الرابع والثلاثون: مشهد معالجة اتهام أخي يوسف بالسرقة، وإخبار أبيه بهذه المصيبة:
قال تعالى: (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ارْجِعُوا إِلَىٰ أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ قَالُواْ تَاللَّه تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ )
1- (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ) يدل على أنهم بذلوا جهوداً كبيرة في سبيل تخليص أخيهم، ولكنهم لم ينجحوا فوصلوا إلى مرحلة اليأس، وحينئذ تركوا الأمر، كما أن صيغة الجمع تدل على أن الجهد كان من الجميع، وأن اليأس أصابهم جميعاً.
2- قوله تعالى: (خَلَصُوا نَجِيًّا) أي تميزوا عن غيرهم، واعتزلوا وانفردوا عن بقية الناس وبدؤوا يتشاورون فيما بينهم: ما ذا يفعلون؟
3- (قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ ) يدل على أنه لم يكن راضياً.
4- (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ) يدل على أنه لم يكن راضياً، وهو الذي قال لهم: لا تقتلوا يوسف، وهو يهودا الذي كان أكبرهم في الفعل حيث ذكرهم بتفريطهم في يوسف وعهد أبيهم، ثم قال: إنه يبقى إلى أن يأذن له أبوه ( أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين )
5- قوله تعالى: (ارْجِعُوا إِلَىٰ أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) يظهر فيه من هذه الأقوال ثقتهم بالنفس، وتغيير أسلوبهم عن أسلوبهم السابق عندما ادّعوا أن يوسف( عليه السلام ) قد أكله الذئب من خلال العبارات الآتية: أ- أتوا بالأدلة المقبولة عقلاً، وهي السؤال من أهل القرية، والقافلة التي كانوا فيها. ب- ثم اكدوا بصيغة الجزم ( وإنا لصادقون )
6- ولكن مشكلتهم أن لهم سابقة غير مصدقة فلم تشفع لهم ، ولذلك لما أخبروه بذلك، وأتوا بالأدلة على صدقهم ردّ عليهم والدهم، قال: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ )
7- أن هذه القصة حول أخي يوسف تشبه قصة يوسف في نظر يعقوب، وأن فيها كيداً ومكراً، لأنه ما كان يصدق أن ابنه الذي رباه يسرق.
8- وأما أمام الله تعالى فالتزم بالصبر الجميل، والثقة المطلقة، والتوكل عليه وحده.
9- ازداد أمله بالانفراج الكبير" اشتدي وانفرجي " فقال: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم). وهكذا تكون ثقة الأنبياء بربهم، حيث كلما اشتدت الأزمة وزادت المصائب ازدادت الثقة بالله تعالى بالنصر والانفراج.
10- ثم علل هذا الأمل بأن الله تعالى عليم بكل الأمور ظاهرها وباطنها ومنها حاله، حكيم في شؤونه وتصرفاته، ويأتي بكل أمر في وقته المناسب عندما تتحقق حكمته في ترتيب الأسباب والنتائج.
11- ومع الحزن الشديد ليعقوب ــ عليه السلام ــ لكنه لم يغفل عن ذكر الله ، والتوكل عليه طرفة عين، ولم يخالط شغاف قلبه يأس أو قنوط، بل هو الذي قال لأبنائه: (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُون).
12- اختار التولي عنهم؛ لأنه أحسَّ أنه منفرد بهمِّه وحيد بمصابه لا تشاركه هذه القلوب التي حوله، فقال: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ ) ، ولكنه يكظم غيظه وحزنه ويتجلد فيؤثر في اعصابه حت تبيض عيناه حزناً وكمداً، لكن أولاده لم يرحموه بل واجهوه بكلمة فظة، فقالوا: ( تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ) ، وهذا يعني أن يوسف ميؤوس منه في نظرهم وأن الأسى بلا جدوى ، فردَّ عليهم بهذا القول العظيم: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) بل يطلب منهم السعي لإرجاع يوسف وأخيه، فيعطيهم درساً عظيماً.
13- إن هذه المصائب الجديدة قد جددت حزنه القديم على يوسف، وأن الأسى الجديد يبعث الأسى القديم من جديد، والحزن أمر طبيعي ومن خصائص إنسانية الإنسان ولذلك لا يلام عليه، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم عندما ما ابنه إبراهيم:" إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون"