الوطن – الدوحة
يواصل د. علي محيي الدين القره داغى عرض كتابه المشكلة الاقتصادية وحلها والذي ننشر حلقاته يوميا. وقد تناولنا فيه عبر الحلقة الماضية (النظام المالي في الاسلام والانفاق العام للدولة الاسلامية قديما)، وفي هذه الحلقة يتحدث فضيلته عن موارد المال في الاسلام وتنظيم المصارف:
ثانياً ـ تجميع الموارد:
إن موارد الدولة الإسلامية هي ما يأتي:
1.الزكاة حسب تفصيلاتها وشروطها وضوابطها ومصارفها الثمانية، حيث تقوم الدولة بجمع مقادير الزكاة من جميع الأموال التي تبلغ النصاب وتتوافر فيها بقية الشروط من الملكية التامة، والنماء، ونحوهما، وهذه الحصيلة ليست قليلة ـ كما سيأتي تفصيلها ـ.
2. الصدقات والكفارات ونحوها التي تعطى لبيت المال.
3. ايرادات استثمارية خاصة بأموال الدولة.
4. ايرادات الوقف المخصصة لمشاريع الدولة ومؤسساتها التعليمية والدينية ونحوها.
5. ايرادات الخمس من الغنائم، حيث يكون للدولة الخمس أي 20% والباقي يوزع على المشاركين في الجهاد.
6. الفيء، وهو المال الذي يؤخذ من العدو دون قتال، حيث يكون كله خاصاً بالدولة لتصرفه في المصالح العامة، وفي تحقيق الضمان الاجتماعي.
7. عشور التجارة، حيث كانت الدولة الإسلامية تأخذ ما يسمى في عصرنا الحاضر الضرائب على التجارة الخارجية التي يقوم بها المسلمون أو غيرهم، وإن كانت النسب متفاوتة.
8. الخراج الذي يفرض على الأراضي الزراعية، والجزية، وهي ضريبة تفرض على المواطنين غير المسلمين في مقابل فرض الزكاة على المسلمين، وهي دلالة على الالتزام بقانون الدولة ودليل مادي للولاء لها، ومساهمة لتحمل أعباء توفير الأمن والبنية التحتية والضمان الاجتماعي للجميع، ولا مانع أن تسمى: ضريبة، أو حتى زكاة، لأن المهم هو أخذ جزء من المال من المواطنين جميعاً لتحقيق التكافل والمصالح العامة.
9. الركاز أي المعادن الأولية مواد الخام والكنوز المدفونة في باطن الأرض ـ كما سبق ـ.
10. الأموال التي لا يوجد لها مالك كالمال الذي مات صاحبه وليس له وارث، أو ما يتبقى منه، وكأموال اللقطة التي يعثر على صاحبها.
11. الضرائب العادلة حسب الخدمات التي تقدمها الدولة، أو حسب حاجتها الماسة للدفاع، أو التكافل، أو التنمية الشاملة ـ كما سبق ـ.
12. الرعاية لنظام الإرث ونظام الديات من خلال الحسبة والمحاكم.
13. توجيه المجتمع في صرف صدقاته، ونفقاته، وكفاراته لتنمية المجتمع والتكافل. ثالثا ـ تنظيم المصارف:
إن الإسلام قام بتنظيم هذه المصارف على ضوء ما يأتي: 1- فقد نظم مصارف الزكاة الثمانية بنص صريح من القرآن الكريم إذْ يقول: ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
2- ونظم مصارف الغنيمة والفيء إلى حدّ كبير، فقال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا ) وقال تعالى في شأن الفيئ: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ).
3- وتبقى المرتبات والأجور ومصروفات المعاشات للعاملين في الدولة خاضعة للعقود، وحدّ الكفاية وأجر المثل.
4- وأما الضمان الاجتماعي، والتكافل فيخضعان للاجتهادات القائمة على المصالح والعرف مع تحقيق حد الكفاف، ثم حد الكفاية، وفقه الأولويات والموازنات، والميزان.
5- وكذلك تُعدُّ نفقات الدفاع والأمن والتعليم والعدالة والصحة، ومقاومة الأوبئة والكوارث والبنية التحتية من أهم المصارف التي تخضع للاجتهادات المنوطة بالمصالح ودرء المفاسد حسب فقه الأولويات والموازنات.
6- وأما نفقات تحقيق التوازن الاجتماعي بين المواطنين، ومنع الفقر المدقع، والطبقية فتكون من أموال الزكاة والصدقات، والنفقات والكفارات، ومن بيت المال بالاضافة إلى الضرائب العادلة عند الحاجة الماسة، فالآيات، والأحاديث الكثيرة الدالة على أن المؤمنين إخوة، وانهم كجسد واحد، وأن إيمانهم لن يكتمل إلاّ بدفع حقوق الاخوة المعنوية والمادية كذل ذلك دليل على ضرورة هذا التوازن الاجتماعي، وإلاّ فيصيب الاثم الجميع.
7- وعلى الدولة أيضاً أن تصرف النفقات الضرورية للأنشطة الاقتصادية بحسب فقه الأولويات مثل الاعمار، والأنشطة الزراعية، والصناعية والتجارية والاستثمارية من بيت المال، لأن في ذلك مصالح المسلمين، ولذلك كان الخلفاء الراشدون ومن بعدهم ينفقون من بيت المال على شق القنوات وحفر الترع وإقامة الجسور والقناطر، وعلى المصانع الضرورية والحاجية للمجتمع.
8- وعلى الدولة أيضاً أن تنفق من بيت المال على الخدمات والتخزين وكل ما هو ضروري وحاجي للمجتمع، مما يسمى اليوم: البنية التحتية.
9- وأما مصروفات رئاسة الدولة بكل أجهزتها وضيوفها فتقع على بيت المال دون إسراف ولا تبذير.
10- توعية الناس وتوجيههم لصرف صدقاتهم ونفقاتهم وكفاراتهم لتنمية المجتمع، والتكافل.
رابعاً ـ الموازنة العامة للدولة:
أنشأ الخليفة عمر رضي الله عنه الديوان لتنظيم الموارد والنفقات، ومحاسبة العامل المكلف بالاشراف على بيت المال، وكانت الموازنة تتم بين الايرادات التي ذكرناها، وبين المستحقين المذكورين في الكتاب والسنة، حيث يعطى لهم حقوقهم إلاّ ما يخص المؤلفة قلوبهم في عصر أبي بكر وعمر، حيث لم يعط لهم باعتبار أن حقيقة التأليف لم تعد باقية بالنسبة لهؤلاء الذين كانوا يأخذون في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك النظر في الموازنة بين ما يتبقى من الايرادات وما تحتاج الدولة من نفقات خاصة بالأجور والمرتبات والعطاءات، والجهاد، والتعليم، والصحة، والضمان الاجتماعي، وغير ذلك من نفقات الدولة.
وكان في بيت المال سجلات دقيقة لكافة الايرادات، وأوامر الصرف، وأسماء جميع المستحقين، والجند، ومراقبة للايرادات والمصروفات، ولأوجه الانفاق العام، كما كان بيت المال يراقب الخيول، والحيوانات الخاصة به من خلال توفير المراعي الحمى وكذلك توفير مخازن الحبوب والغلال.
وكان المشرف على بيت المال مسؤولاً أيضاً ومكلفاً بإعداد جداول للمصروفات والايرادات كل ثلاث سنوات، ومتابعة مراقبة واردات الاقاليم التابعة للخلافة من حيث الزيادة والتنظيم ويعرض كل ذلك على الخليفة، ويتخذ بشأنه القرارات المناسبة، فقد حدث أن واردات مصر قلت، فبلغت عمر، فأرسل رسالة قوية إلى واليها عمرو بن العاص يلفت نظره فيها إلى تأخر الخراج، وضعف الجباية قال فيها: ( فقد فكرت في امرك، والذي أنت فيه، فإذا أرضك أرض واسعة عريضة رقيقة، وقد أعطى الله أهلها عدداً وجلداً وقوة في بر وبحر، وقد عالجها الفراعنة، وعملوا فيها عملاً محكماً مع شدة عتوهم وكفرهم، فعجبت من ذلك، وأعجب ما عجبت منه أنها لا تؤدي نصف ما كانت تؤديه من الخراج قبل ذلك على غير قحط ولا جدب) وهذه الرسالة تتضمن مبادئ عظيمة في الرقابة والمتابعة والمحاسبة القائمة على البراهين والتجارب لا يسع المجال لذكرها، منها:
1- متابعة الولاة ومراقبتهم ومحاسبتهم وبحزم دون تأخير ولا مجاملة.
2- الاعتماد على المؤشرات الصحيحة، حيث إن الموارد البشرية والجغرافية، والزراعية كانت متحققة، ومع ذلك كان الإنتاج، والدخل قليلين، بالإضافة إلى المؤشرات السابقة.
3- المطلوب التطوير المستمر دون توقف، حيث استغرب عمر من أن يكون دخل ذلك العام أقل من العام السابق.
4- الاستفادة والعبرة من الحضارات السابقة.
5- المطلوب أن يكون الإنتاج في ظل الإسلام أحسن وأكثر وأقوى وأفضل من الإنتاج في ظل حضارة غير إسلامية، لدوافع الدين..