في حين أن النظام العالمي الجديد الذي انصهر فيه العالم أجمع يقوم على ما يسمى بمحاربة الإرهاب ، وأنه لا صوت يعلو صوت القضاء على الإرهاب ، وفي سبيل ذلك ضحّى بكل ما يسمى بحقوق الإنسان ، وحريته ، وبما يسمى بسيادة الدول واستقلالها ، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية ، بل إن كل ما يتشدق به الغرب خلال العقود الأخيرة في مجال حقوق الإنسان أصبح لا قيمة له أمام ضربة واحدة أصابت البرجين وبنـتاجون ، حيث صدرت قوانين تقيد حرية الإنسان ، ولم يبق لخصوصية الإنسان خاصة المسلم أية كرامة ، فقبض على الآلاف في أمريكا وأوربا بحجة مجرد الشبهة ، أو مجرد كونه عربياً أو مسلماً ، بل صدرت قوانين غريـبة لم تصل إليها بعد الأنظمة الدكتاتورية في العالم الثالث مثل القانون الذي أجازه الكونجرس والذي يجيز للدولة إنشاء محاكم عسكرية يحاكم فيها المشتبه فيهم من غير الأمريكان ( المسلمون ) وتصدر القرارات منها بالإعدام أو بالسجن دون أن تكون علنية ورأينا إصرار أمريكا على قتل جميع الأسرى العرب على الرغم من اتفاقية جنيف حول الأسرى والاتفاقات الدولية ، ثم القانون البريطاني الأخير الذي يجيز للشرطة القبض على أي شخص دون إذن القضاء أو النيابة .
وأخطر من ذلك تحكم أمريكا في مفهوم الإرهاب حيث أصبحت هي الحكم والخصم ، وهي التي لها الحق في تفسير معنى الإرهاب وتنـزيله على أي شخص ، أو جماعة ، أو شركة دون أي اعتبار لأية دولة في العالم ، ولا للأمم المتحدة ، فقد نادى الكثيرون بعقد مؤتمر دولي حول الإرهاب ومعناه وتفسيره ومعاييره وموازينه ، فلم توافق على ذلك أمريكا ، ومن هنا يظهر الرئيس الأمريكي بين حين وآخر ليعلن أسماء مجموعة من الجماعات ، أو الأشخاص أو الشركات بأنها تدخل في الإرهاب ، ولا يزال الرئيس الأمريكي يحمل في جعبته الكثير والكثير ، إذ أن معنى (الإرهاب) شامل ومطاط لا يستبعد أحد من المسلمين أو حتى من الحكام أن يشملهم ، فقد رأينا إدخال بعض الجمعيات الخيرية ضمن قائمة الإرهاب ، بحجة أنها ترعى أيتام المتطرفين بعد قتلهم…… إن هذا المفهوم إنْ لم يشمل البعض اليوم فيشمله غداً ، أو بعد غد ، إن استمرَّ الوضع على ذلك .
ورأينا في بداية الأحداث حينما كانت أمريكا في فزع وخوف وتردد في انتصارها في أفغانستان كيّف غيّرت خطابها مع العالم الإسلامي وحكوماتها فكسبت ودّها للتحالف ضد الإرهاب ، وكيف رفعت شعار الدولة الفلسطينية ، وأن هذه الحرب ليست ضد الإسلام ولا المسلمين وإنما ضد الإرهاب ، ثمَّ فلننظر إلى خطابها اليوم بعد نوع من الانتصار الذي حققه لها فعلاً عملاؤها ، فقد تغيّرت نبرة خطابها وتهديداتها وتصرفاتها ، لأنها لم تعد بحاجة إلى الدول العربية والإسلامية ….
واليوم يعرف الجميع أن الإسلام يتعرض لهجمات شرسة من قبل أعدائه الحاقدين في جميع الجبهات من الصهاينة والصليبين ، والوثنيين ، والملحدين والعلمانيين الحاقدين ، يحاولون جميعاً تشويه وجهه الجميل وإيجاد عوائق وموانع بينه وبين الناس وتدعمهم في هذه الحملة الشرسة جميع وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة في معظم بقاع العالم ، فما أكثر الأفلام التي تتحدث عن الإسلام لتشويهه من خلال وصفه بالقسوة والإرهاب والتخلف والهمجية ..
وأما المسلمون اليوم فحدِّث ولا حرج حول ما يراد لهم من السوء والقضاء على استقلالهم ، وسلب مواردهم ، والهيمنة على اقتصادياتهم وثرواتهم الطبيعية والمعدنية إضافة إلى محاولات تمزيقهم ، وحصارهم ، ولا أريد أن ألقي بكل اللائمة على عاتق العدّو الخارجي ، فنحن المسلمين مسؤولون أمام كل مصائبنا ومشاكلنا وتخلفنا وتفرقنا ، ولكن هذا حالنا فلا يخفى على أحد .
وقد كشفت الأزمة الأخيرة عدة حقائق من أهمها :
أن الهجمة الأخيرة لا تفرق بين الحكام والشعوب المسلمة فكلهم في سلة واحدة ، فلم ترض أمريكا من كثير من الأنظمة التي تعتبر صديقة لها وساعدتها ووقفت معها ، ولكنها في هذه المرة غير راضية ، وذلك لأن بعض هذه الأنظمة لا يمكن أن تقبل بكل الشروط التي تريد أمريكا فرضها عليها ، لأنها قامت على أسس لو نقضت لم تبق لها مصداقية ، فقد أرادت أمريكا أن تفرض على بعض الدول تغيير مناهجها التربوية التي قامت عليها الدولة ، وتريد أمريكا باسم الإرهاب التدخل في كل شيء ضاربة بعرض الحائط ما يسمى بالسيادة والاستقلال وغير ذلك ، فقد طلبت من بعض الدول أسماء خطباء المساجد ، وسوف تطلب من الجهات الخيرية أسماء الجهات والأشخاص اللذين تحوّل إليهم الأموال ، بل وقد تدخلت تماماً في النظام البنكي وفرضت شروطاً وأوامر خاصة بالتحويل ، بل إنها تراقب حركة التحويلات بكل دقة ، وأمام هذه المطالب الكثيرة لا يمكن لأي نظام يحترم نفسه أن يستجيب لها ، وإلاّ سقطت شعبياً وقد تسقط سياسياً أيضاً .
ومن هنا نحسُّ أن معظم الحكام قد قربوا من شعوبهم وعلمائهم أكثر ، وأصبحت هذه الفجوة بينهما ضيقة ، وكاد الخطاب لدى الطرفين في هذه المرة واحداً ، وعبّر أكثرهم عمّا يريده الشارع العربي والإسلامي .
وأمام هذا الوضع لماذا لا تقدم هذه الحكومات خطوة جادة نحو التصالح بينها وبين شعوبها وبينها وبين الجماعات الإسلامية والسياسية فيها ، وبالمقابل ما الذي تريده التنظيمات الإسلامية ؟
إنني أقول : المطلوب إسلامياً للتنظيمات والجماعات الإسلامية ليس الوصول إلى الحكم ، وإنما إصلاح الحكم وقيامه بتطبيق شرع الله تعالى ، فالغاية الأسمى لكل مسلم هو تطبيق شرع الله وتعمير الكون على ضوء منهج الله تعالى ، فإذا نفذ ذلك فيجب عل الجميع السمع والطاعة في المنشط والمكره .
إذن فالفجوة في حقيقتها ضيقة يمكن سدها بخطوة جادة لذلك أنادي بإنجاح هذه الخطوة الإصلاحية من الطرفين بأن تفتح الحكومات صدورها للجماعات الإسلامية وتعطي لها حريتها في الدعوة والإصلاح وتسمح لها بالعمل جهراً وعلناً حسب القوانين واللوائح المنظمة للعمل الجماعي والسياسي بعيداً عن العمل السري وتحت السرداب .
وبالمقابل تلتـزم هذه الجماعات بتحقيق الأمن وعدم الخروج عن الأنظمة واللوائح التي لا تخالف شرع الله وتسعى جاهدة لتوحيد الصف الداخلي وتقويته والوقوف صفاً واحداً أمام الأعداء الذين لم يظلوا يفرقون بين الحكام والشعوب والجماعات ، فالجميع في سلة واحدة .
ومن هنا فالواجب هو الدعوة إلى حوار شامل وجدي مدروس لتحقيق هذا الغرض المنشود ، وأرى أن في ذلك الخير الكثير ، لأن الشرّ كل الشرّ في الصراع بين الحكومة وشعبها ، فقد قالت مسز تاتشر حينما قدمت استقالتها عن رئاسة الحكومة : ( لا أريد الصراع بين حكومتي وبين الشعب ، لأن في ذلك هلاك الطرفين ) .
فمعظم البلاد الإسلامية عاشت فترة ليست وجيزة في ظل الصراع الداخلي ، والكره النفسي بين الحكام وشعوبهم ، وبالأخص الجماعات الإسلامية ، ولم يقف الأمر عند الكراهة النفسية والحقد الداخلي ، والبغض الدفين بل تجاوز إلى صراعات داخلية وحروب قاتلة أكلت الأخضر واليابس كما في الجزائر ، وكانت النتيجة خسران الجميع وتدمير البنية ، وتقتيل الأبناء والانشغال بالصراعات الداخلية والمساهمة في مزيد من التدمير ، والتخلف والتمزق والتشرد ، فمن المستفيد من هذه الصراعات ؟ لا مستفيد إلاّ أعداء الإسلام .
ولذلك حان الوقت تماماً لهذا التصالح ، والتعاون البناء فيما هو من الثوابت والأسس ، وقبول الآخر وتوجهاته في المتغيرات ، وبالأخص فإن الجماعات الإسلامية ليست كلها على منهج واحد ، فالجماعات الكبرى كالإخوان ، والسلفية ، والتبليغ ونحوها جماعات معتدلة تحترم الأنظمة واللوائح ما دامت لا تخالف شرع الله تعالى ، حيث يمكن التعاون معها ، فالإخوان في مصر منذ سبعين سنة لم تدع إلى حمل السلاح ضد السلطة ولا إلى العصيان الشعبي على الرغم من كل الإجراءات القاسية بدءاً من اغتيال مرشدها وإعدام كثير من كوادرها المتقدمة ، والتعذيب الشديد الذي نال آلافاً من أعضائها ، وكانت ولا زالت تبحث عن مخرج قانوني لإنشاء حزب سياسي علني بعيداً عن السرية .
وأعتقد أن الجو اليوم ملائم ومناسب جداً لهذا التصالح الذي يؤدي إلى قوة الدولة والشعب والقدرة على الوقوف أمام هذه المخاطر ، بل إن هذا التصالح فريضة شرعية وضرورة واقعية ، تدل على فرضيتها الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة ويفرضه الواقع الذي نمر فيه .
ومن جانب آخر فإن هناك دعوة ملحة لتصالح الجماعات الإسلامية بل توحدها على المبادئ والثوابت واحترام كل جماعة لأخرى في الوسائل والمتغيرات ، ويؤكد إمكانية ذلك أنه يلاحظ خلال الأزمة الأخيرة أن الخطاب الإسلامي لمعظم الجماعات والحركات الإسلامية ( وبالأخص الإخوان ، والسلفية ، والتبليغ ) كان خطاباً واحداً حيث التنديد بإرهاب الآمنين والمدنيين ، ووجوب نصرة المسلمين ، والولاء لهم ، فالبيانات والخُطب والنشرات التي صدرت من هذه الجماعات تكاد تتفق في مضامينها ومحتوياتها ، ولم يشذّ منها إلاّ بعض الفتاوى الفردية والتصريحات الشخصية .
وبالمقابل واجهت أمريكا الحركات الإسلامية كلها تقريباً مواجهة واحدة ، ونظرت إليها بعين واحدة ، ولم تفرق بين جماعة وأخرى ، حيث وسعت دائرة ( الإرهاب ) لتشمل الجهاد ، وحماس ، وحزب الله ، وبعض الأحزاب السلفية ولا تـزال تتسع لتشمل الآخرين ، بل إن الكلمة الأولى التي صدرت من الرئيس بوش هي الحرب الصليبية المقدسة أي ضد المسلمين جميعاً ( وإن كان قد تراجع عنها ) .
وأمام هذه الظروف فيكون توحد الجماعات الإسلامية كلها فريضة دينية تنفيذاً للآيات الكثيرة والأحاديث المتعددة التي تدل على فرضية الوحدة والتوحد إضافة إلى هذه الظروف المحيطة التي تدل على أن الأجيال اللاحقة تلعن كل من تسبب باختلافه في إضعاف الإسلام والمسلمين فقد قال تعالى : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ) ، وقال تعالى : ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ) .
ولتحقيق هذا الهدف نحتاج إلى عقد حوارات على مستويات جيدة بين قادة هذه الجماعات ومفكريها للوصول إلى برنامج عملي لتحقيق هذه الوحدة المباركة وإلاّ فنقول كما قال المثل : ( أكلنا يوم أكل الثور الأبيض ) والله المستعان .