جريدة الوطن القطرية 18/08/2010 يواصل د. على محيي الدين القره داغي عرض كتابه (المشكلة الاقتصادية وحلها) والذي ننشر حلقاته يوميا على صفحات «رمضانيات»، وقد تناولنا فيه عبر الحلقة الماضية (اثار الفقر من الناحية الاقتصادية و العلمية والثقافية) وعرضنا الآثار السلبية للفقر المدقع، وفي هذه الحلقة يتناول فضيلته الحديث عن اثار الفقر الصحية والاجتماعية وجزء من اثارها السياسية : من
اثار الفقر الاجتماعية والصحية :
1- نقص الخدمات الصحية والسكنية ونحوهما، فمما لا شك فيه أن هذه الأمراض المذكورة وغيرها يرتبط جميعها ارتباطاً ـ مباشراً أو غير مباشر ـ بالفقر وانعدام الامكانيات المادية، وانخفاض الخدمات الصحية، فمثلاً يوجد في الدول المتطورة أوروبا مثلاً طبيب فيما يقابل 250-500 شخص طبيب، وأما في الدول النامية (ومعظم دولنا الاسلامية ) يوجد في مقابل 7400-18000 شخص طبيب واحد.
كما أن الشعوب الفقيرة تعاني من نقص الخدمات الأساسية من مياه الشرب الصالحة، والمسكن المناسب، تقول مصادر الأمم المتحدة: إن أكثر من نصف سكان بنغلاديش يعيشون دون مستوى الكفاف، وتنقل وكالة رويتر أن 10% من سكان دكا من الشحاذين، وأن نسبة النساء 34% منهم، وان 12% منهم من الأطفال والمراهقين والمراهقات، يقول الدكتور الطويل: (فلقد شاهدتهم بنفسي منذ سنوات يفترشون بالآلاف أرصفة الشوارع…فالأجساد الهزيلة المريضة الجائعة تتكدس بأسمالها البالية متراصة على جوانب الطريق…. فأين التكافل الاسلامي ؟ ).
ويقول الدكتور حمدي عبدالعظيم: ( نستنتج من جدول رقم 8 أن نسبة السكان الذي يحصلون على مياه نقية صالحة للشرب إلى إجمالي السكان في الدول الفقيرة ضئيلة جداً تتراوح بين8% -56% أما في الدول المتقدمة فلا تقل عن 100%، وبالنسبة للصرف الصحي فإن أرقام البنك الدولي تشير إلى أن نسبة السكان الذين يحصلون على هذه الخدمات…تتراوح بين 6% في باكستان، 22% في زائير، وذلك في مقابل 100% في الدول الصناعية المتقدمة).
2- التبعية الاجتماعية، حيث ان معظم الفئات الغنية القادرة تبذل كل جهودها لاستغلال الفقر لصالح مصالحها الاقتصادية، والسياسية، وشراء أصواتهم بأموال لمكاسب سياسية، إضافة إلى التبعية الاجتماعية للدول المانحة، حيث لا تعطي الأموال ـ مجاناً ـ وإنما تحاول التغلغل في المجتمع الفقير بالتاثير فيه دينياً واجتماعياً، وجعله تابعاً لها، كما حدث أثناء الحرب الباردة، حيث كان العالم النامي مقسماً على المعسكرين الرأسمالي، والشيوعي، وكان الدولة تعطى لها الأموال حينما تترك معسكراً إلى الآخر.
3- التلازم بين الفقر المدقع والتخلف، فحيثما كان الفقرـ وبخاصة المدقع ـ يؤثر تأثيراً مباشراً ويؤدي إلى تحقيق التخلف للمجتمع، فالفقير الجائع غير قادر على المساهمة الجادة في تحقيق التنمية، إلاّ اذا أخذ بيده وتمت مساعدته.
4- أثر الفقر على أمية المرأة التي هي نصف المجتمع، فالنساء في البلدان النامية وفي ظل الفقر المدقع لا يتاح لهنّ التعليم أصلاً، أو مواصلة التعليم على الأقل، والخلاصة أن التجارب الواقعية، والوقائع المشاهدة، والدراسات العلمية تربط بين الفقر، وبخاصة الفقر المدقع، والأمية، فالفقر والحرمان يصنعان بيئة معوقة تمنع، أو تقلل من امكانية التعلم مطلقاً، أو التعلم المؤثر على الأقل.
5- هجرة العقول والعمالة إلى الخارج، فقد أشارت التقارير الحديثة في الهند ـ مثلاً ـ الىأن حوالي 30% من خريجي معاهد القضاء وعلوم الكومبيوتر، والكيمياء، والهندسة الميكانيكية في الهند يهاجرون سنوياً إلى أميركا وكندا وغيرها.
وقد عقد في القاهرة مؤتمر لمناقشة هذه الظاهرة الخطيرة، توصل من خلاله إلى أن وراءها مجموعة من الأسباب حيث ذكر ضمن البحوث أن مصر وحدها هاجر منها إلى الخارج أكثر من 824000 عالم في مختلف التخصصات، ونشرت جريدة الحياة دراسة أعدها مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية في الامارات إلى أن الدول العربية تتكبد خسائر مذهلة لا تقل عن مائتي مليار دولار سنوياً بسبب ما يعرف بهجرة العقول العربية إلى الخارج، وأظهرت الدراسة أن 5.4% من الطلبة العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى أوطانهم وأن 34% من الأطباء الأكفاء في بريطانيا هم من العرب علماً بأن عدد الأطباء العراقيين فقط في بريطانيا وحدها 2000 طبيب وأن 75% من الكفاءات العلمية المهاجرة تتجه نحو أميركا، وبريطانيا، وكندا، ومن الملاحظ أن هجرة العقول تدخل أيضاً في الآثار الاجتماعية السلبية لأنها تؤدي إلى خلخلة الوضع الاجتماعي، وتدخل كذلك في الآثار العلمية السلبية، وفي الآثار الاقتصادية السلبية للفقر.
6- التفكك الأسري وزيادة الطلاق، أو عدم الزواج أصلاً، حتى إن الاسلام أمر من كان فقيراً بالعفاف فقال تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) وذلك لخطورة الفقر على الأسرة، فالزوج العائل إذا لم يجد مالاً ينفق على عياله الذين يتضورون جوعاً، أو يموتون بسبب عدم الدواء والغذاء يفكر ـ إن لم يكن تقياً ـ في أية وسيلة لتحصيل المال، ولذلك يستغل تجار المخدرات هؤلاء الفقراء ويغرونهم بالمال حتى يوقعوهم في شباك التهريب والترويج لسموم الموت، بل إن الله تعالى أشار إلى ما كان يفعله الجاهليون من قتل أولادهم بسبب الفقر فعلاً، او الخوف من وقوعه فقال تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) وقال تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا).
ومن واقعية الفقه الاسلامي أن الفقهاء أجازوا التطليق قضاءً بسبب الاعسار وعدم القدرة على الانفاق.
7- زيادة الجرائم بين الشباب، والنساء، والأحداث، فلا شك أن للفقر أثره الكبير في زيادة الجرائم التي تقع من الشباب، أو النساء، أو الأحداث، حيث ترى المدرسة الاجتماعية في تفسير الاجرام أن الأحوال الاقتصادية السيئة تحتل المرتبة الأولى في مسؤولية الجنوح نحو الاجرام، وأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الجريمة والدورات الاقتصادية، فالبيئة التي فيها الفقر والبطالة هي البيئة التي تكثر فيها جرائم المال والاغتصاب والقتل ونحوها ـ هذا بلا شك إذا جرد المجتمع من قيمه الدينية المؤثرة ـ وذكرت بعض الدراسات الاجتماعية أن 25% من أطفال المناطق الفقيرة يجنحون إلى الجريمة، في حين أن النسبة في المناطق المتقدمة لا تزيد على 1%، وكذلك تدل الدراسات الاجتماعية على ان انتشار البغاء والدعارة له ارتباط كبير بالفقر والمناطق الفقيرة، وقد عملت مقابلات مع النساء الداعرات في تركيا في عهد أربكان ـ عندما كان رئيساً للوزراء ـ فتبين أن نسبة كبيرة منهن دفعتهن الظروف المعيشية والجهل إلى هذه المهنة، وأن نسبة تزيد عن 95% مستعدات لتركها إذا أتيح لهنّ معيشة مناسبة مع زوج صالح، ولذلك فرق بعض الباحثين بين البغاء في المجتمعات الفقيرة الذي يرتبط بالحاجة، والبغاء في المجتمعات المتقدمة الذي يرتبط بالتحلل الجنسي والترفيه.
وهكذا تعاطي المخدرات، وتهريبها، حيث أوضحت بعض الدراسات: أن أكثر الفئات تهريباً وتعاطياً للمخدرات هم الفقراء، ومتوسطو الجهل، حيث تأتي مرتبة الأغنياء في المرتبة الثالثة، وذلك لشيوع الجهل فيما بينهم والهروب من المشاكل وغير ذلك كما تشير الاحصائيات إلى أن حجم استهلاك المخدرات في الهند وصل إلى 250 طناً مترياً عام 1987 وفي باكستان 34 طناً مترياً، وفي دراسة للمجلس القومي للأمومة والطفولة بمصر تبين أن 16% من الشباب جربوا المخدرات، و4% منهم أدمنوا عليها، وأن مصر تكبدت خلال السنوات العشر الأخيرة 178 مليار جنيه، ولكن الواقع أن المخدرات منتشرة حتى في الدول الخليجية الغنية مما يستدعي دراسة عميقة مفصلة لجميع أسبابها التي لا تقتصر على سبب واحد، ولذلك فإن هذه النسب يمكن أن تصدق مع التهريب، واستغلال الفقراء لذلك.
خامساً ـ الآثار السياسية للفقر:
حيث يترتب على شيوع الفقر في المجتمع عدة آثار سياسية منها:
1- الاستبداد السياسي، والتبعية السياسية في الداخل من خلال أن القوة تكون لأصحاب الأموال والنفوذ، وشراء الذمم في الداخل، والتبعية السياسية للخارج، اي للدول الاستعمارية المانحة للقروض والمساعدات.
والواقع الفعلي للشعوب الفقيرة أنها تعاني من الاستبداد السياسي والدكتاتورية المطلقة، وأن للفقر دوراً في صنع المستبد والدكتاتور الذي يعتمد على الشعارات البراقة وعلى دعم الطبقات الجاهلة، وابعاد الطبقات المتعلمة والسياسية عن مراكز القرار، والمشاركة السياسية، ومؤسسات المجتمع المدني، وبالمقابل إعطاء الدور الأكبر للعسكر، والانفاق العسكري، لذلك يظهر لنا بوضوح أن هناك خطة لتطبيق سياسة التجويع والافقار في عالمنا الاسلامي لاعداده للاحتلال المباشر من جديد (والله المستعان).
2- الاضطراب السياسي وعدم الاستقرار، حيث تدل التجارب الواقعية على أن الفقر أحد أسباب الفوضى والاضطراب، وأن معظم المشاكل السياسية تعود إلى الفقر والعوز والحرمان، وأن غنى الشعب أحد أهم الأسباب لاستباب الأمن، لأن الأمن من مصلحته، ومصلحه ماله فيحافظ عليه، ناهيك أن المجتمع الفقير محروم تنقص فيه نسبة المتعلمين، وتزداد فيه نسبة الأمية، ولا سيما إذا رأى الفقير المعدوم أن الأغنياء يتمتعون بغناهم المفرط وهو يتضور جوعاً، فلا يستبعد منه أن يبذل كل جهده للفوضى والاضطراب حتى يكون الجميع سواء، ناهيك عن استغلاله من قبل الأعداء للتجسس وإثارة المشاكل والقلاقل، كما يحدث الآن في بعض الدول الفقيرة.