الدوحة-الشرق:
أكد فضيلة الشيخ د. علي محيي الدين القرة داغي الامين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ان الشريعة الاسلامية جمعت بين الثوابت التي لا تقبل التغير (أي بمثابة الهيكل العظمي للإنسان )، والمتغيرات التي تشبه أحوال الإنسان العادية القابلة للتغير وبذلك انسجمت الشريعة التي أرسلها للإنسان مع الإنسان الذي نزلت عليه وقرر فضيلته ان الخلافات الفقهية والفكرية والسياسية ضرورية ما دام الاجتهاد مشروعاً، فتكون الخلافات الفقهية ناتجة من ذلك فهي تدور معه وجوداً وعدماً، لاختلاف العقول والتصورات والأعراف والتأثيرات الخارجية والداخلية.
جاء ذلك في بدء الدورة التي تنظم لأول مرة في الدوحة حول المعاملات المعاصرة والتي نظمتها كلية الدراسات الإسلامية بمؤسسة قطر بالتعاون مع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.. والتي شارك فيها عدد من طلاب العلم.
وقال فضيلته في بدء فعاليات الدورة التي تستمر عدة أسابيع إن الله تعالى أراد لرسوله محمد، صلى الله عليه وسلم، أن يكون خاتماً وختماً للأنبياء والمرسلين، ولدينه الإسلام أن يكون آخر الأديان ولشريعته الإسلامية أن تكون آخر الشرايع السماوية، ولذلك أعلن عن كمال هذا الدين وإتمامه وعدم حاجته إلى أية رسالة أخرى، وصلاحيته للبشرية جمعاء وشموليته لكل الأزمان والأماكن على مرّ الدهور والعصور والقرون فقال تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)، معلناً أنه بعد هذا الكمال والتمام قد أقيمت الحجة على العالمين في أن الله تعالى أنزل عليهم ديناً كاملاً يحقق لهم جميع مصالحهم الدنيوية والأخروية، ويجلب لهم سعادة الدنيا والآخرة، وراحة البدن وسكون النفس، واطمئنان القلب ورضاء الروح، ولذلك حصر الدين المقبول عنده في الإسلام فقال: (إن الدين عند الله الإسلام) وحذّر من اتباع دين غيره فقال تعالى: (ومَن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين).. وبالمقابل فإن الله تعالى كما جعل دينه خاتم الأديان والشرائع ولجميع الأمم والشعوب على الدهور والعصور فإنه ضمنه كل عناصر الخلود والصلاح والشمولية حتى يصبح ملبياً لجميع حاجات البشرية، ومستجيباً لكل ما يريدون من خير الدنيا والآخرة، ودافعاً للتطوير والتنمية والتقدم والبناء.
أسس وأركان
ومن هنا جاءت نصوص الشريعة مركزة في نصوصها القطعية على الأسس والأركان التي يبنى عليها هذا الدين، وتوضيح العقيدة الصحيحة، والقيم والأخلاق الراقية، وأسس المعاملات والتعامل مع الناس جميعاً تاركة التفاصيل في معظم الأشياء للأدلة الظنية، أو للاجتهادات الإنسانية في ظل المبادئ العامة والقواعد الكلية.. وبذلك جمعت الشريعة بين الثوابت التي لا تقبل التغير (أي بمثابة الهيكل العظمي للإنسان )، والمتغيرات التي تشبه أحوال الإنسان العادية القابلة للتغير وبذلك انسجمت الشريعة التي أرسلها للإنسان مع الإنسان الذي نزلت عليه: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ).
المتغيرات
وقال فضيلته أننا وجدنا أن دائرة القطعيات ليست واسعة، وإنما هي محصورة فيما ذكرناه، ويبقى فيما عدا ذلك مجالاً للاجتهادات التي من عادتها الاختلاف، لأنها من نتاج العقل البشري المستهدي بهدي الله تعالى والمسترشد بالمبادئ العامة والقواعد الكلية للإسلام ومقاصد الشريعة الغراء حتى أصبح تغير الفتاوى، والأحكام الاجتهادية عنواناً بارزاً في تشريعنا الإسلامي فنطاق المتغيرات في الفتاوى والأحكام الفقهية الظنية واسع جداً وهو يشمل كل الاجتهادات الفقهية السابقة،إضافة إلى منطقة العفو التي تقبل التغييرات بشكل واضح حسب الاجتهادات الفقهية. يقول إمام الحرمين: (إن معظم الشريعة صادرة عن الاجتهاد، ولا تفي النصوص بعشر معشارها). وذلك لأن الاجتهادات الفقهية السابقة لفقهائنا الكرام ما دامت ليست محل إجماع تقبل إعادة النظر، بل ينبغي إعادة النظر فيها وغربلتها بكل تقدير واحترام من خلال الاجتهاد الانتقائي، والترجيح فيما بينها للوصول إلى ما هو الراجح، ثم تنزيله على قضايا العصر بكل دقة ووضوح.. بل يمكن إعادة النظر في فهم هذه النصوص الظنية مرة أخرى على ضوء قواعد اللغة العربية وأصول الفقه، والسياق واللحاق وحينئذٍ يمكن الوصول إلى معان جديدة وأحكام جديدة لم ينتبه إليها السابقون، أو لم يخترها الجمهور، بل ذكرها قلة قليلة من السابقين.. وأما منطقة العفو فيكون الاجتهاد فيها اجتهاداً إنشائياً لا بد من توافر شروط الاجتهاد وضوابط من يتصدى له.
الخلاف المشروع
ويعتبر من ثوابت هذا الدين وقواطعه وجوب الاتحاد والوحدة والترابط بين المسلمين، وحرمة التفرق والتمزق فيما بينهم، فاتحاد الأمة فريضة شرعية يفرضها الدين الحنيف وضرورة واقعية يفرضها الواقع الذي نعيشه، حيث أصبحت بسبب تفرقها وتمزقها ضعيفة مهددة في وجودها وكيانها وسيادتها طمع فيها الطامعون، وغلب على معظمها المستعمرون والحاقدون، ولا سيما عالمنا اليوم الذي تكتلت فيه القوى وأصبح الإسلام الهدف الأساس لها.
اختلاف تنوع لا تضاد
بما أن الثوابت متفق عليها بين جميع المسلمين فإن اختلافهم إذا كان نابعاً عن الاجتهاد المنضبط فهو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، والاختلافات الفقهية الكثيرة داخل الفقه الإسلامي دليل على يُسر الشريعة وسعتها ومرونتها وعظمتها، لأنها استوعبتها نصوصها كل هذه الخلافات مرونة ورفع للحرج. بل الخلافات الفقهية والفكرية والسياسية ضرورية ما دام الاجتهاد مشروعاً، فتكون الخلافات الفقهية ناتجة من ذلك فهي تدور معه وجوداً وعدماً، لاختلاف العقول والتصورات والأعراف والتأثيرات الخارجية والداخلية. ومن هنا فالمسلمون عندما يكون لديهم هذا الوعي لا يؤدي الاختلاف إلى التباغض يقول ابن تيمية: (وأما الاختلاف في الأحكام فأكثر من أن ينضبط ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا إخوة) حتى وسع شيخ الإسلام الدائرة لتسع بعض الفرق أو الأشخاص الذين تصدر منهم أقوال خطرة ومع ذلك لا يجوز تكفير شخص معين منهم.