جريدة الوطن القطرية
يواصل د. علي محيي الدين القره داغي عرض كتابه المشكلة الاقتصادية وحلها والذي ننشر حلقاته يوميا على صفحات «رمضانيات»، وقد تناولنا فيه عبر الحلقة الماضية (الأزمات الإقتصادية المؤثرة على دول العالم) وعرضنا مشاكل العولمة والبورصة العالمية، وفي هذه الحلقة يتحدث عن (الأزمة الإقتصادية العالمية … حجمها وأسبابها وآثارها).
جاء الفكر الشيوعي من قبل أصحابه ماركس وغيره بمثابة رد فعل على الرأسمالية ومظالمها، فوقف تماماً في الاتجاه المعاكس (180 درجة ) فألغى الملكية الفردية تماماً، وأسند ملكية جميع وسائل الإنتاج إلى الدولة، بل ألغى الحرية الفردية في التملك، والإنتاج والاستهلاك، وأصبحت الدولة هي التي تدير كل ذلك، وأقيم على أسسه وبنيانه الاتحاد السوفياتي السابق، الذي استطاع أن يكون القطب الثاني المقابل لأميركا، بل للغرب الرأسمالي كله، وطبق النظام الشيوعي في مجال الاقتصاد أيضاً في ظل دولة قوية صرفت قوتها للحفاظ على هذا النظام وبقائه، واستمراره، ولكنه بعد أربع وسبعين سنة ( 1917 – 1991) سقط الفكر الشيوعي بجميع أشكاله السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فترك دولاً وشعوباً في غاية من الفقر والمشاكل ـ كما رأينا ـ لذلك لا نتكلم عن مشاكله وتحدياته، إذ سقوطه النهائي أكبر دليل على عدم الحاجة للحديث عن ذلك. ولكن الذي ينبغي الإشارة إليه هنا هو أن الفكر الشيوعي اصطدم مع فطرة التملك التي فطر الناس على حبه منذ ولادته، فقد عالج عيوب الرأسمالية بالبتر والقطع، وليس بالعلاج والحكمة، فكان مثله كمثل من أصيبت عينه بالأوجاع فجاء إلى أحد فقلعها، بدل أن يعالجها، وكذلك اصطدم الفكر الشيوعي الاتحادي بفطرة التدين، وأكثر من ذلك فقد كانت وسيلة فرض آرائه وأفكاره هي القمع والاكراه والتنكيل بالمخالفين، والاستبداد والدكتاتورية الظالمة القاهرة.
وأما الصين فقد ساعد نظامها الشيوعي في البقاء أن الحركة التصحيحية قد بدأت منذ الستينيات من القرن الماضي، وأن القيادة الجديدة منذ الثمانينيات قد أخذت بكثير من الأفكار الرأسمالية المقيدة، واقتصاد السوق، فالملكية الفردية لم تلغ في النظام الشيوعي في الصين، كما ألغيت في النظام الشيوعي السوفياتي، ثم اتسعت دائرتها في الصين منذ السبعينيات والثمانينيات، وكذلك الحال في الحرية الفردية التي تتعلق بالإنتاج والاستهلاك..، حيث إن الدولة في العقود الأخيرة أعطت ساعات واسعة للشركات الخاصة، والشركات المساهمة العامة للمواطنين، للتصنييع الخاص في ظل الرعاية الحكومية.
الأزمة الاقتصادية العالمية الاعصار المالي الحالي، حجمها وأسبابها وآثارها: حجم الأزمة الاعصار:
إن حجم الأزمة ضخم جدا ً، ولذلك يمكن وصفها بالاعصار، أو الانهيار للنظام الرأسمالي، فقد سمته الفاينانشال تايمز بـ المعضلة البنيوية، وبالتالي فهي ليست مجرد حركة تصحيحية للأسواق المالية، فقد بلغت خسائرها في أميركا والعالم الغربي اليوم أكثر من واحد وثلاثين تريليون دولار، وترتب عليها افلاس عدد كبير من المؤسسات المالية الكبرى التي يزيد عمرها على مائة عام، بل إن بنك ليمان براذرز الذي أنشئ في القرن التاسع عشر في أميركا، وظل صامداً أمام الأزمة المالية الكبيرة عام 1929م، انهار بضربة قاضية في هذه المرة مع بداية ظهور الأزمة في الحلبة وأعلن إفلاسه في 15 سبتمبر2008م،، كما أن أكبر شركات التأمين وإعادة التأمين إي آي جي AIG انهارت وسيطرت الحكومة الأميركية على 80% منها مقابل قرض بقيمة 85 مليار دولار لدعم سيولة الشركة.
وقد وضعت الحكومة الأميركية خطة انقاذ قدمتها إلى الكونغرس الذي وافق عليها بعد تعديلات وذلك لضخ 700 مليار دولار من أموال دافعي الضرائب لعلاج الموقف، ثم قدم أوباما خطة انقاذ أخرى بمبلغ 819 مليار دولار في بداية عهده (فبراير2009). سرعة الأزمة كالنار في الهشيم المحق: إن العالم قد فوجئ بسرعة انتشار هذه الأزمة التي ظهرت بقوة في أميركا خلال العام 2008، ثم ما لبثت حتى بلغت أوروبا وآسيا، والعالم كله بغنييه وفقيره، فكانت كالنار في الهشيم، حيث إن الوصف الدقيق هو المحق لكل هذه الترليونات (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا). وقدمت الحكومة البريطانية إلى الآن أكثر من 438 مليار دولار لمساعدة بنوكها ومؤسساتها المالية، وتأميم بعضها، بل إنها أعلنت عن خطة دعم في حدود 875 مليار دولار، في حين قدمت فرنسا ضمانات للقروض في حدود 320 مليار يورو، وألمانيا 480 مليار يورو، والنمسا 100 مليار يورو، والصين 600 مليار دولار، وقررت ستة بنوك مركزية عالمية ضخ 247 مليار دولار في أسواق المالية العالمية، ودعم المصرف المركزي الأميركي، حيث يضخ المصرف المركزي الأوروبي 110 مليارات دولار، والمصرف المركزي السويسري 27 ملياراً والياباني 60 ملياراً، والبريطاني 40 ملياراً، والكندي 10 مليارات. وهكذا معظم الدول القادرة حسب إمكاناتها، وصندوق النقد الدولي مما يدل على ضخامة حجم الأزمة المالية وعالميتها، فهي أسوأ أزمة شهدها العالم خلال القرون الأخيرة.
ومن أهم مظاهر هذه الأزمة المالية في البداية ما يأتي :
1.سحب الإيداعات من البنوك بشكل مفزع، وذلك لأن الناس يرضون بأقل العوائد من ودائعهم التماساً للأمان، وثقة بالبنوك، وتجنباً للمخاطر، لذلك فإذا خف هذا الأمان هرعوا إلى سحبها.
2.افلاس مئات من البنوك والمؤسسات المالية الكبرى، حيث تم إعلان إفلاس صندوقين للتحوط تابعين لبنك (BEANER ST EARS) بعد خسارة ناتجة عن الرهون العقارية في 1 أغسطس2007، وتبعه في 6 أغسطس 2007 عاشر أكبر مقرض بالرهن العقاري (America Home Mortage) ثم تبعه في 31 أغسطس 2007 أكبر مقرض بأميركا (أميركاست AMERIQEST ) ثم في 14 سبتمبر 2007 أفلس البنك البريطاني نورثن روك، فحدث هلع في بريطانيا. وفي 11 نوفمبر 2008 أعلن بنك (أوف أميركا) خطط شراء كاونتري وايد المالية بـ 4.1 مليار دولار، وفي 11 يونيو 2008 سيطر المكتب الفدرالي على بنك آندي ماك(INDY MAC Bank) الذي يعتبر ثاني أكبر مؤسسة مالية تنهار في التأريخ الأميركي، وفي 7 سبتمبر2008 أعلنت الحكومة الفدرالية السيطرة على فاني ماك (FANIE MAC) وفرندي ماك (FRENDDIE MAC)، وأعلن بنك (أوف أميركا) سيطرته على مريل لينش في 14 سبتمبر2008،، وأعلن الاحتياطي الفيدرالي في 16 سبتمبر2008 التدخل لانقاذ أكبر شركة تأمين في العالم: أميركان انترناشيونال جروب، كما أن مؤسسة واشنطن ميوتبول التي تعد من كبار المقرضين على مستوى العالم انهارت.
وليس إفلاس المؤسسات المالية محصوراً في أميركا، أو أوروبا، بل هي أزمة عالمية حقاً، فقد تأثر بها العالم أجمع، فقد أفلس عدد غير قليل منها في الصين، وفي روسيا أكثر، حيث غادرتها مئات المليارات، وأفلست 27 شركة، ونزلت قيمة الروبل أمام الدولار بنسبة 20%.3.نقص السيولة وبالتالي تجميد الاقراض.
4.انخفاض قيمة الأسهم ومؤشرات البورصات العالمية والاقليمية بشكل كاد أن يصل في بعض الدول إلى مرحلة الانهيار.
5.الهلع والخوف بشكل خطير مما أدى إلى اضطراب في سلوك الأفراد والنشاط الاقتصادي.
6.هروب أو سحب الأموال المستثمرة في العالم الاسلامي عامة، ومن الخليج بالذات، حيث سحبت من دبي أكثر من 800 مليار، فتوقفت معظم المشاريع العملاقة.7.ضعف حركة الصادرات والواردات بين العالم الاسلامي وغيره.
8.تأثر الصناديق الاستثمارية والسيادية، العربية، والخليجية تأثراً كبيراً حيث تشير التقارير إلى أن قيمتها قبل الأزمة كانت في حدود 2 تريليون ونصف، والآن يتساءل هل بقي منها النصف؟ !!.
ويبدو مما ذكر أننا نخسر مرتين، مرة بسحب استثمارات الغرب من بلادنا، ومرة بوجود أموالنا في الغرب حيث تقل قيمتها، أو تخسر كلها، أو بعضها!!! فلو كانت أموالنا مستثمرة في بلادنا هل كنا نخسر مرتين أو أكثر؟ وقد وصلت العدوى بسرعة هائلة إلى أوروبا الغربية، فاهتزت بنوكها الكبرى، فتدخلت البنوك المركزية بمئات من المليارات، لوقف هذا التصدع الهائل، فمثلاً أصبح بنك هايبوريال استيت ثاني أكبر بنك في ألمانيا على وشك الانهيار، حيث أصبح بحاجة إلى ضخ خمسين مليار يورو لانقاذه.
وضخت الحكومات الثلاث بلجيكا، لوكسمبورغ، هولندا حوالي 15.4 مليار يورور في بنك فورتيس حتى لا ينهار، وهكذا…… حجم انهيار النظام المالي الأميركي: وحتى يظهر حجم الافلاسات، أو الانهيار للنظام المالي الأميركي نذكر هنا تقريراً نشرته صحيفة (FINANCIAL TIMES) ونقلته صيحفة الشرق القطرية جاء فيه: (يتوقع الخبراء انهيار ما يقرب من 100 مؤسسة مالية بحلول نهاية العام الجاري2008م في ظل الأزمة المالية الراهنة، وذلك إذا ما استمرت حالات الانهيار التي تشهدها المصارف الأميركية في الوقت الحاضر، والتي بلغت 14 مصرفاً منذ مطلع هذا العام. وبعد أن أعلنت السلطات الفيدرالية المنظمة للقطاع المصرفي سيطرتها على بنك «سيلفر فولس» في ولاية أوريجون يوم الجمعة الماضي، بلغ عدد المصارف التي أعلنت إفلاسها خلال الأسابيع الستة الماضية 14 مصرفاً. وشهد العام الماضي انهيار 25 مصرفاً، في الوقت الذي تتسارع فيه وتيرة انهيار المصارف الأميركية في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية التي طالت آثارها السلبية حتى الآن العديد من مجالات الاقتصاد الأميركي وفي مقدمتها القطاع المصرفي. ويرى مراقبون أن استمرار الركود سيدفع بالمزيد من الأفراد والمؤسسات للتخلف عن سداد ديونها، مما سينعكس بدوره سلباً على القطاع المصرفي ويسارع من تهاوي مؤسساته.
إلى ذلك، توقع جيرارد كاسيدي، الذي يعمل لدى مؤسسة «آر سي كابيتال ماركيتس»انهيار 1000 مؤسسة مالية، بأرصدة مجتمعة تصل إلى 50 مليار دولار، خلال فترة تتراوح ما بين ثلاثة إلى خمسة أعوام مقبلة. وأضاف قائلاً: «نعتقد أنه كلما سارعت الجهات المنظمة بإغلاق المصارف المتعثرة، سارع القطاع في الوقوف على قدميه.» ويذكر أن الأزمة المالية التي تعصف بالاقتصاد الأميركي تلقي بظلالها الكئيبة على المصارف هناك، حيث يستمر تداعي القطاع وبمعدل انهيار مصرف واحد كل أسبوع في المتوسط، وهو الأمر الذي يعني تضاعف عدد المصارف المفلسة خلال العام الحالي بالمقارنة مع العام الماضي.
وكان 25 مصرفاً أميركياً قد أعلن إفلاسه خلال عام 2008، وهو يعد، أعلى معدل سنوي منذ عام 1993 الذي شهد انهيار 42 مصرفاً.ويتوقع خبراء اقتصاديون أن يستمر مسلسل انهيار المصارف الأميركية هذا العام في ظل أزمة اقتصادية طاحنة وتوقعات اقتصادية متشائمة. في الوقت نفسه، ينتظر هؤلاء الخبراء تقرير «مؤسسة التأمين على الودائع الفيدرالية» الحكومية»، ربع السنوي والذي ينشر في غضون أيام، إذ من المتوقع أن يلقي هذا التقرير نظرة فاحصة على صحة القطاع المصرفي. في الربع الثالث من عام 2008. وأبرز نقاط التقرير التي يترقبها الخبراء لائحة «المصارف المتعثرة»، ويتوقع ارتفاعها إلى 171 مصرفاً، حتى نهاية الربع الثالث من العام. بيد أن الخبراء يشككون في مصداقية لائحة «المصارف المتعثرة» نظراً لانهيار جزء يسير للغاية من تلك المصارف المرشحة للانهيار، إلا أن تضخمها يعتبر مؤشرا على عمق الأزمة التي تعصف بالاقتصاد الأميركي). وأخيراً اختفت 38 شركة يابانية من تداول أسهمها في بورصة طوكيو خلال النصف الأول من عام 2009 بسبب الإفلاس أو التعثر.
وفي هذا العام 2009 أعلن إفلاس أكثر من 130 بنكاً وشركة، منها شركة جنرال موترز العملاقة التي ظلت تحتل المرتبة الأولى في العالم لمدة أكثر من مائة عام.