الرابع والعشرون: مرحلة الابتلاء بالشهوات والغواية في أجواء القصور وهيمنة النساء:
فقال تعالى: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ) .
نجا يوسف من غيابات الجب، وشاء الله تعالى أن يدخل في قصر عزيز مصر رقيقاً، أراده العزيز أن يتخذه ولداً، حيث لم يكن له أولاد، ولكن زوجته أعجبت بيوسف، بل عشقته عشقاً ( وشغفها حباً )، ودخلت في محاولة اصطياده بتأثيراتها ومغرياتها، وميوعتها، وكيدها العظيم، وسيدنا يوسف في هذه المرحلة كان في مرحلة المراهقة، ثم البلوغ، فلو لا برهان ربه، ثم تربيته النبوية لاستسلم لها، ولكن الله سلم، وأن المرأة كان عمرها في حدود ثلاثين سنة .
1-يظهر من سياق الآيات أن محاولتها الأخيرة بغلق أبواب القصر، وطلبها منه صراحة ( هيت لك )لم تكن هي المحاولة الأولى؛ لإغراء يوسف، ولكنها كانت الدعوة السافرة إلى فعل الفاحشة معها، المعبر عن هيجانها وتهالكها.
2-إن قولها: ( هيت لك ) قُرِئ بعدة قراءات، وكل معانيها مقصودة، وهي تدل على أمرها إياه بالقرب والمجيئ والفعل معها، وبعض المفسرين قالوا: إنها كلمة قبطية أو سريانية عُرِّبَتْ .
3-إن الجواب السريع الرافض من يوسف مباشرة (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) كان دليلاً واضحاً على تقواه وخوفه من الله، وعلى شكره، و وفائه لله تعالى، ولمن أحسن إليه، و لحكمته ومعرفته بعواقب الأمور.
فقوله: ( إنه ربي أحسن مثواي ) الظاهر أن الضمير راجع إلى الأقرب المذكور، وهو لفظ " الله" أي رباني، وأبلغني إلى هذه المنزلة، وحماني في غيابات الجب، وأكرم مثواي، فهو الذي هيأ لي أسباب وجودي في هذا المكان.
وذهب جماعة من المفسرين إلى التوقف عند لفظ الجلالة في " معاذ الله "، وبالتالي تكون الجملة " إنه ربي" مستأنفة، وحينئذ يعود الضمير إلى زوج المرأة المراودة، وذلك بدليل أنه هو الذي قال لها: " أكرمي مثواه" وبالتالي فذكرها بهذا الموقف النبيل.
وبناء على هذا فإن الجملة المستأنفة جواب: كيف أقترف هذه الجريمة، والله عليم بصير شديد العقاب، وأن زوجك أكرمني، فكيف أخونه في زوجته وعرضه، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، وبناء على ذلك فالمراد بالرب هنا: عزيز مصر، ومن المعلوم أنه لا مانع لغة وشرعاً في إطلاق الرب على السيد والكبير والملك .
ثم ختم ذلك بفقه المآلات الذي علمه الله تعالى: ( إنه لا يفلح الظالمون )، وكلا المعنَيَين جميعاً مقبول أيضاً ومطلوب، وهذا من خصوصية المنهج القرآني العظيم، ولكن التفسير الأول أولى.
وبذلك بيّن يوسف ثلاثة أسباب في عدم اقترافه لهذه الفاحشة:
أولها: الخوف من الله، وبيان فضله وكرمه، وإنعامه عليه.
ثانيها: الوفاء، والقيم الأخلاقية النبيلة التي تقتضي الإحسان إلى من أحسن إليك، والابتعاد عن الرذيلة والفواحش.
ثالثها: أن مآل الظلم والاعتداء والخيانة، وكل تصرف غير أخلاقي، هو الخسران في الدنيا والآخرة، وحقاً لو انحرف يوسف وارتكب الفاحشة لسقط في أحضان الفجور، وضاع بالترف والخمور، ولما وصل إلى ما وصل إليه من التمكين والحبور.