صحيفة العرب العطرية
سد الذرائع من حيث القوة لها عدة مراتب نوجزها فيما يلي:
1. الذريعة التي وجد نص على حرمتها مثل الخلوة ومقدمات الزنا، فهذه لا خلاف في حرمتها، ووجوب سدها.

2. الوسائل التي قد تفضي إلى المفسدة على وجه القطع, مثل أن يأتي شخص في وقت الفتنة وهو من أهل الفتنة ويريد أن يشتري السلاح للخوض في هذه الفتنة، أو لقتل شخص مظلوم، وصرح هو بذلك، أو دلت القرائن والظروف المحيطة به بما لا يدع مجالاً للشك على تنفيذ هذه المفسدة، فهذه محرمة بالاتفاق، وألحق بها البعض حالة الظن الراجح.

3. الوسائل التي تفضي إلى المفسدة نادراً، وهذه متفق على عدم منعها، مثل زراعة العنب خشية اتخاذ الخمر منه، فهذا لا يمنع، لأن في زرعه نفعاً كثيراً فلا يترك لهذا الاحتمال، ومن ذلك تسيير البواخر والطائرات فلا يمنع خوفاً من الغرق والسقوط.

4. الوسائل المترددة بين أن تكون ذريعة إلى مفسدة وبين ألا تكون، وهذه موضع خلاف، مثل بيع العينة الذي منعه الجمهور وصححه الشافعية.

5. لا يجوز تخصيص النصوص، أو تعيينها تحت اسم «سد الذرائع» وذلك مثل القول بمنع النساء عن الذهاب إلى المساجد بحجة سد ذريعة الفساد، فهذا القول فاسد وباطل، لأنه مخالف للنصوص الكثيرة الدالة على جواز ذلك.

6. لا ينبغي التوسع في دائرة سد الذرائع, وإنما يجب تقييدها بما يفضي إلى محرم على سبيل الحقيقة، وليس الشك أو الوهم.

الاستصحاب

هو الحكم ببقاء حكم في الزمن الحاضر بناءً على ثبوته في الزمن الماضي، ولم يظهر دليل على نسخه وإلغائه، وهو على أنواع:

النوع الأول: استصحاب البراءة الأصلية قبل الشرع، والمقصود بذلك براءة ذمة الإنسان من التكاليف والحقوق قبل نزول الشرع، حيث لا تكليف إلا بالشرع، وهو مذهب أهل السنة والجماعة.

وهذا النوع سماه جماعة من الأصوليين: استصحاب العدم الأصلي، وهو الذي عرف بالعقل انتفاؤه وأن العدم الأصلي باق على حاله، فلما لم يرد السمع بذلك حكم العقل بانتفائه، ودل على هذا الحكم الشرع, حيث يقول الله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) وله تطبيقات كثيرة حتى بعد نزول الشرع، حيث يحتج به في عدم التكليف والالتزام إلا بدليل.

النوع الثاني: استصحاب الحكم الأصلي -وهو الإباحة- للأشياء بعد نزول الشرع، عند عدم وجود دليل على خلافه، لأن الأصل في الأشياء الإباحة لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) وقوله تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

ومن المعلوم أن مقتضى التسخير التمكين والإباحة، وعلى ضوء هذا النوع المعتبر عند جمهور الفقهاء يستطيع المجتهد، أو المفتي أن يحكم بإباحة كل ما ليس عليه دليل شرعي معتبر على حرمته، وبالتالي فالذي يدعي الحرمة هو الذي عليه الإثبات، وبهذا يفتح باب كبير لاستيعاب جميع المستجدات في العادات والمعاملات والاقتصاد والطب وغير ذلك من خلال هذا الأصل، ثم إقامة الدليل على حرمة ما يعتبر حراماً خروجاً من هذا الأصل العام.

النوع الثالث: استصحاب حكم دل الشرع على ثبوته ودوامه لوجود سببه، كالملك عند حصول السبب، وشغل الذمة عن قرض أو إتلاف، فهذا -وإن لم يكن حكماً أصلياً- فهو حكم دل الشرع على ثبوته ودوامه جميعاً، وهذا معضد بالقاعدة المعروفة وهي: (اليقين لا يزول بالشك)، ولذلك فهذا النوع أيضاً محل اتفاق على العمل به عند جمهور الفقهاء.

النوع الرابع: استصحاب حكم الشرع السابق الذي يظن المجتهد بقاءه، وهو الذي وقع الخلاف فيه بين العلماء على ثلاثة آراء:

الرأي الأول: أنه حجة مطلقاً في النفي والإثبات، وهذا رأي الشافعية، وجماعة من الحنفية والحنابلة والمالكية.

الرأي الثاني: أنه ليس بدليل مطلقاً لا في النفي ولا في الإثبات، وهو مذهب أكثر الحنفية، وبعض الشافعية، والمتكلمين.

الرأي الثالث: أنه حجة للدفع -أي للنفي- ولا في الإثبات، وبه قال جماعة من الحنفية.

والاستصحاب بلا شك يستفيد منه الفقيه في المستجدات إضافة إلى أنه يقرر مبادئ عظيمة سبق بها القوانين الوضعية مثل قاعدة «لا عقوبة إلا بنص» وقاعدة «المتهم بريء حتى تثبت إدانته» ونحوها من القواعد التي يتباهى بها أهل القوانين، في حين أن الفقه الإسلامي قد أقر مجموعة من القواعد بسبب الاستصحاب تعتبر أكثر رسوخاً وعموماً، مثل قاعدة «لا تكليف ولا التزام إلا بنص» وقاعدة «الأصل براءة الذمة» وقاعدة «اليقين لا يزول بشك» وقاعدة «الأصل العدم».