بعد هذا العرض لأقوال الفقهاء , وترجيح رأي القائلين : بأن القبض هو التخلية حسب العرض إلا في الطعام للأدلة الدالة عليه حيث لايجوز بيعه إلا بعد كيله , أو وزنه , أو نقله وتحويله أواستيفائه , وذلك لأن ” القبض ” ورد في الشرع اعتباره , ولم يرد تفسيره فيه , وكذلك لا نجد له في اللغة معنى ًخاصاً محدداً , بل وجدناه تدور معانيه حول : الأخذ , والقبول للمتاع وإن لم يحول – كما قاله ابن الأعرابي – والتداول , والتمكن , والقدرة على الشيء – كما سبق .

 

ومن هنا فالمرجــــع في ذلك إلى العــــرف , وعلى ضــوء ذلك يمكن أن نقول في تعريفه المختار : هو : التخلية بين العاقد و المعقود عليه على وجه يتمكن من الاستلام بلا مانع , ولا حائل حسب العرف .

 

هذا هو حقيقة القبض في نظرنا لكن الدليل – كما قلنا – قام بخصوص الطعام فقيــد جواز تصرف المشتري قبل تحويله ونقـله إن كان قد بيـع جزافــاً , وقبل كيله أووزنه إن كان قد بيع كيلا ً أو وزناً .

 

التعريف بالكلمات ذات الصلة بالقبض :

 

1- التعريف بالتخلية  :

 

لما كان المراد بالقبض هو التخلية في جميع الأشياء عند الحنفية , وفي العقار عند الجمهور نرى من الضروري أن نشرحها شرحاً موجزاً .

 

التخلية : لغة ًمن الخلاء , فيقال : خلا المكان , و الشيء ويخلو إذا لم يكن فيه أحد , ولا شيء , ويقال , امرأة خلية أي ليس عليها قيد الزوج , وخلى الأمر أي تركه [1] .

 

وفي اصطلاح الفقهاء التخلية : هي أن يمكن العاقد من التصرف في المعقود عليه دون مانع , ففي البيع مثلا ً إذا أذن البائع للمشتري في قبض المبيع مع عدم وجود المانع حصلت التخلية ,  ويعتبر المشتري قابضاً للمبيع [2].

 

جاء في الفتاوى الهندية ” وتسليم المبيع هو أن يخلى بين المبيــع وبين المشــتري على وجــه يتمكن المشتري من قبضه بغير حائل , وكذا التسليم في جانب الثمن ” [3]  .

 

وقال الكاساني : ” فالتسليم و القبض عندنا هو التخلية , والتخلي , وهو أن يخلي البائـع بين المبيع وبين المشتري برفع الحائل بينهما على وجه يتمكن المشتري من التصرف فيه , فيجعل البائع مسلماً للمبيع , والمشتري قابضاً له , وكذا تسـليم الثمن من المشتري إلى البائـــع [4] .  

 

 

مدى الفرق بين القبض و التخلية :

 

اتجه بعض الفقهاء إلى أن القبضَ هو فعل المشتري , والتخلية ُفعل البائع , فهو يخلي المشتري ويمكنه من التسليم , والأخير بدوره يقبض و يتسلم [1] , ولا يخفى أن هذا الاتجاه نظر إلى معناهما اللغوي , وأما الفرق بين معنيهما في الاصطلاح فهو أن القبض والتخلية متساويات عند الحنفية فكلاهما بمعنى واحد , وأما على ضوء من اشترط في القبض الكيل أو الوزن أو النقل فإن معنى التخلية يكون أعم , والقبض أخص – كما سبق – فعلى ضوء ذلك فالتخلية قبض في العقـــار إتفاقـاً  وفي غيره محل خلاف .[2]

 

2- التسليم والتسلم :

 

التسليم لغة ً : هو إعطاء الشيء لآخر فيقبضه , والتسليم هو قبضه وأخذه , فكلاهما ” من سلم ” جاء في القاموس : ” وسلمته إليه تسليماً فتسلمه : أعطيته فتناوله ” [3] .

 

و الحنفية ساووا بين التسليم , والقبض والتخلية بناء على مذهبهم في عدم التفرقة بين المنقول وغيره في القبض , ولذلك يقول الكاساني : ” وأما تفسير التسليم والقبض , فالتسليم والقبض عندنا هو التخلية والتخلي .[4]

 

لكن جمهور الفقهاء لمّا كانوا يفرقون بين المنقول وغيره فيكون معنى التسليم أعم من معنى التخلية , إذ قد يكون بها , وقد يتم بالنقل , أو الكيل أو نحوه كما سبق .

 

والتسليم في البيع – مثلا ً– يتم بتسليم المبيع والثمن دون أحدهما فقط [5] ,  والتسليم في باب السلم لابد أن يتم تسليم الثمن في المجلس عند الجمــهور – الحنفية , و الشافعية , والحنابلة [6] ,  في حين أجاز المالكية تأ خيره إلى ثلاثة أيام [7] .

 

3- الحيـــــازة :

 

هي لغة ًبمعنى الجمع , وضم الشيء , كالحوز , والاحتياز[8]  .

وفي اصطلاح الفقهاء : هي وضع اليد على الشيء المحوز[9] , وعلى هذا المعنى تكون بمعنى القبض , وقد صرح بذلك المقداني , حيث قال : ” والحاصل : الحوز والقبض شيء واحد ” [10]   وجاءت ” الحيازة بمعنى أخص من القبض عند المالكية , حيث عرفوها بأنها : ” هي وضع اليد  والتصرف في الشيء المحوز كتصرف المالك في ملكه بالبناء والغرس , والهدم , وغيره من وجوه التصرف [11]  , وقد ذكر الخطاب ثلاث مراحل للحيازة أضعفها : السكنى والازدراع , ويليها الهدم والبنيان , والغرس , والاستغلال , ويليها التفويت بتصرف ناقل للملكية مثل البيع , والهبة والصدقة ونحوها مما لا يفعله الإنسان إلا ّ في ماله [12]  .

 

4 ـ  يدًا بيـــد :

 

ورد في الحديث الصحيح في قبض الأموال الربوية الستة ” يداً بيد ” [13]  والمراد به أن يتم التقابض في مجلس العقد . الحديث – ومعهم جمهور الفقهاء – بأن يكون حالا ً مقبوضاً في المجلس قبل افتراق أحدهما عن الآخر[14] ,  وفسره الحنفية بأن يكون عيناً بعين , أي لا يكون عيناً بعين بدليل رواية لمسلم بلفظ ” عيناً بعين ” [15] , وقالوا : إن المراد به هو التعيين فقط دون التقابض الفعلي , إلا في النقود ” الدراهم والدنانير ” حيث أنها لما كانت لا تتعين بالتعيين – أي في نظر الحنفية – اشترط فيها التقابض , أما غيرها – من طعام , ومكيل وموزون – فلا يشترط التقابض , وإنما التعيين , لأن الغرض من القبض هو التمكن من التصرف , وذلك يتحقق بالتعيين[16]  .

 

5- هـاء و هـاء :

 

 وردت هذه الكلمة في الحديث الصحيح الخاص باشتراط التقابض والفورية في بيع الذهب والفضة ونحوهما حيث جاء فيه : ” الذهب بالذهب رباً إلا هاء و هاء, والبر بالبر رباً إلا هاء و هاء , والشعير بالشعير رباً إلا هاء و هاء , والتمر بالتمر رباً إلا هاء و هاء [17] .

 

وكلمة ” هاء ”  قال الحافظ ابن حجر : ” بالمد وفتح الهمزة , وقيل بالسكون وحكى القصر بغير همز , وخطأها الخطابي , ورد عليه النووي وقال : هي صحيحة لكن قليـلة , والمعنى خـذ وهـات [18] ,  ويقول ابن منظور : ” فقد اختلف في تفسيره , فقال بعضهم أن يقول كل واحد من المتبايعين هاء , أي خذ , فيعطيه ما في يده , ثم يفترقان , وقيل معناه : خذ وأعط , وقال الأزهري : ” …. إلا هاء و هاء أي إلا يداً بيد كما جاء في الحديث الآخر , والأصل فيه هاك وهات ” [19]  .

والخلاصة أن هاتين الكلمتين يراد بهما التقابض في المجلس , – كما سيأتي – .

 

 6- العقـار والمنقول :

 

من الألفاظ ذات الصلة الكبيرة بمسألة القبض ” العقار ” و ” المنقول ” حيث تدور التفرقة في كيفية القبض عليهما – كما سبق – لذلك ينبغي التعريف بهما هنا :

 

فالعقار – بفتح العين – لغة ً : المنزل والضيعة , وخصّ بعضهم بالعقار النخل , وكذلك العقر – بفتح العين وسكون القاف – قالت أم سلــمة لعائشــة (رضي الله عنــها ) عند خـروجها إلى البصرة : ” سكن الله عقيراك فلا تصرحيها ” أي أسكنك الله بيتك وعقارك وسترك فلا تبرزيه , قال ابن الأثير : ” هو اسم مصغر مشتق من عقر الدار , وقال الزمخشري : كأنها تصغير العقــرى ويقـال : عقــار البيــت أي متاعه ونضــده الذي لا يتبــدل إلا في الأعيــاد , واستعــمل ” عقار ” بالضم بمعنى متاع البيت , وبمعنى نوع من الثياب الأحمر , وبمعنى الخمر وهو الأكثر و وعقر الدار أصلها ووسطها , وهو محلة القوم [20]  .

 

وفي الحديث روى أنه – صلى الله عليه وسلم – قال : ” من باع داراً أو عقاراً فلم يجعل ثمنه في مثله كان قمناً أن لا يبارك فيه ” [21] ,  وقال أنس بن مالك : ” لما قدم المهاجرون المدينة من مكة وليس بأيديهم , وكانت الأنصار أهل الأرض والعقار ……” [22] ,  والحديثان يدلان بوضوح على أن العقار يطلق على غير الأرض حيث أطلق في الحديث الثاني على ما يقابل الأرض ما يدل على أنه غيرها , أو على الأقل أنه يطلق على غيرها .

 

وفي اصطلاح الفقهاء ثار خلاف فيما بينهم حيث ذهب الحنـفية إلى أن العقار : ” ما له أصل ثابت لا يمكن نقله , و تحويله ” , كالأراضي والدور [23]  . 

 

فالعقار عندهم لا يشمل البناء والشجر , لكنهم يلحقونها به حكمـاً على ســـبيل التبعية , ومعنى هذا – كما يقول أستاذنا الزرقاء : ” أن البناء والشجر في النظر الفقهي , لهما اعتباران : فهما منفردين من المنقولات , وهما مع العقار عقار بالتبعية ” [24] .

 

وذهب الجمهور – المالكية والشافعية والحنابلة – إلى أن العقار يشمل الأرض والبناء والشجر[25]  .

 

والذي يظهر رجحانه رأي الجمهور وذلك لأن لفظ العقار أطلق في اللغة على الأرض والبناء والمتاع , وكذلك أطلق في الأحاديث على غير الأرض أيضاً – كما سبق , بل ورد حديث   صحيح آخر يدل على اطلاق ” العقار ” على الأرض والبناء صراحة ً “, وهو ما رواه البخاري بسنده عن أبي هريرة قال قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ” اشترى رجل من رجل عقاراً له  فوجد الرجل الذي اشترى العقار  في عقاره جرة فيها  ذهب , فقال له الذي اشترى العقار : خذ ذهبك مني , إنما اشتريت منك الأرض , ولم أبتع منك الذهب ……[26] ,  فالمراد بلفظ ” عقاراً ” هنا الدار – بلا شك – الشاملة للأرض والبناء كما يدل على ذلك بقية الحديث .

 

وأما المنقول فالمراد به هنا هو ما يمكن نقله وتحويله , وبعبارة أدق هو غير العقار , فيشمل المكيلات والموزونات , والحيوانات والسيارات والطائرات والسفن , ونحوها [27] .

 


 


([1]) مغني المحتاج للخطيب الشربيني , ط. بيروت 1955( 2/72) .

([2]) المصادر السابقة في التعريف بالقبض .

([3]) القاموس المحيط , ط . مؤسسة الرسالة ص (1448) .

([4]) بدائع الصنائع (7/3248) .

([5]) حاشية ابن عابدين (4/42) وحاشية الدسوقي (3/147) ونهاية المحتاج (2/74) والمغني مع الشرح الكبير , ط. المنار بمصر (4/270) .

([6]) ابن عابدين (4/208) ومغني المحتاج (2/102) والمغني مع الشرح الكبير (4/328) .

([7]) حاشية الدسوقي (3/195) .

([8]) القاموس المحيط , ولسان العرب , مادة ” حوز ” . 

([9]) البهجة شرح التحفة لأبي الحسن التسولي , ط . دار المعرفة , بيروت 1397 هجري (1/168) . ويراجع بحث د. نزيه حماد في القبض ص (3)

([10]) حاشية ابن رحال المعداني على شرح ميارة (1/109) .

([11]) كفاية الطالب الرباني شرح ابن أبي زيد القرواني (2/340) .

([12]) مواهب الجليل (6/222) .

([13]) جزء من الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه (3/1211) .

([14]) عون المعبود شرح سنن أبي داود (9/199) وتكملة المجموع (10/96) , ويراجع حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني (2/192) , والمجموع (9/404) والمغني لابن قدامة (4/11, 51- 52) .

([15]) صحيح مسلم , المساقاة (3/1210) .

([16]) البحر الرائق (6/141) .

([17]) رواه البخاري في صحيحه , كتاب البيوع مع فتح الباري (4/377- 378) ومسلم في صحيحه , المساقاة (3/1209) .

([18]) فتح الباري (4/378) .

([19]) لسان العرب .

([20]) لسان العرب , والقاموس المحيط , مادة ” عقر ” .

([21])  رواه ابن ماجه في سننه (2/832) باسنادين عن سعيد بن حريث عن طريق اسماعيل بن ابراهيم , وهو ضعفه البخاري و أبو داود وغيرهما , انظر تهذيب التهذيب (1/279) ورواه أحمد (4/307) وفي رواية أخرى عنده (3/467) زيادة ” أو غيره ” بعد ” مثله ” .

([22]) صحيح البخاري مع الفتح – كتاب الهبة (5/243) .

([23]) حاشية ابن عابدين ط . مصطفى الحلبي (4/361) .

([24]) الأستاذ مصطفى الزرقاء : المدخل إلى نظرية الالتزام العامة في الفقه الإسلامي ص (103)

([25]) يقول الخراشي (6/164) : ” والعقار هو الأرض وما اتصل بها من بناء أو شجر ”   ويراجع : الروضة (5/69) والغاية القصوى (2/599) ومغني المحتاج (2/71) وكشاف القناع (3/202) .

([26]) صحيح البخاري مع الفتح – الأنبياء (6/515- 517) .

([27]) تراجع المصادر الفقهية التي سبق ذكرها عند الكلام عن القبض .