الدوحة – الشرق

الحلقة : الرابعة

الطغاة المستبدون يسيرون دائماً على إضعاف الشعب، والأمة، وإحداث التفرقة بينها، وجعلهم شيعاً وفرقاً متنافرة.

وقد سجل الله تعالى هذه الأقوال في القرآن الكريم من خلال فرعون قدوة حكام السوء، فقال تعالى : (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) فأوضح هنا أن رأيه هو الرأي الأوحد، وأنه ليس هناك رأي آخر، وأن رأيه معصوم حيث لابد لكم إلاّ سبيل المجد والرشاد والقوة، ولذلك كان الشعب عنده حقيراً لا قيمة له، فقال تعالى مبيناً هذه الحقيقة (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ).

ولننظر في الآيات الآتية التي توضح نفسية فرعون وطغيانه وجبروته وانه يرى نفسه أفضل من غيره فقال تعالى: (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ) ثم لم يكتف بأنه أفضل من موسى عليه السلام، وإنما استخف قومه: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ) بل وصل به الطغيان إلى أن يقول: انه الههم فقال تعالى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)، بل وصل به الأمر والطغيان والدكتاتورية والاستبداد، وكبت الحريات إلى أن قتل السحرة لأنهم لم يستأذنوه في الإيمان بالله تعالى (قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ).

وقد حوّل فرعون ما عرضه عليه موسى عليه السلام من نقاش فكري وحوار عقلي وجدال نظري إلى معركة القتل والابادة فقال تعالى حكاية عنه: (قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) كما بيّن الله تعالى صفات هؤلاء الطغاة من العلو والاستكبار والاسراف والتبذير فقال تعالى : (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) كما وصفه الله تعالى بالطغيان فقال تعالى (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) وفي آية ثانية ( اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى).

كما بيّن الله تعالى أن الطغاة المستبدين يسيرون دائماً على إضعاف الشعب، والأمة، وإحداث التفرقة بينها، وجعلهم شيعاً وفرقاً متنافرة، ليتحكم فيهم، ويكون قادراً على القتل والذبح والعذاب لكل من يتصدى لهم فقال تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).

وقد قص الله تعالى في القرآن الكريم قصصاً أخرى تؤكد هذا المعنى فقال تعالى في طغيان الطاغية (نمرود) مع سيدنا إبراهيم حينما ادعى الألوهية حتى ادعى الاحياء والإماتة فقال : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ).

إذن المشكلة الأساسية في الحكم هي الطغيان وأن الحاكم يصل إلى مرحلة إلى أنه ليس مثل بقية البشر، وإن كان هذا التمايز يبدأ بأمر خفيف ليصل إلى ادعاء مرتبة الألوهية وأنه (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ).

ومن هنا فالحل الأساس هو وضع جميع الوسائل والأدوات والآليات لمنع الحاكم ادعاء هذا التمايز، وهذا ما فعله الإسلام من خلال ما يأتي:

1- الجانب العقدي الذي ركز الإسلام عليه تركيزاً شديداً، وأولى له عناية قصوى، وذلك من خلال أن العقيدة الإسلامية تقوم على أن جميع البشر بكل طوائفهم وشعوبهم وأقوامهم وأجناسهم من آدم، وآدم من تراب خلقه بيده ثم نفخ فيه من روحه، وهذا ما عليه مئات الآيات، والأحاديث الصحيحة، ولذلك لا يجوز لأحد ـ مهما بلغ ـ أن يُميّز نفسه أو يدعي أنه يمتاز من حيث الخلق على أي أحد آخر، ومن هنا ردّ الله تعالى على بني اسرائيل لمّا ادّعَوا أنهم أحباء لله وأنهم الشعب المختار فقال تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) ولم يكتف بذلك القرآن الكريم، بل أصّل ذلك حتى للأنبياء والرسل بأنهم ليسواً إلاّ بشراً، ولكن الله تعالى أوحى إليهم، حيث أكد ذلك في أكثر من آية فقال تعالى: (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) وقال تعالى : (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ)، فالمثلية في الخلق وعدم امتياز أحد في الأصل والخلق هي الأساس في التعامل الإنساني .

2- الجانب التربوي الذي يربي فيه الإسلام الإنسان على هذا المعنى الإنساني من خلال عدد من الآيات والأحاديث التي تؤصل ذلك، بل يربطه بالإيمان حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره لأخيه ما يكره لنفسه).

3- القدوة من خلال تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم وهو النبي القائد في مأكله ومشربه وملبسه، وجميع تصرفاته مع أمته، حيث لم يكن يميّز نفسه لا بملبس خاص ولا مكان ولا غيره، يقول صلى الله عليه وسلم : (أيها الناس إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد وتمشي في الأسواق) ، وكانت الآيات القرآنية تذكره دائماً بهذا الجانب (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) مؤكداً عليه أن يقول: (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) وأن يقول : (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ) .

ويدخل في هذا الباب بعض الآيات التي يفهم منها العتاب، أو التوجيه، منها قوله تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى) وقوله تعالى (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) وغير ذلك.