ا.د. علي محيي الدين القره داغي

جريدة الوطن – الدوحة

وهناك نظرية التعويض الاحتمالي التي أخذ بها القضاء الفرنسي القديم، وهي تعني أن الشرط الجزائي ليس إلاّ التقدير المسبق للتعويض المحتمل نتيجة عدم تنفيذ العقد أو التأخير فيه، ولذلك يحق للقاضي أن يعدل المبلغ المحدد مسبقاً تبعاً للضرر الحقيقي، وقد انتقدت هذه النظرية أيضاً انتقاداً شديداً بسبب أنها تـلغي الحكمة التي من أجلهـا وضع الشـرط الجزائي في العقد، وتهـدم احترام الإرادة التعاقـديـة.

وتذهب نظرية أخرى إلى أن الشرط الجزائي اتفاق وبالتالي فلا يجوز السماح للقضاء بزيادته، أو تخصيصه.

وإضافة إلى ذلك فإن الالتزام بالشرط الجزائي تابع للالتزام الأصلي بحيث إذا سقط الأصل أو بطل سقط التابع وبطل دون العكس، وأن الشرط الجزائي لا يعتبر التزاماً تخييرياً ولا التزاماً بدلياً لأن الدائن لا يستطيع إلاّ أن يطلب تنفيذ الالتزام الأصلي ما دام ذلك ممكناً.

والقوانين المدنية الغربية والعربية قد نظمت الشرط الجزائي في باب المقاولة، فقد نصّت المادة 223 م م إلى أنه: (يجوز للمتعاقدين أن يحددا مقدماً قيمة التعويض بالنص عليها في العقد، أو في اتفاق لاحق، ويراعى في هذه الحالة أحكام المواد من 215 إلى 220، ومثل ذلك ما ورد في القانون المدني العراقي م170 والسوري م424 والليبي م226 واللبناني م226.

فشروط استحقاق الشرط الجزائي هي نفس شروط استحقاق التعويض من وجود خطأ من المدين، وضرر يصيب الدائن، وعلاقة سببية ما بين الخطأ والضرر، واعذار المدين أي إنذاره ومطالبته بالتنفيذ.

ويترتب على الشرط الجزائي أنه يجب على المدين الوفاء بما تم الاتفاق عليه في العقد، وإذا لم يحقق ذلك فإن مضمون الشرط الجزائي يكون واجب التنفيذ بشروطه، وأن القاضي يحكم به دون تخفيض ولا زيادة إعمالاً لإرادة العاقدين من حيث المبدأ، ولكن نصّت المادة 224 على أمرين مهمين جعلتها النصوص التي لا يجوز مخالفتها حيث نصّت على ما يأتي:

1 ـ لا يكون التعويض الاتفاقي مستحقاً إذا أثبت المدين أن الدائن لم يلحقه أي ضرر.

2 ـ يجوز للقاضي أن يخفض هذا التعويض إذا أثبت المدين أن التقدير كان مبالغاً فيه إلى درجة كبيرة، أو أن الالتزام الأصلي قد نفذ جزء منه.

3 ـ ويقع باطلاً كل اتفاق يخالف أحكام الفقرتين السابقتين.

وتنص المادة 225 على ما يأتي:

إذا جاوز الضرر قيمة التعويض الاتفاقي، فلا يجوز للدائن أن يطالب بأكثر من هذه القيمة إلاّ ثبت أن المدين قد ارتكب غشاً، أو خطأ جسيما.

التكييف الفقهي أو الشرعي للشرط الجزائي:

من المعلوم أن جمهور الفقهاء على أن الأصل في الشروط هو الإباحة، وبالتالي فكل شرط لم يخالف نصاً من كتاب الله وسنة رسوله، أو الإجماع فهو شرط مقبول عندهم.

ومن هنا فالشرط الجزائي مقبول من حيث المبدأ، ولكن الشرط الجزائي نوعان: نوع على التأخير في العمل والتنفيذ، ونوع آخر على الديون.

النوع الأول: الشرط الجزائي المتضمن تعويضاً محدداً على التأخير في تنفيذ الأعمال، أو عدم تنفيذه مطلقاً، وله صور من أهمها:

1 ـ الشرط الجزائي المقترن بعقد المقاولة، أو الاستصناع المتضمن دفع مبلغ محدد عن كل يوم، أو شهر من التأخير عن الموعد المحدد للتنفيذ والتسليم.

2 ـ الشرط الجزائي المقترن بعقد الإجارة على العمل سواء كان الأجير أجيراً خاصاً برب العمل، أو مشتركاً، وذلك بأن يشترط عليه مبلغاً محدداً إذا تأخر في تنفيذ العمل، أو يخصم منه مبلغاً محدداً من الأجرة، وهذا ما يطلق عليه في القانون عقود العمل.

وكذلك الحكم في الإجارة الأعيان مثل اشتراط خصم مبلغ معين إذا تأخر المؤجر في تسليم العين المؤجرة.

والشرط الجزائي في هذا المجال جائز يجب الوفاء به للأدلة الكثيرة الدالة على الوفاء بالعقود والعهود والشروط، وقد صدر بذلك قرار من مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره السابع بجدة في 7-12-11-1412هـ الموافق 9-14 مايو 1992 حيث نص على أنه: يجوز في عقد الاستصناع أن يتضمن شرطاً جزائياً بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان ما لم تكن هناك ظروف قاهرة. والله أعلم.

النوع الثاني: الشرط الجزائي على تأخير في سداد الديون، ومن المعلوم أن معظم ذلك في المرابحات والبيع الآجل، فما حكم الفقه الإسلامي في هذا لإجراء؟

للإجابة عن ذلك نقول: إن المدين الذي يتأخر في السداد نوعان:

الأول: المدين المعسر الذي لا يقدر على الوفاء بديونه فقد اتفق الفقهاء على وجوب إنظاره لقواه تعالى: «وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة»، قال القاضي ابن العربي: إن لم يكن المدين غنياً فمطله عدل، وينقلب الحال على الغريم فتكون مطالبته ظلماً.

وقد وضع مجمع الفقه الإسلامي معياراً للإعسار حيث نص على أن ضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار هو أن لا يكون له مال زائد عن حوائجه الأصلية يفي بدينه نقداً أو عيناً.

الثـانــي: المـديـن المـوسـر الممـاطـل، وهـذا هـو الـذي ينـصـب البحـث عليـه.

ومن المتفق عليه بين الفقهاء أن مطل الغني ظلم وإثم وعدوان بل جعله الجمهور كبيرة من الكبائر، وذلك لما ورد في ذلك الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مطل الغني ظلم».

ولكن الذي يثور حول هذا الموضوع هو أن هل تترتب على هذا الظلم عقوبات دنيوية؟ وما نوعية هذه العقوبات؟ ومن الذي له الحق في فرض هذه العقوبات وتنفيذها؟ هل الأفراد أم السلطة القضائية؟

وقد أقر الفقهاء جواز فرض العقوبات التعزيرية من ضرب أو حبس، أو نحو ذلك على مطل الغني بناء على الحديث السابق، والحديث الذي رواه أحمد وأصحاب السنن والحاكم وصححه وابن حبان والبيهقي بسندهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليُّ الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته» قال الحاكم صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، ورواه البخاري تعليقاً، وقال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن.

وإذا كان فرض عقوبات تعزيرية على مطل الغني جائزاً، فإن الفقهاء حصروها في أن هذه السلطة التي تستطيع فرض العقوبات التعزيرية هي السلطة القضائية، وليست من حق الأفراد، والشركات، قال المناوي في شرح هذا الحديث: يحل عرضه بأن يقول له الدائن: أنت ظالم، أنت مماطل ونحوه مما ليس بقذف ولا فحش، وعقوبته بأن يعزره القاضي على الأداء بنحو ضرب أو حبس حتى يؤدي.

وبعد هذا العرض السريع ننتقل إلى اختلاف الفقهاء المعاصرين في هذه المسألة حيث اختلفوا فيها على ثلاثة آراء:

الرأي الأول: عدم جواز فرض غرامة التأخير مطلقاً.

الرأي الثاني: جواز فرض غرامة التأخير على المدين الموسر المماطل ولكن لا يجوز للدائن أن يأخذها، بل يجب عليه أن يصرفها على الفقراء، والجهات الخيرية.

الرأي الثالث: جواز فرض غرامة التأخير وعدم وجود الحرج في أن يقوم الدائن بالاستفادة منه، وبعض هؤلاء حددها بمقدار الضرر الفعلي، وبعضهم أجازه مطلقاً.