بقلم / د. علاء الدين ال رشي
أفرزت الثورة السورية وضعاً مأساوياً على الشعب السوري بأكمله حيث تشير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى أنّ “الأزمة السورية تعد إحدى أكبر الأزمات الإنسانية وأكثرها تعقيداً اليوم. وبالرغم من انحسار العمليات العسكرية إلى حد كبير في بعض المناطق، إلا أن عدد النازحين داخلياً بلغ 6.2 ملايين شخص فيما يبقى هناك 5.6 ملايين لاجئ في المنطقة حتى شهر سبتمبر/ أيلول 2018 في كل من مصر والعراق والأردن ولبنان وتركيا. لا تزال الاحتياجات الإنسانية في سورية هائلة من حيث الحجم والشدة والتعقيد، مع استمرار وجود مخاطر كبيرة على صعيد الحماية في عدد من المناطق. هناك حوالي 12.8 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية منهم 5.2 ملايين شخص بحاجة ماسة للدعم”.
إضافة إلى ذلك كله يعاني السوري المهجر فقدانه أي اعتراف به في أي بلد يرحل إليه دون وثائق ممهورة من بلده الأصلي موقعة بختم القاتل الطليق الذي فرّ منه السوري. إنها مفارقة عجيبة تقهر وتذل.كل تلك الأوضاع جعلت السوريين يعيشون في خلل أسري ونفسي وفكري وصحي واجتماعي واقتصادي وقومي ووطني. ولم يجد السوريون بلاداً تعمل على رعايتهم وفتح حدودها مثل أوروبا وتحديداً مثل ألمانيا.
إنّ المقولات السياسية العالمية الإعلامية المتعاطفة مع السوريين تكاد لا تعد ولا تحصى، ولكنها تترجم حالة نفاق سياسي عام، فكثير من البلاد المتعاطفة في الظاهر استثمرت مأساة السوريين في وجوه عديدة فسعت إلى تأميم العقل السوري والاستحواذ عليه وإلى هندسة تصور نفسي وسياسي واجتماعي وديمغرافي ملائم لتبرير سلوكياتها ووجودها العسكري، بل إن البعض وظف السوري المعتر الذي يبحث عن وطن يسكن فيه إلى بيدق مأمور وعسكري مأجور.
فتحت أوروبا أبوابها للسوريين، وتعاملت مع الفاجعة السورية وفق القانون، ولم تطلق شعارات كبيرة فلا مجال للمجاملات، ولا ننكر حدوث اختراقات هنا وهناك، لكن القانون هو الذي يحكم.
ترجم التعامل الأوروبي مع السوريين مشروع العلمانية والديمقراطية وبناء علاقات مجتمعية مع الوافدين قائمة على حق اللاجئ الأخلاقي في أن يعيش بأمان، وإنقاذ حقه السياسي في أن يعبّر عن رأيه وصولاً إلى انتخابات محلية، وكذلك كل حقوقه في مناحي الحياة الصحية والاجتماعية والقانونية، بعد أن عانى السوري من الاضطهاد وكاد أن يلفظ أنفاسه وهو في طريقه إلى منفاه..
أعيش كسوري دمشقي كردي مسلم سني في ألمانيا منذ قرابة عقد من الزمن، لم أتعرض لأي مضايقة أو حجر ونظمت ندوات كبيرة للتعارف بين السني والعلوي وبين المسلم والإيزيدي وكذلك قمت بدورات تدريبية لحقوق الإنسان وافتتحت دار نشر ومركزاً تعليمياً لحقوق الإنسان ورخصت جمعية وافتتحت مسجداً كل ذلك لم يكن ليحصل لي في سورية إلا أن القانون في ألماينا يحفظ حقي ويبين الحق والواجب الذي عليّ.
لقد تشكلت حياتي هنا على مستجدات لم أتصور أن أعيشها، وكان لا بد من مدافعة الحياة الجديدة بالعقل والاندماج الإيجابي.
وبعد عمل خاص بي انخرط أبنائي في بناء هذا المجتمع الذي يعيشون في ظلاله، ويأكلون من خيراته، ويعملون من أجله وفق مكانة كل واحد منهم وقدرته، فمنهم من باشر الدراسة في الهندسة، ومنهم من هو على أعتاب الجامعة، ومنهم من هو في مرحلة التأهيل المهني، ومنهم من هو على أبواب الدراسة الإعدادية، وحتى حفيدتي تستعد للدخول إلى الحضانة.
وفي جانب آخر لم تطالبنا ألمانيا بمغادرة قوميتنا، أو مخاصمة ديانتنا، ولا الإعلان الحربي على أصولنا، ولا أن نكون من المرتزقة الذين يتم توظيفهم في قتال هنا وهناك. بل سمحت حكومة ألمانيا بالعيش على أراضيها بعد أن هاجرنا إليها في أن نلتزم حالة المواطنة والمواطن الذي ينعم بالحياة الكريمة، وحرية التعبير، والمحافظة على كل معالم أصولنا إلا من أبى فأصر أن ينماث أو ينكمش.
لا تكمن قيمة الدولة أي دولة إلا في حماية توفرها للجماعة أو للجماعات التي تعيش في كنفها.
الدولة هي الممثل الضروري للدفاع ضد الهجوم العسكري وضد الكارثة الطبيعية وضد المجاعة والمرض وضد الفقر والصدمات النفسية عند المسنين. كل هذا مهم جداً ومن ثم فإن نوعاً ما من الوطنية مشروع وصحيح وهو الولاء للدولة باعتبارها دفاعنا المشترك ومشاركتنا في سياستها.
هذا يقودنا إلى السؤال التالي: ما الذي يعطي ألمانيا حق الولاء؟ أي ما هو الدافع الخفي وراء الانتماء إلى ألمانيا؟
لما كان من غير الممكن فصل الإنسان عن بيئته والظروف التي تحيط به فإن نفسية الإنسان السوي تميل إلى تبجيل وتقدير الموطن الذي يرعاه وليس الوطن الذي ولد فيه، الكثير من الناس يهجرون بلادهم بحثاً عن لقمة عيش وكرامة أليس كذلك؟ ويزداد ولاء الفرد إلى مجتمعه كلما تحققت ذاته وشعر بقوة الأمان وليس ببطش الأمن. وإذا قامت الدولة على رعاية مصالح من يقطن فيها فإنه يتوجب، وبحكم علم الاجتماع والخلق البشري وبفرض الشريعة وبإلزام القانون، على الموطن استجابة معقولة من الرعايا لقوانين تلك البلاد..
لا يشذ الدين عن ذلك فوطن المسلم كرامته وكرامته في حريته وحريته في ديانته وكل من يعمق الكرامة والدين فهو وطن ينبغي أن يدافع عنه.
“إن مقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم… فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة. وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة.. وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها يستحيل ألا تشتمل عليها ملة من الملل وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق.” المستصفى للغزالي 1/287.
لم نشعر بحرية وكرامة في غير هذه البلاد (ألمانيا) التي آوت وزوجت واستقدمت الأسر من الموطن الأصلي كي تجمع الشمل بين الآباء والأبناء والأزواج. فهل يلزم الدين المسلم إلا بحمايتها والدفاع عنها؟ إن شعب الإيمان المعاصرة يتوجب فهمها على نحو جديد.
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “المسلم من سلم الناس من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم”
إن رسول الله ﷺ قال: الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان” متفق عليه.
أعمال الإيمان تتفاضل وتتفاوت؛ ولهذا فإن الله -تبارك وتعالى- يقول: “وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحبَّ إليّ مما افترضته عليه”، فالفرائض أفضل من النوافل، كما أن الفرائض تتفاوت، وكذلك أيضاً النوافل تتفاوت، فالأعمال الصالحة منها ما هو عظيم جليل كبير كالحفاظ على السلم الأهلي والأمان المجتمعي.
ويروى الإمام أحمد في (المسند:ج2ص224ر7086) ثنا محمد بن عبيد ثنا زكريا عن عامر سمعت عبد الله بن عمرو سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: “المسلم من سلم الناس من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه”.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “المسلم من سلم الناس من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم”.
فالالتزام بالقانون وحرمانية الدم والمساس بالآمنين والتأكيد على حرية المعتقد واحترام الخصوصية يعد من أعلى وأغلى شعب الإيمان ومنها ما هو دون ذلك كإماطة الأذى عن الطريق، وهذا يعني وبلغة عصرنا واجب محاصرة الشرور في الطرقات إلى الحياة الآمنة، فكل ثقافة تعمق أذى الناس وتعيق طريق الحياة الآمنة ينبغي أن تتم إزالتها، وكل ثقافة هوجاء لا بد من محاصرتها.
عن أَبي هُريرةَ رضي اللَّه عنه، أَن رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال: “أَتَدْرُون ما الْمُفْلِسُ؟ “قالُوا: الْمُفْلسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ. فَقَالَ: “إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقيامةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وزَكَاةٍ، ويأْتِي وقَدْ شَتَمَ هَذَا، وقذَف هذَا وَأَكَلَ مالَ هَذَا، وسفَكَ دَم هذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فيُعْطَى هذَا مِنْ حسَنَاتِهِ، وهَذا مِن حسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَناتُه قَبْلَ أَنْ يقْضِيَ مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرحَتْ علَيْه، ثُمَّ طُرِح في النَّارِ” رواه مُسلم.
إن من وجوه الإفلاس الأخلاقي مخالفة القوانين حتى لو مس الأمر معتقداً دينياً ولذلك علا صوت العقلاء في تحريم وتجريم فعلة الشاب الذي ذبح معلمه. يقول الإمام علي القره داغي: لا يجوز لأي شخص يعيش في الغرب أن يقدم على قتل إنسان آخر لعدة أسباب وأدلة شرعية.
الدليل الأول: ضرورة الالتزام بالعهود والمواثيق.
وأهم دليل من الناحية الشرعية، هو أن من دخل هذه البلاد حسب العهود والمواثيق يجب عليه الالتزام بهذه العهود والقضايا القانونية، فإذا كان عنده مشكلة أو عليه اعتداء، فعليه اللجوء إلى القضاء حسب القوانين سواء أنصف أو لم ينصف، هذا أمر آخر.
الدليل الثاني: الحدود والعقوبات وخصوصية الجغرافيا:
يقول الإمام القره داغي: “في فقه الميزان هناك للأقلية المسلمة التي تعيش في ظل دولة غير إسلامية أكثرية، هذه الأقلية لها ميزان يختلف عن ميزان الدولة المسلمة التي معظم شعبها أو كله مسلمون”، هناك حدود وعقوبات إسلامية، هذا ممكن أن تطبق في بلاد الإسلام ومع ذلك أجمع الفقهاء قاطبة على أن: الحدود من صلاحية الدولة. حتى داخل الدولة الإسلامية لا يجوز لجماعة أن تنصب نفسها أو لمجموعة أو لشخص ويقوم بقتل فلان لأنه مرتد أو أنه يقتل فلان لأنه زنى أو … أو … هذا غير جائز بالاتفاق.
الدليل الثالث: من لم يدخل في الإسلام، لا تسمى تصرفاته الكفرية ردة وبالتالي هو كافر أصلي غير مؤمن، بالتالي كما يقول جمهور العلماء الكافر غير مكلف بالفروع.
ما ورد في حديث – فيه ضعف- أنه يهوديٌ، قتل شخصاً يهودياً، وفي رواية أخرى في موضوع آخر أن شخصاً أعمى قتل زوجته لأنها شتمت الرسول صلى الله عليه وسلم. هذا كله في ميزان الحرب وداخل الدولة الإسلامية وفي ميزان الحرب، أما في ميزان السلم فلا بد من القضاء، حتى في بلاد الإسلام وفي غير بلاد الإسلام، يجب علينا الصبر.
ثم يبين الإمام علي القره داغي واجب المسلم في الغرب فيلخص ذلك بقوله: “لا يجوز أبداً بأي صورة من الصور أن يقدم شخص على قتل شخص غير مسلم لأنه فعل كذا وكذا، عليه بإدانته، عليه بنصحه، عليه بإرجاع الأمر إلى المسؤولين الكبار، إلى القضاء”.
إن من شعب الإيمان المعاصرة أن يتعلم المسلمون أن ألمانيا وكل بلد آخر يكون الولاء له والبراء من أعدائه فلو تعرضت ألمانيا أو أي بلد آخر إلى هجوم من عدو أو متطرف فإننا سنقف ونقاتل إلى جانب بلدنا ألمانيا، قال رسُول اللَّهِ ﷺ يقولُ: منْ قُتِل دُونَ مالِهِ فهُو شَهيدٌ، ومنْ قُتلَ دُونَ دمِهِ فهُو شهيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ دِينِهِ فَهو شهيدٌ، ومنْ قُتِل دُونَ أهْلِهِ فهُو شهيدٌ. رواه أَبو داود، والترمذي وَقالَ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
إننا كما نكره ونحارب الإسلاموفوبيا فإننا لن نهادن أي شيزوفرنيا يعاني منها المسلم فيعيش في بلد دون أن يشعر أنه جزء منه. الدين لا يبيح لك إلا أن تكون ضمن شبكة مجتمعية في العلن تدافع عن مجتمعك ومصالحك ضد الجريمة المنظمة وضد التنظيمات السرية وتبطل مفعول أي مخطط يريد أن يمتطي ظهرك. المؤمن فطن وليس بالطعان وليس باللعان ودينه ليس دين السكاكين ولا الرصاص ولا الديناميت…