ذكرنا أن وقت الرمي للمعذورين من بعد منتصف الليل إلى آخر أيام التشريق على الخلاف السابق ، ومن هنا فالوقت موسع جداً عند جماهير الفقهاء ما عدا المالكية الذين ضيقوا الوقت وجعلوه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس من يوم النحر .


 


 


توسع دائرة المعذورين :


 


 ليس المقصود بالمعذورين في هذا الباب من له مرض وإنما هو أوسع من ذلك حيث تسع دائرتهم كل النساء وكبار السن والأطفال والمرضى ، ومرافقيهم من الأصحاء ، ولذلك ورد الإذن للضعفة مطلقاً دون تقييد بمرض أو سبب محدد ، فقد ترجم البخاري باب : من قدم ضعفة أهله بليل فيقفون بالمزدلفة ويدعون ، ويقدّم إذا غاب القمر ، ثم روى بسنده أن عبدالله بن عمر يقدم ضعفة أهله …وعن ابن عباس بلفظ (أنا ممن قدّم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله) وأحاديث أخرى بخصوص أسماء ومولاها ، وسودة[1] .


 


 وترجم مسلم باب استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن من مزدلفة إلى منى في أواخر الليالي قبل زحمة الناس واستحباب المكث لغيرهم حتى يصلوا الصبح بمزدلفة ، ثم روى بسنده حديث ابن عمر السابق ، وحديث ابن عباس السابق ، وحديث سودة السابق ، وحديث أسماء ، كما روى عن عطاء أن ابن شوّال أخبره أنه دخل على أم حبيبة فأخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بها من جمع بليل[2] .


 


 بل إن السيدة عائشة أم المؤمنين فهمت أن المسألة تتعلق باستئذان الرسول صلى الله عليه وسلم حيث ندمت على أنها أيضاً لم تستأذن منه كما فعلت سودة[3] . 


 


 بل إن الإذن لم يخصص حتى بالنساء والأهل فقط بل شمل الشباب والغلمان ، فقد ورد في الصحيحين أن : (ابن عباس كان فيمن قدم النبي صلى الله عليه وسلم في ضعفة أهله من مزدلفة إلى منى)[4] علماً بأنه لم يكن من المرافقين الضروريين ، حيث إن الذي أخذ أهل النبي صلى الله عليه وسلم وضعفاءهم هو العباس ،حيث أخرج الطحاوي بسنده عن أبي الصغير عن عطاء قال : أخبرني ابن عباس بلفظ : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس ليلة المزدلفة : اذهب بضعفائنا ونسائنا ، فليصلوا الصبح بمنى وليرموا جمرة العقبة ، قبل أن يصيبهم دفعة الناس ، قال (فكان عطاء يفعله بعدما كبر وضعف)[5] .


 


 يفهم من هذه الأحاديث بوضوح أن الرمي بعد طلوع الشمس إنما هو الأفضل والأحسن اتباعاً لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنه ليس بواجب ، ولا سيما في ظروف الزحام الذي يشهده عصرنا ، ذلك الزحام الذي يروح ضحيته كل عام عدد لا بأس به من الحجاج تحت أرجل الناس.


 


 ومن هنا ذهب عطاء وطاوس والشافعي إلى انه يجوز الرمي قبل الزوال مطلقاً ، قال النووي : رمي جمرة العقبة واجب بلا خلاف ، وأما وقت الرمي فقال الشافعي والأصحاب : (السنة أن يرموا بعد ارتفاع الشمس قدر رمح فإن قدموا الرمي على هذا جاز بشرط أن يكون بعد نصف ليلة النحر وبعد الوقوف ، ولو أخروه جاز ، ويكون أداءً إلى آخر نهار يوم النحر بلا خلاف ، وهل يمتد إلى طلوع فجر تلك الليلة فيه وجهان مشهوران….) وقال الشيرازي : (وإن رمى بعد نصف الليل وقبل طلوع الفجر أجزأه ، لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أم سلمة رضي الله عنها يوم النحر ، فرمت قبل الفجر ، ثم أفاضت..) قال النووي : (وحديث عائشة هذا صحيح رواه أبو داود بلفظه بإسناد صحيح على شرط مسلم) [6]. يقول ابن رشد : (وقال الشافعي : لا بأس به ، وإن كان المستحب هو بعد طلوع الشمس …وعمدة من جوز فيها قبل الفجر حديث أم سلمة….وحديث أسماء أنها رمت الجمرة بليل وقال : (إنا كنا نصنعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)[7] قال الماوردي : (فإن رمى الجمرة بعد نصف اليل وقبل الفجر اجزأه)[8] وأسنده الرافعي إلى أحمد أيضاً [9]. 


 


 وعطاء بن أبي رباح كان أمير الحج أكثر من مرة ، ومفتي مكة وسيد التابعين علماً وعملاً واتقاناً في زمانه بمكة ، وكان حجة إماماً كبير الشأن أخذ عنه أبو حنيفة ،وقال : ما رأيت مثله[10] .


 


 وأما طاوس فهو أحد كبار الأئمة التابعين الكبار فقد روى عن جابر ، وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة ، قال فيه عمرو بن دينار : (ما رأيت أحداً قط مثل طاوس ، قال سفيان : قلت لعبدالله بن أبي يزيد : مع من كنت تدخل على ابن عباس؟ قال مع طاء وأصحابه ، قلت طاوس؟ قال أيهات ذاك كان يدخل مع الخواص)[11] .


 


 والظاهر أن وقت الرمي في يوم النحر يمتد للجميع إلى الليل (أي إلى الفجر) لحديث البخاري عن ابن عباس انه قال رجل : رميت بعدما أمسيت ؟ فقال : (لا حرج) فهذا الحديث الصحيح واضح في دلالته على جواز الرمي في الليل دون تقييد بمن له عذر أم لا ، ودون تخصيصه بأول الليل ، أو آخره ، وما روي عن بعض الآثار عن الصحابة لا يمكن أن يعارض هذا الحديث المرفوع الصحيح الصريح .


  



 اعلى الصفحة



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



1) صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ (3/526 – 527)



2) صحيح مسلم (2/939 ـ 941)



3) المصدران السابقان



4) المصدران السابقان



5) الطحاوي (1/412)



6) المجموع (8/162) و (8/153، 157)



7) بداية المجتهد ،ط. دار الجيل (1/589)



8) الحاوي الكبير ط.دار الكتب العلمية بيروت (4/184)



9) فتح العزيز (7/381)



10) ميزان الاعتدال للذهبي (3/70)



11) الجرح والتعديل (4/500)