إذا نظرت إلى خريطة التعامل في العالم العربي مع الثورات الشعبية تجد بصورة واضحة ما يأتي:
أولاً – على مستوى الحكومات والسياسات تجد أنها على حالات:
الحالة الأولى: حالة التأييد والوقوف مع الشارع العربي الذي ثار ضد الظلم والطغيان، وضد الفقر والبطالة والتضخم، والفساد الكبير، حتى وصلت نسبة الفقر في بعض الدول الثائرة إلى أكثر من 50%.
وهذه الحالة تظهر في السياسة القطرية التي كسبت محبة الشارع العربي، وجعلت الجماهير العربية تقدر هذه السياسة وتثمن مواقف قادة دولة قطر، وأصبح الإنسان القطري يفتخر بانتمائه إلى قطر التي – على الرغم من صغر حجمها الجغرافي – لها مكانة عظيمة في نفوس الشعوب، ويعتز بهذه الأدوار العظيمة لقطر التي غدت يحسب لها الحساب في كل ما يتعلق بالشرق الأوسط، بل في السياسة الدولية.
نعم إن قطر صرفت أموالاً ولكنها صرفتها لمصالح أمتها بل لتحقيق أمنها الممتد، ولأداء واجبها الإيماني والقومي.
وبمنتهى التجرد أن الوقائع والتجارب التأريخية تثبت أن الوقوف مع الشعوب هو الأصلح والأبقى لأي دولة لها سياسة استراتيجية ولذلك قلبت أمريكا رأس المجن مع حسني مبارك الذي كان بمثابة الكنز الاستراتيجي للمشروع الصهيوني الأمريكي، ومع ذلك حينما رأت أمريكا أن الشعب قد ثار وقفت معه – على الأقل في الظاهر- وتخلت عن مبارك، وكذلك فعلت مع شاه إيران الذي كان له دور كبير في تثبيت أقدام أمريكا في الخليج ومع ذلك تخلت عنه، وامتنعت حتى عن علاجه في أمريكا.
هذا هو مقتضى السياسة والمصالح الدنيوية، وعلى مستوى الدين والأخلاق فإن الواجب هو التعاون على البرّ والتقوى، والوقوف مع العدل ومع المستضعفين والمضطهدين ضد الظلم والاستبداد والطغيان، بل إن الركون إلى الظالم – ناهيك عن التعاون معه- جريمة في نظر الإسلام تستحق أشد الجزاء فقال تعالى: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ) سورة هود/الآية 113.
الحالة الثانية: حالة الوقوف ضد الثورة والتآمر ضدها لإفشالها، أو لإفشالها في تحقيق مقاصدها والاستمرار بكل الامكانيات المتاحة، وصرف المليارات من الدولارات لترتيب ثورة مضادة، والإضرار باقتصاد دول الربيع العربي ولا سيما مصر، حيث أدت الاضطرابات الأخيرة إلى تردي الاقتصاد الذي هو في حد ذاته ضعيف محمل بتركات الفساد لأكثر من ثلاثين سنة.
ومع الأسف الشديد تطبق هذه الحالة معظم الدول العربية يجمعها الخوف من هذه الثورات بسبب التقارير المغشوشة من المخابرات المصرية التي لا زالت معظم قيادتها مستشارين في بعض هذه الدول، أو بسبب الكراهية غير المبررة ( عقلاً وسياسة وشرعاً ) ضد الاخوان المسلمين أو السلفية.
فبعض هذه الدول لا يطيقها أن يسمع بكلمة الاخوان أو السلفية على الرغم من أنها يمكنها التعامل مع إسرائيل أو أي دولة أخرى، وبعضها خوفاً من مصالحها الاقتصادية بحيث إذا استقرت مصر تستطيع تحريك الاقتصاد ولا سيما في قناة السويس وبالتالي يمكن أن تتضرر، وهذه القضية في حقيتها موهومة، فإن قوة مصر كانت وستظل – بإذن الله – قوة للعرب والمسلمين على مرّ التأريخ.
والغريب أن بعض هذه الدول لديها مشاكل وبعض جزرها محتلة وبالتالي فهي بحاجة إلى دعم مصر الذي لم ينقطع حتى في ظل الثورة فإن الرئيس المنتخب الدكتور مرسي أكد في كل المناسبات وقوف مصر مع الحق العربي ومع الخليج العربي الذي كرره في خطبته الأخيرة، وكان بإمكانه لو لم يكن صاحب مبدأ أن يأخذ بسياسة رد الفعل فتقف مع الدولة المحتلة (من باب عدو العدو صديق) ولكن مصر عظيمة بشعبها، ورئيسها عظيم بمبدئه.
الحالة الثالثة: هي حالة الصمت والحيادية السلبية، وهي التي تبنته بعض الدول العربية التي تنتظر النتائج وتتفرج مهملة واجبها الديني والقومي، وتاركة مصير أمتها للمجهول، وبالتالي فهي تتحمل مسؤوليتها أمام الله تعالى ثم أمام التأريخ والأجيال اللاحقة.
ثانياً – على مستوى الشعوبة العربية والإسلامية ، حيث يقف جماهيرها مع هذه الثورات بقلوبها ومع الربيع العربي (الإسلامي) وتتمنى لها النجاح والتوفيق وترى أن ذلك خير ويبشر بمستقبل مشرف بإذن الله تعالى.
وهنا نتساءل: هل من مصلحة الدول العربية أن تفشل الثورة في مصر؟
للإجابة عن ذلك نقول:
إن القيادة الجديدة المنتخبة في مصر قامت بمجموعة من المواقف والإجراءات كان المفروض من كل عربي شريف أن يقف معها، ومن هذه المواقف: موقفها من العدوان الصهيوني على غزة، حيث يعلم الجميع موقف حسني مبارك ورئيس مخابراته وحكومته من غزة أثناء العدوان الصهيوني عليها كيف تعاملوا مع غزة، وكيف شاركوا في حصار غزة أثناء الحرب قبلها وبعدها، فلنقارن ذلك بموقف القيادة الجديدة في مصر كيف تعاملت مع العدوان الصهيوني الأخير على غزة، وكيف نجحت في وقف العدوان بصورة مشرفة تحولت فعلاً إلى نصر، وفك الحصار ونحو ذلك مما شهد بنجاحه الجميع حتى إن صاحب السمّو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير دولة قطر حفظه الله حينما زار غزة، ثم عاد إلى مصر قال: لولا دور مصر لما تحققت هذه الزيارة، وكذلك دور مصر الحالي في المصالحة بين فتح وحماس، وفتح معبر رفح أمام الجرحى وأمام الشعب الفلسطيني، ثم فتحه لمواد البناء ليعاد تعمير غزة.
ثم إن مواقف مصر الحالية حول القضايا العربية مواقف مشرفة، ولأول مرة منذ ثلاثين سنة تعتبر مصر أن من أمنها القومي أمن الشعب الفلسطيني، وأمن الخليج العربي.
ثم إننا لماذا لا نستفيد من الموقف الغربية بعضها نحو بعض، ولما لا نستوعب ما فعلته ألمانيا الغربية المتقدمة لتحقيق الوحدة مع ألمانيا الشرقية المتخلفة، فصرفت مئات المليارات من الماركات للتأهيل والتحديث والتكافل الاجتماعي، والتطبيع حتى تصبح ألمانيا الشرقية في جميع مجالات الحياة مثل ألمانيا الغربية لتتحقق الوحدة الحقيقية، حتى قال هلموت كول في وقته: كل ما نصرفه قليل أمام انضمام واندماج الشرق الألماني مع الغرب الألماني.
ثم لماذا لا ننظر إلى ما يصرفه الاتحاد الأوروبي على اقتصاديات الدول المتعثرة، حيث قام بدعم يونان بأكثر من مائة مليار دولار، وكذلك قام بدعم اسبانيا ودول أخرى، حيث يقدر الدعم الأوروبي للدول الأوروبية المتعثرة بما يزيد عن ثلاثمائة مليار دولار، وما يفعله الاتحاد الأوربي من باب المصالح المشتركة وحماية أوروبا من الانهيار والمشاكل، فهي واحدة يتأثر بعضها ببعض، بالاضافة إلى تقوية أواصر التعاون والوحدة والقوة وكسب الشعوب، ونحو ذلك من المصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وكذلك فعلت أمريكا مع أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية من خلال مشروع مارشال الكبير الذي صرفت فيه أمريكا حوالي خمسة عشرة مليار دولار في ذلك الوقت للنهوض بأوروبا الغربية، فنهضت وتعاونت مع أمريكا وأصبحت ذراعها الأيمن في مواجهة الاتحاد السوفيتي وحلف وارشو.
ومن هنا يرد السؤال الموجه إلى الحكام العرب: هل مصر التي كانت على مرّ التأريخ منذ حوالي 1400 سنة – درعاً للعرب والمسلمين وحصناً حصيناً لحمايتهم، وكنانة الله في أرضه، وضحت بخيرة شبابها وأموالها في أحلك الظروف كما في الحروب الصليبية التي قاد صلاح الدين الأيوبي جيش مصر والشام، فطرد الصليبيين ثم ما فعله قطز ضد المغول وتتر، حيث هزمهم في معركة عين جالوت عليهم من خلال قيادته لجيش مصر، ثم الحروب الأخيرة ضد الصهاينة في 1954 و 1967 و 1973 التي أدت إلى أن تفقد مصر مئات الآلاف من خيرة أبنائها ومئات المليارات من الدولارات في سبيل القضايا العربية والإسلامية وقضيتنا الأولى (فلسطين).
ثم ما قامت به مصر من تعليم أبناء العرب والمسلمين داخل مصر، وخارجها من خلال بعثات الأزهر الشريف، والأساتذة والمعلمين والمدرسين منذ الثلاثينات إلى يومنا هذا..
هل مصر بكل هذه الخدمات (وما لم نذكره أيضاً) لا تستحق أن تعاملها الدول العربية الغنية مثل معاملة الاتحاد الأوروبي ليونان أو اسبانيا؟!! .
إن مصر لا تستجدي من أحد أبداً، ومصر لا تطلب التبرعات وإن كانت تستحق ذلك، وإنما تطلب وقوف إخوانهم العرب والمسلمين الذين لديهم الفائض بمئات المليارات، إما بالقرض الحسن، أو بتمويل وإن كان بنسبة من الربح حتى تخرج من أزمة لم تعملها قيادتها الجديدة وإنما هي تركة الفساد الثقيلة منذ عقود.
إنني أدعو بل أناشد جميع الغيورين من المسؤولين والشركات والقادرين أن يهبوا لنجدة مصر، فقوة مصر قوة للعرب والمسلمين جميعاً، وضعفها ضعف لهم جميعاً.
وفي اعتقادي أن هذ الاحساس الديني والقومي والمصلحي الاستراتيجي هو الذي دفع قطر إلى أن تدعم الاقتصاد المصري بحوالي ثمانية عشرة مليار دولار، فلو وقفت بقية الدول مثل هذا الموقف المشرف لما احتاجت مصر إلى أن تستنجد بصندوق النقد الدولي الذي ما دخل في بلد إلاّ ترتبت عليه آثار سلبية.
إنني قد عشت في مصر للدراسة بعد حرب العاشر من رمضان ( 6 أكتوبر) إلى ما بعد اتفاقية كامب ديفيد، فقد تألمت من الاتفاقية التي حيدت مصر في عصر سادات ومبارك، ولكنني أقول بكل صدق: ان معظم حكام العرب – وبخاصة الأثرياء منهم – يتحملون جزءاً كبيراً من آثارها، لأن مصر خرجت من حرب أكتوبر وقد أنفقت معظم ما لديها للمجهود الخربي، والشعب يتوقع أن يساعده إخوانه لينهضوا كما نهضت معظم الدول، ويريد أن يتوظف أبناؤه ، وأن تكون المرتبات كافية ، فإذا بالأمور الاقتصادية تزداد سوءاً والعالم العربي يبخل على مصر وحدثت انتفاضة لا لعيش ( الخبز ) عام 1976م ولم تقم الدول العربية بواجبها نحو مصر، فانتهزت أمريكا واللوبي الصهيوني هذه الظروف وتلك المواقف السلبية فتمت اتفاقية كامب ديفيد من خلال الاغراء باقتصاد مزدهر.
لذلك أقول: إن القادة العرب يرتكبون خطأ استراتيجياً إذا تركوا مصر في هذه المرحلة الحرجة دون دعم قوي تنهض بها فعلاً لفترة زمنية، وذلك لأن مصر فيها خيرات كثيرة ولكن تحتاج إلى السيولة والاستثمارات حتى تقوم على رجليها، ثم تنهض بإذن الله تعالى نهضتها المنشودة، لأن جميع عواملها من الموارد البشرية المتخصصة والمالية متوافرة.
ومن جانب آخر فلا يجوز – شرعاً وعقلاً مصلحةً وحكمةً – أن تقف بعض الدول ضد مصر لأن قيادتها اليوم من الاخوان والسلفية، لأن ذلك هو اختيار شعب مصر من خلال انتخابات نزيهة بل كانت السلطات ضدهم ومع ذلك نجحوا في ثلاثة انتخابات: البرلمان، ومجلس الشورى، ثم الاستفتاء الأخير – الذي قامت وسائل الإعلام بدعايات ضخمة ضد الدستور وبمكر كادت أن تزول منه الجبال- ومع ذلك نجح الدستور بموافقة ما يقرب من ثلثي الشعب عليه.
لذلك فمن يحترم الشعب المصري عليه أن يحترم إرادته واختياره.
أكرر مناشدتي للقادة العرب والمسلمين أن يتعاملوا مع مصر، وتونس، وليبيا، واليمن، وسوريا من خلال النظرة الاستراتيجية القائمة على العقيدة، والاخوة، والمصالح المستقبلية، البعيدة عن الحزبية والنظرة الضيقة الأفق، وعن النظرة الأمنية والعلاج الأمني واستشارة خبراء الأمن الذين هم في غالبهم جزء من المشكلة.
أناشدهم الإسراع بما تقتضيه الاخوة والمصالح المشتركة، والوقوف مع بلدان الربيع العربي قبل فوات الأوان، وحينئذ تندم، ولات ساعة متندم.
إن الحياة هي المواقف العظيمة في وقتها، ومقدار الرجولة بمقدار مواقفها، فاليوم تحتاج مصر إلى مساعدة من الدول الشقيقة، فإذا قامت بهذا الواجب فقد كسبت الشعب المصري العظيم الذي لا ينسى الجميل، وهكذا اليمن السعيد الذي هو أصل العرب وهو اليوم أحوج ما يكون إلى دعم قوي كبير ينهض به من مشاكله الاقتصادية، فإذا لم تقم الدول الشقيقة بواجبها نحوه فسيترتب على ذلك إحساس بإهمالهم بل عداوة وبغضاء، فالإنسان عبد بلا حساب، وحرب على الإساءة ولا سيما في وقت الحاجة.
فهذه فرصة لتوحيد القلوب وتأليفها ولتحقيق الاخوة الصادقة التي لا يجوز أن تكون مجرد شعار أو خطب رنانة، فأين الأمة العربية أو الإسلامية؟ وأين الاخوة إذا عاش أخي في ثراء عظيم واسراف وتبذير، وأنا في فاقة ومجاعة ومرض وجهل وتخلف؟!
إن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إخوتنا؟
والله المستعان