السابع عشر: دروس وعبر علمية:
توجد مجموعة عظيمة من الدروس والعبر في قوله تعالى:( إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ).
من أهم هذه الدروس:
1-إن سوء التقدير في الحكم، وعدم التثبت في حقائق الأمور وظروفها وملابساتها يوقع الإنسان في مطبات خطيرة، فقد كان تقدير الإخوة للأمر غير صحيح، وحكمهم على أبيهم بأنه يفرق بينهم حكماً ظالماً؛ لأن أباهم كان يحب يوسف وأخاه بنيامين، لأنهما كانا صغيرين توفيت أمهما، في حين أن إخوتهما العشرة كانوا كباراً، ومن أم واحدة، ما زالت موجودة معهم، فيكون من الطبيعي أن يكون حب يعقوب لهما لصغرهما، وفقدان أمهما، حتى يعوضهما حنان الأم، والمثل العربي يقول:" أحب أولادي: الصغير حتى يكبر، والغائب حتى يعود، والمريض حتى يشفى".
وقد اعترف الإخوة بأن يعقوب يحبهم، ولكن حبَّه يوسف وأخاه أكثر، وهذا يدل عليه التعبير بكلمة" أحب "، فهم بينوا استحقاقهم لحب أكبر، أنهم عصبة قوية، تقوم بواجبات البيت، وهذا أيضاً مبني باطل لقياس حب الوالدين.
وحتى لو ثبت أن حب والدهم يعقوب ـــ عليه السلام ـــ ليوسف وأخيه كان أكبر، فهل يكون جزاء ذلك قتل الغلام البريء؟ فما ذنبه هو؟.
2- إن حكمهم على أبيهم بأنه في ضلال مبين بسبب حبه ليوسف وأخيه حكم ظالم، لا يتناسب مع الفعل الذي ارتكبه، وفي هذا إشارة إلى ضرورة الدقة في الحكم، بحيث يكون مطابقاً للفعل.
3- تبنى إخوة يوسف قاعدة خطيرة جداً، وهي أن الغاية مطلقاً تبرر الوسيلة، فقد زعموا أن غايتهم هي خلوص وجه أبيهم لهم، وتلك تتحقق بقتل يوسف، أو إبعاده، أو إلقائه في الجب، وترد على هذه القاعدة الفاسدة وذلك التصور الخاطئ الملاحظات الشرعية والإنسانية الآتية:
أ-أن هذه القاعدة بهذه الصورة التي طبقوها متناقضة مع جميع الأديان السماوية والقواعد الأخلاقية الإنسانية، والفطر السليمة؛ إذ كيف يستباح دم امرئ مسلم، أو إلقاء غلام صغير لم يبلغ الحلم في غيابات الجب؛ لأجل غاية موهومة، حتى ولو لأجل غاية محققة.
ب- إن القتل والظلم والإخراج منصوص على تحريمه، منذ نزول آدم وحواء، وقتل أحد أبنائه الآخر، فقال تعالى: ( مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ) ، وسجل القرآن الكريم حرمة الإخراج، فقال تعالى: ( وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ۚ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ، فكيف استسهلوا القتل، والإخراج، ووضع غلام صغير في البئر للهلاك أو الضيع، أو الاستراقاق لأجل غاية صغيرة موهومة.
ت- إن غايتهم كانت صغيرة وأنانية أيضاً، وموهومة غير متحققة لما يأتي:
أ- أن غايتهم لم تكن إرضاء والدهم، بل كانت خلوص وجهه لهم، وتلك غاية صغيرة وأنانية.
ب- إن نسبة تحقق تلك الغاية ضئيلة جداً لما يأتي:
1 بقاء أخي يوسف الذي يمكن أن يخلو وجه أبيه له، وليس لهم.
2 إن جريمتهم لن يصدقها والدهم كما قالوا : (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ)، وبالتالي فيترتب عليها المزيد من الابتعاد وعدم الرضا عنهم، وعدم النظر إليهم ـــ كما حدث ــــ.
3 إن ادعاء الصلاح الذي ربطوه بقتل نفس بريئة لأمر غريب ومستهجن شرعاً وعقلاً وفطرة، وكان بإمكانهم أن يحققوا الغاية بأمور أخرى.
4 إن لومهم كان لأبيهم، وحتى مع صحة ذلك، فكيف يعاقب شخص آخر على ذلك، وقد قال تعالى: ( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى، أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) ، فهذه القاعدة إلهية فطرية نطق بها جدهم إبراهيم عليه السلام.
والخلاصة إن هذه الآيات التي سجلت هذا المشهد تبين الحقائق الآتية:
•إن الإنسان حينما يريد ارتكاب جريمة يسعى لإقناع نفسه ـــ على الأقل، وغيره بشتى الوسائل ـــ بمبررات ظاهرية أو موهومة، حيث قالوا: ( اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ )، أي أن الحسد دفعهم إلى ارتكاب أكبر جريمة بعد الشرك وبرروا ذلك بأن يوسف شغل والدهم عنهم، فإذا فقده اتجه إليهم ويكونون بعده قوماً صالحين.
•إن الذي يريد ارتكاب جريمة يبذل كل فكره لأن يجعل عمله مشروعاً بالقوة، ويزين لنفسه جريمته، وتساعده على ذلك شياطين الإنس والجن، وحتى إخوة يوسف ربطوا بين فعلهم هذا وصلاحهم، وبذلك يفقد المجرم الإحساس بالمسؤولية، وتأنيب الضمير، فيرتاح نفسياً، ولذلك تجب على المؤمن عند إرادة الجريمة العودة إلى معيار الشريعة التي قررت كون الفعل جريمة أو لا، وليست إلى الأهواء والطغيان.
•ضرورة أن يكون النظر إلى الفعل والحكم عليه دقيقاً، وتصوره عميقاً، والنية خالصة، والتقوى موجودة، حتى يكون التقدير سليماً، والحكم صحيحاً.
•خطورة الغيرة والحسد بين الأبناء والإخوة والأقارب.
•ضرورة رعاية الوالدين لمشاعر الجميع، حتى الكبار، ولا يظنن أحد أن الكبار ليسوا بحاجة إلى العطف والحنان، حتى لا يترك مجالاً للشيطان بأن يثير الغيرة والحسد فيما بينهم، فهؤلاء أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ــــ عليهم السلام ـــ تربوا في بيت النبوة، وفعلوا ما فعلوا، ولذلك لا يستبعد تكرار ذلك في أي بيت آخر.
•إن البغض والحقد والحسد يعمي البصيرة وحتى البصر، والشاهد لذلك أن إخوة يوسف لما رأوا أن صاع الملك قد أخرج من وعاء أخي يوسف الشقيق قالوا: ( إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُون).