إن المراد بوسائل إعمار أعيان الأوقاف: العقود والأدوات المالية المناسبة لإعمار الوقف بحيث تتوافر فيها الشروط المطلوبة سواء كانت مستعملة في الوقف سابقاً ، أو جديدة مثلا نظام (B.O.T) .
حكم إعمار الوقف :
الأحكام الخمسة التكليفية حسبما هو مفصل في البحث ، ولكن الأصل العام هو أنه أمر مطلوب شرعاً .
الأسس الشرعية في حساب نفقات الإعمار من الريع :
لا شك أن هذه المسألة تحتاج إلى شيء من التفصيل ، وهو :
(1) أن الواقف إذا كان قد خصص جزءاً من الريع للإعمار ـ وهو يكفي ـ فإن الإعمار يكون منه حسب شرط الواقف ، وتحقيق المصلحة أيضاً .
وأما إذا كان ما خصصه الواقف لا يكفي فهنا ننظر إلى مدى ضرورة الإعمار فإن كان ضرورياً فيتم تحصيل الباقي من أي جهة ممكنة حسب التفصيل المذكور للحالات التي سنفصلها في الفقرة اللاحقة .
(2) أما إذا كان الواقف لم يخصص ذلك فنكون أمام الحالات الآتية :
أ ـ أن يكون الواقف قد أطلق كيفية الصرف ، وحينئذ فالأولى للناظر أن يقسم الريع على ثلاثة أقسام : قسم يصرف على الجهة الموقوف عليها ، وقسم يخصص للصيانة والتعمير ، وقسم يعاد للاستثمار ، أو التطوير.
ففي هذه الحالة عندما توجد ضرورة أو حاجة للإعمار فإن مصاريفه تنفق من الثلثين الأخيرين .
ب ـ أن يكون الواقف عين الريع كله للصرف ، ففي هذه الحالة وحالات عدم توافر الريع الكافي للإعمار فإن الإعمار إن كان ضرورياً ، أو محتاجاً إليه فإن على الناظر أن يسعى جاهداً لتوفير المال اللازم له عن طريق القرض الحسن إن أمكن ذلك ، وإلاّ فعن طريق التمويل بأي وسيلة مشروعة
وإن لم يستطع الحصول على التمويل مع بذل كل المجهود فإنه بإمكانه بيع جزء من الوقف لإعمار الجزء الآخر حتى لا يتضرر الكل تنفيذاً للقاعدة الأساسية القاضية بتحمل الضرر الأدنى لدرء الضرر الأكبر ، والتضحية بمصلحة جزئية أو صغيرة لتحقيق مصلحة كلية ، أو كبرى1 .
تكوين مخصصات للإعمار والإهلاك2 :
وقد نصّ الفقهاء على إعطاء الأولوية من ريع الوقف لإصلاحه وتعميره وترميمه وصيانته بما يحافظ على قدرته على الانتفاع به ، حيث يوجه الريع الناتج من الوقف إلى إصلاحه أولاً ثم إلى المستحقين ، حتى أن الفقهاء قد نصوا على أنه إذا شرط الواقف أن يصرف الريع إلى المستحقين دون النظر إلى التعمير فإن هذا الشرط باطل .
وبناء على هذا الواجب وتحقيقه فإن على الناظر ، أو المتولى ، أو إدارة الوقف تكوين مخصصات للإعمار والاستهلاك ـ بالنسبة للعقارات المبنية ـ من الريع والدخل المتحقق سنوياً ، وأن يستثمر كذلك استثماراً في مؤسسات مالية إسلامية متخصصة ( مأمونة ) .
ومما لا شك فيه أن قيام الناظر ( إدارة الوقف ) بتخصيص نسبة من الريع للاهلاك أمر مشروع ، بل مطلوب.
نفقات صيانة إعمار الوقف :
فإذا كان الواقف قد خصص لصيانة الموقوف شيئاً من الدخل أو غيره فبها ونعمت ، وإلاّ فتصرف من إيرادات الوقف أولاً ـ كما سبق ـ ، بل إذا لم يكن الايراد للصيانة والاصلاح ولم يستطع الناظر توفير تمويل له ببيع جزء منه لهذا الغرض .
تطبيق نظام ( البناء والإدارة والتشغيل ، والتمويل ) لإعمار أعيان الوقف (B.O.T) :
التعريف بهذا النظام :
وقد استعملت هذه الصيغة في أوروبا في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي من قبل الحكومات التي تضطلع بمشاريعها وتمويلها ، الأمر الذي يرهق كاهلها فكانت تعطي المشروع لقطاع خاص للقيام بالمطلوب لتعود الأرض والمشروع إليها بعد فترة زمينة محددة ، وبذلك تحققت لكل من الدولة ، والمموّل فوائد كثيرة ، وكذلك للمجتمع .
ويمكن تعريف هذا العقد أو النظام بانه : اتفاق بين صاحب أرض ، ومموّل يقوم بإقامة مشروع متكامل عليها ، وبتشغيله وصيانته ، والإفادة منه لفترة محددة متفق عليها ليعود بعدها إلى مالك الأرض3 .
مقاصد العقد وأهدافه :
إن الغرض من هذا العقد هو تحقيق ما يأتي :
1- تحقيق المصالح والمنافع المعتبرة للطرفين ـ كما سبق ـ بل تلبية حاجات المجتمع الإنساني وتوفير الراحة للفرد والجماعة بأسلوب علمي وعملي محكم.
2- إقامة البنية التحتية بأموال القطاع الخاص مع تحقيق أغراضه أيضاً ، ولاسيما في المشاريع الكبرى التي يقع عبؤها على الدولة ، مثل شق القنوات والطرق الكبيرة الطويلة ، وترتيب القطارات ، وإقامة الجسور ، وإنشاء المصانع الكبرى ، والعقارات أو نحوها .
3- الاستفادة من أموال المواطنين والاستثمارات الأجنبية للمساهمة في خطط التنمية ، وتنفيذ المشروعات المهمة ، والمرافق العامة .
4- تقليل مخاطر السوق والاقراض .
5- التخفيف من أعباء الدولة حيث لا تتتحمل شيئاً من تكاليف البناء والانشاء ونحوهما .
6- المساهمة في تشغيل الأيدي العاملة ، وتقليل نسب البطالة ، وبالتالي : التضخم .
7- استقطاب المهارات الفنية والإدارية الوطنية ، والأجنبية والاستفادة منها .
8- تدريب العمالة الوطنية من خلال مساهمتها في البناء والتشغيل ، والصيانة .
9- تنمية الأموال واستثمارها بطريقة تخدم المجتمع ـ كما سبق4 ـ .
الوصف الفقهي لهذا العقد ( التكييف الفقهي ) :
وإذا نظرنا إلى هذا العقد فنجد أن مقاصد الشريعة في إجراء العقود متوافرة فيه ، وأنه حسب ظاهره ومن حيث هو عقد ليس فيه مخالفة ، أو تعارض مع نص شرعي ، ولذلك يبقى على أصل الجواز والصحة والمشروعية .
وبالاضافة إلى ذلك فإنه يمكن تكييفه على أساس عقد الحكر .
وأما عقوده الجزئية التي يتكون منها هذا النظام فهي عقود مقبولة شرعاً .
نظام B.O.T وما في فقهنا العظيم :
بالاضافة إلى ما ذكرنا من التكييفات الفقهية فإن فقهاءنا العظام قد سبقوا فقهاء العصر ، والقانونيين بعقود شبيهة تماماً بهذا النظام ، وذلك من خلال بعض الصور لعقد الإجارة ، وعقد الحِكر ، ولذلك سنلقي عليهما بعض الأضواء.
أ ـ عقد الكراء ( الإجارة ) حيث نجد في الفقه المالكي مسائل شبيهة بهذا النظام .
ب ـ الحكر ، أو حق القرار :
والحكر في باب الوقف وسيلة اهتدى إليها الفقهاء لعلاج مشكلة تتعلق بالأراضي والعقارات الموقوفة التي لا تستطيع إدارة الوقف ( أو الناظر ) أن تقوم بالبناء عليها ، أو زراعتها ، أو أنها مبنية لكن ريعها قليل إذا قسنا بحالة هدم بنيانها ، ثم البناء عليها ، ففي هذه الحالة أجاز الفقهاء الحكر ، وحق القرار وهو عقد يتم بمقتضاه إجارة أرض للمحتكر لمدة طويلة ، وإعطاؤه حق القرار فيها ليبني ، أو يغرس مع إعطائه حق الاستمرار فيها ما دام يدفع أجرة المثل بالنسبة للأرض التي تسلمها دون ملاحظة البناء والغراس5 .
مدى شمولية الحكر للوقف وغيره :
وقد ارتبط اسم الحكر بالوقف سواء كان وقفاً عاماً وهو الشايع ، أو خاصاً ، ولكنه مع ذلك قد يكون الحكر في العقارات المملوكة ملكية خاصة .
حكم الحكر في الأوقاف :
اختلف الفقهاء في حكر الوقف على ثلاثة مذاهب :
أ.ذهب جمهور الفقهاء6 إلى أنه جائز حتى ولو اشترط الواقف منعه إذا توافرت الشروط الآتية :
1.أن يكون الوقف قد تخرّب وتعطّل الانتفاع به .
2.أن لا يكون لدى إدارة الوقف ( أو الناظر ) أموال يعمّر بها .
3.أن لا يوجد من يقرض الوقف المقدار المحتاج إليه .
واشترط الحنفية أيضاً أن لا يمكن استبدال الوقف بعقار ذي ريع7 ، إذا توافرت هذه الشروط جاز الحكر في الوقف .
ب.ذهب جماعة من الفقهاء منهم الحنابلة ، وجمهور الشافعية ، إلى أنه جائز مطلقاً8 .
ج.ذهب بعض الشافعية ـ منهم الأذرعي والزركشي ـ إلى أنه غير جائز مطلقاً9 .
والذي نراه راجحاً هو الرأي الأول ، لأنه قيّد الحكر بتحقيق مصالح الوقف ، وأن لا يوجد سبيل أفضل من الحكر ، وحينئذٍ فالحكر بلا شك أفضل من أن يبقى الوقف خرباً أو معطلاً .
الهوامش
(1) يراجع بحثنا حول: تنمية موارد الوقف، بحث منشور في مجلة «أوقاف» الكويتية، ويراجع: د. عبدالرحيم العلمي: الاجتهادات الفقهية في نوازل الوقف عند المالكية، بحث منشور في المجلة نفسها.
(2) جرت العادة في عصرنا الحاضر وحسب الأنظمة المحاسبية أن تحسب الموجودات الثابتة من العقارات – غير الأراضي – والمصانع والسيارات بقيمتها محسوماً منها نسبة للإهلاك (أو الاستهلاك) وتخصيص هذه ضمن مخصص الاهلاك، وهذه النسب تختلف من المنقولات إلى المباني، فمخصص العقارات في بعض القوانين 10% في حين أن مخصص الإهلاك للسيارات وأجهزة الكمبيوتر 25% وهكذا، كما أن القوانين فيها مختلفة.
(3، 4) المراجع السابقة.
(5) د. خليفة بابكر الحسن، بحثه عن: «استثمار موارد الأوقاف» المقدم إلى الدورة الثانية عشرة لمجمع الفقه الإسلامي الدولي، ص21.
(6) حاشية ابن عابدين (30/398)، والفتاوى الهندية (2/422)، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير (4/96)، وتحفة المحتاج (6/172)، ومطالب أولي النهى (4/316)، وأعلام الموقعين (3/304).
(7، 8، 9) المراجع السابقة.