السابع والعشرون : مشهد بداية المنح الربانية في التمكين:
قال تعالى : ( وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ( قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ).
نذكر مجموعة من اللطائف والإضاءات المهمة ، منها :
1ـ أن الله تعالى إذا أراد شيئاً هيأ له أسبابه ، ولذلك جعل رؤيا الملك هذه سبباً لنجاة يوسف وبراءته وكشف علمه وقدرته على الإدارة والتخطيط ، فتلك من سنن الله تعالى، وفي ذلك توجيه لعباده نحو الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله تعالى.
إن المراد بالملك هنا وبما بعده هو غير العزيز الذي كان بمثابة رئيس الوزراء ، والملك يبدو أنه كان دستورياً ، والقرآن الكريم من خلال مصطلح الملك، والعزيز في سورة يوسف يشير إلى أن ذلك العصر لم يكن عصر الفراعنة الذين ذكرهم القرآن الكريم في قصة موسى عليه السلام، وإنما عصر الهكسوس، وقد أثبت التاريخ ذلك
2ـ إن الملِك عبر عن رؤياه بصيغة التأكيد، ثم طلب منهم الإفتاء الذي يخص بيان الحكم لأمر واقع ولحادثة، وهذا يدل على مدى رسوخ إيمان الملك بأن رؤياه حق وواقع يحتاج إلى البيان، وكذلك عبر الفتى عنها فقال:" أفتنا"، ولكن الملأ من الكهنة والمستشارين ردوا على الملك بأن رؤياه هذه " أضغاث أحلام " أي رؤيا مختلطة وأنها أخلاط رؤى كاذبة لا حقيقة لها ، فهي من باب حديث نفس فيختلط فيها الصدق والكذب .
2 ـ إن الملِك شكك منذ البداية في قدرتهم على تعبير الرؤيا فقال (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) حيث عبر بكلمة " إنْ " الدالة على التردد والشك، ولكن الملأ لم ينفوا عن أنفسهم القدرة على التعبير ، وإنما حكموا على رؤيا الملك بأنها من باب أضغاث أحلام ، وبالتالي فهم لا يقدرون على تفسيرها وتعبيرها ، فلو كانت من باب الرؤيا لكانوا قادرين على تأويلها؟ أو أنهم حكموا عليها، ثم قالوا (وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ ) ولكن تعبيرهم بهذا الأسلوب لَيكشف أنهم لم يكونوا على المستوى المطلوب من العلم والحكمة واللباقة الأدبية، وكأنه بهذا يشير إلى أن حاشية الملِك لم يكن لهم ميزة معتبرة.
3ـ إن ردَّ الملأ على الملك بهذه الصراحة لدليل على أن الملك لم يكن مستبداً طاغوتاً يخاف منه كما هو الحال في عهد الفراعنة القدامى ، والفراعنة الجدد ، بل سكت عما قالوه له، في حين لو كان في عهد فرعون لما استطاع أحد أن يقول مثل هذا الكلام.
ولكن الله تعالى هيأ الفتى الذي أخبر الملك بأن هناك شخصاً قادراً على تأويل رؤياه، ففرح الملك بذلك ، وأرسله إليه .
والمراد بقوله ( وادَّكر بعد أمة ) أي تذكر حال يوسف بعد زمن ، وقال بعضهم أي بعد نسيان ، لأن ( أمة ) جاءت بمعنى نسيان وقرأ بعضهم بكسر الهمزة أي بعد نعمة النجاة .
4ـ خاطب الفتى يوسف بقوله : يوسف أيها الصديق ، حيث جرَّبه في السجن بأنه الصادق في قوله ، وفي تفسيره وتعبيره للرؤيا، ثم نقل ألفاظ الرؤيا بدقة ، لأنه يريد تأويلها بدقة ، وهذا يستدعي نقل الرؤيا بمنتهى الصدق .
5ـ وقوله ( لعلهم يعلمون ) أي يعلمون فضلك وعلمك وقدرتك على التعبير وصدقك فيكون ذلك سبباً في إخراجك من السجن