إن سورة يوسف ( عليه السلام ) تتضمن قصته التي وصفها الله تعالى بأنها أحسن القصص ، أي قمة القصص في الحسن والجمال ، وفي الشمول والجلال ، فليست هناك قصة كاملة مفصلة في سورة واحدة مثل قصة يوسف في سورة يوسف ( عليه السلام ) ، وبالتالي فالسورة لها طابعها المتميز .
العبر والحكم
فهي قصة عِبْرية تتضمن من العبر والحكم ، والأحكام والقيم ، والمبادئ والأصول والشيم ما لا تتضمنه أي قصة أخرى من القصص والأحاديث والسير المتعلقة بالبشر .
فهي قصة صيغت بأسلوب عربي معجز مبين يجمع بين العواطف الجياشة ، والمشاعر المثيرة ، والأفراح والأتراح والمآسي والخيال الواسع ، وبين الحقائق والوقائع ، كما أنها تجمع بين بدايات محزنة ومحن شديدة ونهايات مفرحة ومنح عظيمة .
فهي قصة تجمع ضمن مكوناتها المجتمع كله ، الرجال ، والنساء ، الحكام والمحكومين ، السادة والعبيد ، والأب ، والابن والإخوة ، والسجان والمسجونين ، والعلماء والمستفتين ، وأصحاب الأحكام والرؤى والمفسرين ، كما أنها قصة تجمع بين الظلم والاعتساف ، والعدل والإنصاف ، وبين الرحمة والقسوة واللين والشدة والعذاب ..
إنها قصة غريبة يعجز الإنسان إكمال أوصافها ، ولكنها تكفي أن الله تعالى وصفها بأنها " أحسن القصص " ولذلك نسعى جاهدين أن نستفيد مما سطره علماؤنا السابقون ، ومما نستنبطه حسب ما يوفقنا الله تعالى إليه في ضوء ما يأتي :
أولاً : تبشير الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه يُفرّج كُربه كما فرّجت كربة يوسف عليه السلام:
السورة مكية نزلت في عام الحزن أي في فترة حرجة ، وبالتالي ففيها دلالة واضحة على أن الله تعالى يفرج عن حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم بالنصر والعزة والخير والبركة كما فرَّج عن نبيه يوسف ( عليه السلام).
فإذا كان الله تعالى حوَّل محنة يوسف إلى منحة ربانية ، وجعل كل ما أصابه من المصائب أسباباً لنصره وتمكينه من أرض مصر ، فهذه بشارة لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأنه يحول كل ما أصابه إلى نصر وتمكين ، بل إن هذا أقرب وأكثر تأكداً ، فقد كان نصر الله ليوسف ( عليه السلام ) لإخلاصه وتقواه وكونه مظلوماً في حين أن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالإضافة إلى ذلك يريد نشر دينه في الأرض جميعاً وأن ما أصابه كان بسبب ذلك ، وبالتالي فالنصر منه أقرب وآكد .
ففي قصة يوسف ( عليه السلام ) آيات بينات ودلائل واضحات لتثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من الآل والصحب الكرام ، حيث عانى يوسف صنوفاً من المحن والابتلاءات ، محنة كيد الإخوة ، ومحنة الجب ، وظلمات البئر والخوف ، ومحنة الرق حيث أصبح سلعة يُباع ويُشترى دون أي اعتبار لكرامته وكونه الكريم ابن الكريم ابن الكريم ، ومحنة امرأة العزيز من ابتلائه بالإغراء والشهوة ، والفتنة ، ومحنة السجن .. ثم ينجيه الله تعالى ويمكنه من أرض مصر ، ويصبح عزيزها ووزيرها وصاحب السلطة فيها ، ويجمعه بأبيه وإخوانه …
كل ذلك تثبيت واضح لقلب الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتسلية وتطمين لنفسه ولنفوس المؤمنين حتى تزداد اطمئناناً لترجع إلى ربها راضية مرضية .
المحنة والمنحة
ثانياً : الربط بين المحنة والمِنحة والابتلاء والتمكين:
إن السورة تبين أن المنح الإلهية ، والتمكين الرباني ، والفيوضات العظيمة مرتبطة بسنة الابتلاء ، وأن بدايتها تنطلق مع أوائل المحن ، فحينما تمكن إخوة يوسف من تنفيذ مؤامرتهم بإلقائه في الجب نزل الوحي على يوسف بالبشرى بالتمكين فقال تعالى : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) فجاءت البشرى ويوسف في حالة شديدة حيث كان لا يزال في غياهب البئر ، ولم يخرج منه .
فتلك سنة الله تعالى في التمكين أكد عليها القرآن الكريم في آيات كثيرة منها (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) وتتداخل مع هذه السنة سنة تمييز الخبيث من الطيب فقال تعالى : ( الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ).