4-ومن أدب القرآن العظيم أنه لم يذكر اسم المرأة التي راودته، ولا أشار إلى زوجها، وهو عزيز مصر، وفي ذلك توجيه للتحلي بهذا الأدب الرفيع، وبان لا يذكر في مثل هذا المقام إلا ما يظهر الحقيقة فقط، دون الخوض في التفاصيل.
5-إن التعبير القرآني يشير إلى أن موقف يوسف لم يكن سهلاً، لأنه كان في بيتها، يعيش معها باعتباره عبداً وخادماً، وأن المطلوب عرفاً طاعتها، ولكن سيدنا يوسف أعطى الشباب قدوة في التقوى والخوف من الله، وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية، وفي الوفاء والأخلاق العظيمة، وفي التفكير في المآلات، وفي تحمل النتائج مهما كانت مؤلمة.
فالقرآن الكريم يشير من خلال هذ الآية إلى أن يوسف ( عليه السلام ) قد جمع بين مقتضيات الوحي والحكمة والعقل والنظر بعيد المدى، ولذلك لم يخضع لمقتضيات الشباب والهوى.
6-والقرآن الكريم يؤكد على الجوانب الفطرية بواقعية عظيمة، فالجوانب الشهوانية موجودة في كل إنسان رجلاً أو امرأة، ولكنه فرّق بين من يخاف الله تعالى، والعواقب الوخيمة، ويتحلى بالوفاء والقيم النبيلة، وبين من تحكمت فيه الأهواء والشهوات، وفقد البصيرة والعقل!!؛ ولذلك همت بيوسف، وغلقت الأبواب، و قالت: " هيت لك ".
وأما يوسف الذي رباه والده على التوحيد والخوف من الله، وأكرمه الله بالوحي إليه، والحكم و تأويل الأحاديث، فقد استطاع بتوفيق الله تعالى أن يكبح جماح شهوته مع أنه كان شاباً مراهقاً، لم يكن عليه رقيب إلا الله تعالى.
7-وقد اختلف المفسرون في تفسير قوله تعالى:( وهمَّ بها، لولا أن رأى برهان ربه ) على عدة آراء، أصحها وأليقها بمقام يوسف، بل وأَصْوبُها هو أن الهمَّ بها لم يتحقق بسبب ما رآه من آيات ربه، وذلك؛ لأن لولا في اللغة العربية لامتناع شيء لوجود غيره، أي امتنع الهمُّ بسبب أنه رأى برهان ربه، ولا يقدح في هذا التفسير قول بعض النحاة: إن جواب " لولا" يأتي متأخراً، لأن لغة القرآن هي الحجة للنحو، وليس النحو حجة على القرآن، وهذا هو اختيار عدد من المحققين قديماً وحديثاً، منهم أبو حيان، حيث نفى عنه الهمَّ لوجود رؤية البرهان، وكذلك يجوز حذف جواب " لولا" لدلالة ما قبله عليه، كما يقول جمهور البصريين، أي لولا أن رأى برهان ربه لهمًّ بها ، كما أن لتقديم جواب " لولا " عليها نظائر في القرآن واللغة، فمن القرآن الكريم، قوله تعالى:( إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا )، وقد أجاز تقديم جواب " لولا" عليها الكوفيون، وعدد من أعلام البصريين، مثل: المبرد، وأبي زيد الأنصاري ، قال أبو حاتم:" كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة، فلما أتيت على قوله تعالى:( ولقد همّتْ به وهمّ بها ) قال أبو عبيدة: هذا على التقديم، والتأخير، كأنه أراد: ولقد همت به، لولا أن رأى برهان ربه لَهمّ بها" .
والتفسير الثاني: هو أنه همّ بها قصداً وباشر المقدمات، ولكن برهان ربه منعه، وعلى هذا جمع من المفسرين، منهم ابن جرير إذ يقول:" والصواب أنه رأى من آيات ربه ما زجره عما كان همَّ به"، و منهم من يرى أن: الهمَّ الحاصل له هو القصد والإرادة، أي همّ بها بمقتضى الطبيعة البشرية.
والصحيح ـــ بل الصواب في نظري ــــ هو الرأي الأول، فإن يوسف لم يهمّ بها لرؤية برهان ربه، ولأدلة كثيرة، منها: شهادة المرأة نفسها، حين قالت: ( ولقد راودْتُه عن نفسه فاستعصم )، ومنها جواب يوسف مباشرة لقولها: ( هيت لك )، قال: ( معاذ الله …. ) بالإضافة إلى الآيات التي دلت على أن الله تعالى أوحى إليه، ومنحه العلم والحكم، وأنه من المخلصين والمحسنين، وأنه قد صرف عنه السوء والفحشاء، ثم إن ما ذكره بعض المفسرين من أن يوسف همّ بالفاحشة، وأنه حلّ السراويل، وقعد منها مقعد الرجل من اه، ثم منعه رؤية وجه يعقوب، ونحوها، كل ذلك روايات باطلة، لا أصل لها، ومتعارضة مع النصوص القطعية في عصمة الأنبياء، ومع ما ذكره الله تعالى عن يوسف في سورته، فقال تعالى: ( لنصرف عنه السوء والفحشاء، إنه من عبادنا المخلصين )، ولم يقل: ( لنمنع عنه السوء، فالصرف هو الإبعاد كلياً، كما أنه زكاه بأنه من عباده المخلصين، الذين شهد الله في آيات أخرى أن الشيطان ليس له سلطان عليهم، فلو فك يوسف سرواله وقعد منها قعود الزوج من زوجته، ثم صرف بقوة عنها، فما الذي بقي لهذا الصرف، والإخلاص؟ وكيف لا يتعارض مع قول يوسف السابق لهذه الآية: ( معاذ الله )، وغير ذلك، فتلك فرية من الإسرائيليات الكاذبة، وكذلك فما ذكروه من أن معناه: همّ بضربها، ليس عليه دليل ولا برهان، لا من اللغة ولا من القرآن.