السادس والعشرون: محنة السجن، ومشاهده:
فقال تعالى: ( ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذَٰلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ* وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ) .
فهذه الآيات تتضمن بإيجاز ما يأتي:
1- أن قرار سجنه لم يأت من المرأة والنسوة فقط، وإنما شاركهن رجالات القصر باتخاذ هذا القرار، مع أنهم كانوا يعلمون علم اليقين بأنه بريء، فكان رأس الحكم العزيز على يقين من ذلك ـــ كما سبق ـــ ، ولكن بسبب حب الجاه، وسطوة النساء، والفساد الشامل، والحكم المطلق والطغيان والأرستقراطية دفع بالحاكم إلى التضحية بالبريء للقضاء على الشائعة، حيث رأوا أن يُسْجن يوسف لتهدئة الوضع، فأودع في السجن.
2- أن يوسف لم يترك دعوته إلى العقيدة الحقة، ولذلك لما دخل معه في السجن شابان ورأيا رؤيتين، فقبْل تفسيرهما لهما شرح لهما عقيدة التوحيد بأسلوب رائع مؤثر جميل، كما بين لهما أنه متبع لملة آبائه إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، فدخلا في الإسلام، ثم فسَّر لهما الرؤيا، (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي ـــ أي اذكر مظلمتي ـــ عِنْدَ رَبِّكَ) وشاء الله تعالى أن ينسى ذلك (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) أي حوالي سبع سنوات.
ونذكر هنا بعض الوقفات المطلوبة:
أ- أن كون الإنسان في السجن أو في أي مكان لا يعفيه من أداء واجب الدعوة إلى الله تعالى، وإلى العقيدة الصحيحة.
ب- إن أجواء السجون تترقق فيها القلوب، وتعود النفوس إلى شيء من الصفاء والمراجعات، وبالتالي فإنها أكثر تقبلاً للحق، واستقبالاً للنصائح النافعة، وأكبر دليل على ذلك أن يوسف ــــ عليه السلام ـــ نجح في دعوته في السجن بنسبة 100% فقد دعا شخصين، واستجابا له فعلاً
ت- كما أن أجواء السجون مليئة بالرؤى والأحلام للظروف النفسية التي يمر بها السجناء.
ث- فقد دخل معه إلى السجن فتيان يعملان في القصر، ولكن لأي سبب أو نزوة عارضة ألقى بهما في السجن، فرأيا رؤى فقصاها عليه لما وجدا فيه من الطيبة والصلاح والوقار، فينتهز يوسف هذه الفرصة، ويشرح لهما العقيدة الصحيحة، عقيدة التوحيد الخالص، من خلال المقدمات الآتية:
• غرس ثقتهما به، من خلال نعم الله عليه من أن الله تعالى علمه تأويل الأحاديث، ومآلات الأفعال، حيث لا يأتيهما طعام إلا ويوسف يخبرهما به، وبنوعه قبل أن يصل إليهما، وهذا تكررت مشاهدتهما له من خلال صحبتهما له في السجن، ثم يؤكد على أن هذا العلم هو من عند الله تعالى، العالم بالغيب والشهادة وحده دون غيره.
• بيانه أنه من أسرة كريمة من الأنبياء والمرسلين.
• انتقاده للقوم ـــ بيت العزيز وحاشيته والملأ ــــ الذين تركهم وهم لا يؤمنون بالله إيماناً حقاً، وأنهم بالآخرة كافرون.
• ثم بين ملة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب أنها ملة على التوحيد والحنيفية، وهو الدين الحق.
• ثم بين بأن اتباع العقيدة الحقة نعمة عظمى، ومن فضل الله تعالى على الجميع، ولكن أكثر الناس لا يشكرون الله تعالى على هذه النعمة، نعمة الدين الخالص الحق.
• ثم وجه إليهما مباشرة كلمة هزت بها كل قوائم الشرك والطاغوت هزاً عنيفاً وشديداً، وحرَّكت قلوبهما نحو الإصغاء، وهي: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)، وناداهما بهذا الخطاب المحبب، ووضع الحقيقة أمامهما ليجيبا عنها: (أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)؟وهو سؤال موجه إلى الفطرة، وإلى العقول المستقيمة، التي تعلم أن البشرية قد شقيت بتعدد الآلهة والأرباب، وسعدت بتوحيد الله تعالى في خلقه، وفي ربوبيته، وألوهيته، وجميع صفاته