إن الشريعة الإسلامية الغراء قد أوجبت في المعاملات المالية مجموعة من المبادئ العامة ، والقيم العقدية ، والأخلاقية ، والآداب الشرعية لتسير المعاملات على ضوء نور الحق وليقوم العقل البشري بدوره الاجتهادي في ظل هذه الأنوار الكاشفة التي تضيء له الطريق فيسير على هدى وبصيرة ، وبذلك جمع الفكر الإسلامي بين الثوابت الواردة بالوحي التي تحمي المجتمع من الانحراف ، وبين ابتكارات العقل البشري واجتهاداته وإبداعاته التي تعطيه التطور والنمو والازدهار .
وقد جرت سنة الله تعالى ووقعت مشيئته وإرادته على أن تكون النصوص في مجال المعاملات قليلة لتترك مجالاً أوسع للعقل البشري ليصول ويحول في مساحة كبيرة بالاجتهاد ، ولكن هذه النصوص تتكفل بوضع الأسس والمبادئ العامة ، والخوض في بعض التفاصيل المهمة التي تحتاج إليها هذه المبادئ ، وكذلك ربطت الشريعة بين المعاملات وعقودها وبين المقاصد التي تريد تحقيقها لصلاح البشرية جمعاء ، وهي :
1- تحقيق مبدأ الميزان ، أو ميزان العدل في العقود من حيث توزيع الحقوق والواجبات الخاصة بكل عقد على طرفيه فقد بنى الله تعالى العقود على أساس الميزان كما بنى كونه على الميزان ، فقال تعالى في الكون : (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ) وبالنسبة لكتابه أو كتبه التي أنزلها : (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) .
وعلى ضوء ذلك فإن الشريعة وضعت لكل عقد ميزاناً له كفتان متعادلتان ، فوزعت الحقوق والواجبات ، والايجابيات والسلبيات على هاتين الكفتين بدقة متناهية ، فمثلاً في عقد القرض : وضع في كفة المقرض : أن ماله مضمون له بمجرد القبض ، فهذه ايجابية ، أو حق في مقابل أنه ليس له الحق أن يأخذ من المقترض أي زيادة ، ، وأما كفة المقترض : فوضع له ايجابية تتمثل في أنه ليس عليه زيادة ، وأنه لو استثمر هذا القرض فإن أرباحه له فقط في مقابل أن القرض مضمون عليه في جميع الحالات .
وأما في عقد المضاربة : فقد وزعت الحقوق والواجبات أو الايجابيات والسلبيات كالآتي : في كفة رب المال ايجابية ، وهي المشاركة في الربح حسب النسبة المتفق عليها في مقابل سلبية تتمثل في أن المال ليس مضموناً على المضارب إلاّ في حالات التعدي أو التقصير ، أو مخالفة الشروط .
وأما كفة المضارب ففيها ايجابية تتمثل في ان المال ليس مضموناً عليه ـ كما سبق ـ في مقابل أنه يعطي نسبة من الأرباح التي تحققت لرب المال وحسب الاتفاق .
وأما الربا فقد اختلت فيه كفتا ميزان ، حيث تجمعت الايجابيات والحقوق في كفة المرابي المقرض ، حيث إن ماله مضمون ، وأن له فائدة مضمونة أيضاً دون أن يتحمل أية مخاطر ، أو عمل ، أو مصاريف ، وبالمقابل فإن المقترض قد جمعت في كفته كل السلبيات ، فالمال عليه مضمون ، وأن الفائدة ( الزيادة ) أيضاً مضمونة ، وأنه وحده يتحمل جميع الأعباء الأخرى من العمل والمصاريف فيما لو استثمر المال إضافة إلى أنه وحده يتحمل الخسائر فيما لو تحققت الخسارة وهكذا … .
ومع أن المقترض مظلوم في الظاهر ، لكنه ظالم أيضاً لأنه ساهم مساهمة فعالة في الاخلال بميزان الشريعة في العقود ، ولذلك ناله مع المرابي لعنة الله تعالى حيث قال ابن مسعود : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه ) .
2- الحفاظ على شرعية آثار العقود ، أو ماسماه الفقهاء : ( جعلية الآثار ) ، والمقصود : أن الشريعة جعلت لكل عقد آثاره الخاصة به فلا يجوز للعاقدين التحكم فيها ، أو تغييرها ، فمثلاً فإن من آثار عقد البيع : نقل الملكية ، وعقد الإجارة : حق المنفعة ، والانتفاع بالعين المستأجرة ، وهكذا بالنسبة لبقية العقود ، ومن هنا فلا يجوز للعاقدين الاتفاق على ما يخالف هذا الأثر الشرعي للعقد ، بل يكون مثل هذا الاشتراط باطلاً بالاتفاق ، ومبطلاً للعقد كذلك ، وهذا الشرط يسمى لدى الفقهاء : الشرط المخالف لمقتضى العقد .
وفي هذا حماية حقيقة للعاقدين في عدم التلاعب بالعقود وآثارها الأساسية حسبما يريدان .
نعم إن للعاقدين الحرية في إنشاء العقد ، وفي كيفية التعبير عنه ، وفي عدم التقييد بأي شكل من الشكليات السائدة في القوانين القديمة وفي اشتراط الشروط إلاّ ما خالف نصاً ثابتاً ومقتضى العقد ، ولكن هذه الحرية تقيد بأن لا تصل إلى العبث بالعقود وشروطها كيفما يشاء ، كما حدث في النظام الرأسمالي ، وبخاصة في مجال البورصات والمشتقات والاختيارات ” الأوبشن ” ، وخلق الائتمان ، والنقود ، والمستقبليات ” فيوتشرز ” ـ .
3- توجيه الاقتصاد إلى كل ما فيه التعمير والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والنهوض بالمجتمع ، ونمو الاقتاصد الحقيقي في مجال الصناعة ، والزراعة ، نحو التجارة الحقيقية في الأعيان ، والمنافع ، والحقوق والخدمات ، إذ أن هذه المجالات هي التي ينتفع بها أعداد كبيرة متنوعة ، فمثلاً إنشاء مصنع وإدارته يتطلب عدداً من العمال ، والفنيين ، والإداريين لصناعة المصنع نفسه ، وأجزائه ، ثم إنه يحتاج إلى عدد كبير آخر لتشغيله ، وإدارته ، ثم إنه بعد التشغيل يتطلب عدداً آخر لتسويق منتجاته وبيعها ونقلها … وهكذا ..
وكذلك الزراعة وإن كانت بصورة أقل من السابق ، وكذلك التجارة وإن كانت بصورة أقل من سابقيه .
ولذلك خففت الشريعة الزكاة على المصانع ، فلم توجب عليها الزكاة إلاّ في دخلها بنسبة 2.5% ، وكذلك الزراعة حيث أعفت رأس المال المنتج ( الأرض ، والأشجار ) من الزكاة ، وراعت التكاليف والمصاريف فأوجبت فيما يسقى بماء السماء العشر 10% ، وفي غيره مما يدخل فيه العمل والتكاليف نصف العشر 5% .
وأما التجارة فأوجبت الشربعة الزكاة في جميع الأموال : رأس المال المستثمر المعد للبيع ، وأرباحه معاً .
وهذا أكبر دليل ظاهر على أن الشارع الحكيم يتشوف إلى توجيه الاقتصاد نحو التعمير الذي طلبه من الإنسان وجعله أحد المقاصد العامة في خلق الإنسان وإنزاله في الأرض خليفة .
ولذلك حظرت الشريعة التجارة في الديون بالديون مطلقاً ، وحرمت بيعها إلاّ بالأعيان ، وكذلك منعت التجارة في النقود بالأجل بالزيادة ( الفائدة ) لما ذكرناه ، ولأنها لا يستفيد من الجارة بها إلاّ المرابي ، فليست سلعة مصنوعة اشترك في صناعتها الأعداء الكبيرة ، ولا منتجاً زراعياً ـ كما سبق ـ ، ولا سلعة يستفاد منها بذاتها ، وهكذا ، ومن هنا يأتي الإعجاز القرآني بتسمية الربا محقاً (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) كما شهدناه الآن في الأزمة المالية العالمية .
فلم تجز الشريعة بيع النقد بنقد مثله إلاّ سواء بسواء ويداً بيد ( القبض الحقيقي أو ما ينوب عنه ) وبغير مثله إلاّ يداً بيد ، وفي ذلك تضييق واضح على التجارة في العملات .
ويمكن أننا اليوم في ظل الأزمة المالية الاقتصادية العالمية لا نحتاج إلى دليل على أهمية هذا المقصد الشرعي ، حيث إنه لو كان الاقتصاد العالمي معتمداً على ذلك لما أصابه ما أصابه من هذا الاعصار الجارف .
4- توجيه التجارة ودفعها إلى التجارة في الأصول والموجودات الحقيقية ( الأعيان والمنافع ، والخدمات والحقوق المالية الثابتة ) بعيدة عن الحقوق التي ليست لها أصول ، وإنما هي مجرد اختيارات ( أوبشنز ) أو المقامرات والمضاربات الواردة في البورصة على الصعود أو النزول .. .
وتذكر التقارير أن حجم المعاملات اليومية في العالم في البورصات ، وفي الأسهم والسندات والمشتقات والاختيارات ، وفي العملات بطريقة الهامش ( مارجن ) ونحوها يصل إلى حوالي 660 تريليون وأن نسبة 5% منها ترد على الأصول الحقيقة .
ولذلك انهار الاقتصاد العالمي ، أو أصابه ما أصابه بسبب هزة في أمريكا .
ومن هنا ندرك عظمة الأحاديث النبوية الواردة في هذا المجال ، حيث منعت : بيع ما لا يملكه الإنسان ، فقال صلى الله عليه وسلم ( لا تبع ما ليس عندك ) ، ومنعت : ربح ما لا يضمن ، حيث نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن .
وكذلك منعت : البيع للمبيع إلاّ بعد قبضه ( قبضاً حقيقياً أو حكمياً ) حيث روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه ، قال : لا أحسب كل شيء إلاّ مثله .
فهذه التوجيهات واضحة جداً في أن مقاصد الشريعة تكمن في توجيه المسلمين إلى الاقتصاد الحقيقي : اقتصاد الأصول ، وليس اقتصاد الديون والأوهام
5- تحمل العقادين المسؤولية من خلال تفعيل قاعدة ( الغنم بالغرم ) المستمدة من الحديث الصحيح الوارد بلفظ ( الخراج بالضمان ) .
وهي قاعدة في جوهرها ومقصدها ومآلاتها تدل على ضرورة أن يتحمل كل عاقد مسؤوليته عن العقد ، وأن لا يلقي بكل المسؤولية على الطرف الثاني .
6- توجيه الناس إلى توسيع دائرة المشاركات بجميع أنواعها من خلال تدخل الشريعة لحماية الشريك ، أو المضارب عن تحمل الخسارة ما دامت لم تكن ناتجة عن تعديه ، أو تقصيره .
فهذه الحماية تعطي جرأة بضوابطها نحو الدخول في الاستثمارات الكبرى والصغرى والوسطى ، والمشروعات الصناعية والزراعية والتجارية المتنوعة ، إذ أن الشريك المدير أو المضارب بعد التوكل على الله تعالى ، ثم الأخذ بالأسباب ودراسات الجدوى لا يخاف من تحميله الخسائر لو حدثت دون تعديه ، أو إهماله .
7- البيان والشفافية ، ومنع الغرر والجهالة والمقامرة ، فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر ، وأوجب البيان وحرم الغش والخيانة والمقامرة .
فهذا المقاصد السبعة هي التي تقف وراء الشروط والضوابط التي يظهر في بداية الأمر أنها تتسم بالصعوبة أو التشدد ، ولكنها في الحقيقة هي موجهات للاقتصاد الإسلامي ليسير نحو التنمية والرخاء ولمنع الأزمات الاقتصادية المدمرة ، وهي في حقيقتها وجوهرها حماية للاقتصاد والنظام المالي من الانهيار والاعصار .
والله الموفق وهو أعلم بالصواب
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم