كافراً ظالماً بلغته الدعوة فعاندها ، والكافر الذي لم تبلغه الدعوة ، فكل واحد حسب ميزانه، وحتى لو ورد لفظ الميزان مفرداً فيراد به جنس الميزان الشامل للجمع والمفرد.
- لكل حكم شرعي وزنه.
- لكل فعل مكلف وزنه.
- لكل شخص وزنه
- لكل زمان وزنه.
- لكل مكان وزنه.
ثمّ يضع الإمام علي القره داغي مجموعة من الضوابط المنهجية فيضع حدوداً:
- إذا لم يعط لكل شيء وزنه الخاص اختل الميزان وبالتالي اختل الحكم والنتيجة. أمثلة: ميزان العقيدة غير ميزان أحكام الشريعة، وميزان الغيب غير ميزان المشاهدة، وميزان العبادات غير ميزان العادات، وميزان الجهاد غير ميزان الدعوة، وهكذا كل شيء ضمن موازين الإسلام ، كما أن موازين الماديات مختلفة ، فميزان الرياضيات غير ميزان الجيولوجيا، وميزان الكهرباء غير ميزان الماء… .
- وزن الكليات غير وزن الجزئيات.
- وزن المقاصد غير وزن الوسائل.
- وزن الزنا غير وزن النظر، أو الخلوة.
- وزن الشرك بالله غير وزن بقية الكبائر.
- وزن الكبائر غير وزن المحرمات.
- وزن المحرمات المنصوص عليها غير وزن المكروهات.
- وزن الفرض غير الواجب، ووزن الواجب غير وزن المستحب، وهكذا…. ففقه الميزان غير فقه المــوازنات وغير فقه الأولويات وإن كانت بينهما عـــلاقات وطيدة ـ فمعرفته تفتح أبواب التفقه في الإسلام على مصراعيها، وبدونها يكون الخلط والاضطراب.
ثم يضع الإمام علي التحقيق الدقيق في فقه الميزان فيوضح:
أنّ التحقيق في هذا الفقه يدور مع الموازين المختلفة القائمة على القسط والعدل كما استعملها القرآن الكريم جمعاً سبع مرات –كما سيأتي–، ولكنّ (الميزان) جنس يطلق على الفرد وأكثر منه، فلذلك استعمله القرآن الكريم هكذا تسع مرات، ومنها آية سورة الحديد التي هي مناط دراستنا.
وكذلك الأوزان متعددة، ولكن الأصل في المصدر استعماله دون جمعه، لأنه شامل لجنس الوزن، وذلك استعمله القرآن الكريم مفرداً دون جمع في جميع الآيات التي ورد فيها لفظ الوزن معرفاً أو منكراً.
إنني أكتب هذه المقال وأنا أعرف التزايد الكمي في التقليد الفقهي، مع تخلف المضمون العلمي والمعرفي الذي يشكل محتوي الفقه المتداول، ومع تزايد الصراع على تكوين الصورة السياسية للإسلام والفقهية الرديئة للإسلام، و تمدد الصراع إلى الفقه و ظهور الجماعات والأحزاب والحكومات لتنشر بؤسها الفكري والمعرفي؛ بغية تحشيد للأفراد والجماعات، وكان النظام والأحزاب معًا يرفعون عاليًّا من قيمة الفقه التفكيكي وتقاليده كتكتيك سياسي انتهى إلى ضعف الأحزاب وقوة التسلط.
هنا انتشرت ثقافة العنف وحمل السلاح والإقصاء في سياق مارثون جهوي وقبلي وحزبي نحو تدمير المجتمع بديانته وهويته وتاريخه وإنسانه وحاضره، بغية استملاك السلطة والثروة والدين دون مسوغات شرعية لهذا الاستملاك.
في هذا السياق فشل الفقه في خلق شخصية متوزانة ولعل دراسة إمامنا القره داغي تسهم في ذلك الموضوع أو الفرض المغيب، فقه لا يغيب عنه أنماط التحول والتنوع الذي تعيشه المجتمعات اليوم ونحن في زمن الطفرات المعرفية والانقلابات المفاهيمية.
إنّ ما يرومه الفقيه الإمام علي القره داغي يتلخص بالآتي:
بناء فقه يعيد لللإسلام نصوصاً قيمية تحمل ميزان العدل فالخبرة في العكل الإسلامي وبعد بعد التعمق في أسباب الشدة في الخلاف، والقسوة في الحكم وصل الإمام القره داغي إلى أن أحد أهم أسبابها يعود إلى عدم وجود معيار يتحكم في أحكام هؤلاء، وإلى خلط كبير بين أبواب العقيدة والعبادات (الشعائر) بأبواب العادات والسياسات ونحوها، وهذا ما يسميه الإمام بفقه الميزان.
يرى القره داغي أن الكتاب إشارة إلى القوة النظرية، والميزان إلى القوة العملية، والحديد إلى دفع ما لا ينبغي، ولما كان أشرف الأقسام رعاية المصالح الروحانية، ثم رعاية المصالح الجسمانية، ثم الزجر عما لا ينبغي، روعي هذا الترتيب في هذه الآية.
ولذلك يحرص على إقامة الكتاب وفق الميزان العادل ما يتعلق بالخالق ما يتعلق بالمخلوق ما يتعلق بالدنيا ما يتعلق بالآخرة ما يتعلق بالمادة ما يتعلق بالروح ما يتعلق بالمعجزات ما يتعلق بالأسباب القضاء والقدر المسؤولية والعمل الإيمان وقدرة الله سُنن الله عالم المُشَاهَدة عالم الغيب الوحي والنقل العقل والحواس داخل الإنسان (روحه، نفسه، قلبه) خارجه (السلوك ، المظاهر)، الحرب السِلْم الصراعات الدفع بالتي هي أحسن المسلمون في مجتمعهم غير المسلمون بين غير المسلمين المجتمع غير المسلم الأقلية المسلمة دار الحرب دار الإسلام ودار العهد حالة التمكين والقوة حالة الاستضعاف الأمة، الجماعة، المجتمع الفرد المصالح المفاسد الأصالة التبعية الحقوق الواجبات البدعة الإبداع رية فقه الميزان.
ويرى الإمام القره داغي أنه لا تكتمل نظرية فقه الميزان بصورة متكاملة إلاّ إذا توافرت عناصرها الأساسية الخمسة، وهي:
- الوازن: المجتهد أو المفتي أو الباحث.
- الموزون: الشيء الذي يراد أن يوزن، ويُعرَف وزنه، وهو هنا الموضوعات، والأدلة والأحكام، والأنشطة ونحوها.
- الفهم العميق لميزان كل حكم أو تصرف أو لمجموعة من الأحكام والتصرفات المتناسقة.
- تحديد الميزان الخاص بها والتعامل معها من خلال ميزانها الخاص دون الخلط بين ميزان حكم أو تصرف آخر .
- الفهم العميق لأوزان كل حكم شرعي، أو تصرف من التصرفات من حيث القوة، والضعف، وبالتالي وضعها في كفتي الميزان، والفقه الدقيق بالموازنات، والتوازن.
والخلاصة أنّ أركانه خمسة إذا تحققت ترتب عليه التوازن، والفقه الموزون.
إنّ معرفة وزن شيء (رتبته) في غاية من الأهمية للدنيا والآخرة حتى يُقدّم ما يستحق التقديم، ويؤخر ما يستحق التأخير عند التزاحم والتكاثر، وهذا هو المقصود بالقاعدة الفقهية القاضية بضرورة اختيار ما هو الأنفع والأصلح والأطيب إذا تعارضت مصلحتان ، ودرء ما هو الأسوأ واختيار ما هو الأهون والأقل شراً وضرراً وخبثاً ومفسدة عند تعارض مفسدتين