لاخلاف بين الفقهاء في أن العقود الفاسدة لا يترتب عليها قبل القبض المعقود أي أثر شرعي غير أن الحنفية ذهبوا إلى أن العقود الفاسدة إذا أعقبها القبض فإنه يترتب عليه بعض الآثار الشـرعية هذا من جانب , و من جانب آخر فإن جمهور الفقهاء يرتبون على القبض في العقود الفاسدة بعض الآثار من حيث الضمان ونحوه [1] .
والفرق بين الجمهور وبين الحنفية في هذه المسألة : أن الحنفية جعلوا الآثار التي تترتب على القبض في العقد الفاسد من آثار العقد نفسه , في حين أن الجمهور لم ينظروا إلى العقد الفاسد , وإنما رتبوها على القبض والرضا من الطرفين به .
ونحن نذكر هنا آراء الفقهاء في هذه المسألة , وبعض نصوصهم التي توضح المراد .
فالحنفية وسعوا في أثر القبض في العقد الفاسد على تفصيل ذكره فقهــاؤهم , جاء في الدر المختار : ” وإذا قبض المشتري المبيع برضا بائعه صريحاً صريحاً , أو دلالة – بأن قبضه في مجلس العقد دون أن ينهاه – في المبيع الفاسد … ملكه إلا في ثلاث : في بيع الهازل , وفي شراء الأب من ماله لطفله , أو بيعه له كذلك فاسداً لا يملكه حتى يستعمله … وإذا ملكه تثبت كل أحكام الملك إلا خمسة لا يحل له أكله , ولا لبسه , ولا وطؤها , – أي إذا كانت جارية – ولا أن يتزوجها منه البائع , ولا شفعة لجاره …. ولا شفعة بها ” .
وقد فصل الحنفية في هذه المسألة وفرقوا بين بعض أنواع الفاسد , فقالوا مثلا ً أن العقد الفاسد يسبب الإكراه إذا تم القبض برضا المكرَه – بفتح الراء – فقد زالت عنه جميع آثار الفساد , أما لو تم القبض فيه بدون رضاه , ثم باعه المشتري إلى شخص آخر , أو وهبه , أو أعتقه فإن هذه التصرفات كلها تنقض , أما إذا كان الفساد بغير الإكراه وباعه المشتري بيعاً صحيحاً باتاً لغير بائعه , أو وهبه وسلم , أو أعتقه بعد قبضه , أو وقفه , أو رهنه , أو أوصى به , أو تصدق به نفذ البيع الفاسد في جميع ما مر , وامتنع الفسخ لتعلق حق العبد به , أما ما قبل هذه التصرفات فإنه يمكن لكل واحد من الطرفين أن يفسخه , كما أنه لا يبطل حق الفسخ بموت أحدهما [2] .
وقد لخص العلامة علاء الدين السمرقندي (ت 539) أحكام القبض في العقد الباطل والفاسد في المذهب الحنفي تلخيصاً جيداً يحسن ذكره , فقال : ” إن كان الفساد من قبل المبيع بأن كان محـرماً نحو الخمر , والخنزير , وصيد الحرم و الإحرام فالبيع باطل لا يفيد الملك أصلا ً, وإن قبض , لأنه لا يثبت الملك في الخمر , والخنزير للمسلم بالبيع , والبيع لا ينعقد بلا مبيع ….
وإن كان الفساد يرجع للثمن … كما إذا باع الخمر … فإن البيع ينعقد بقيمة المبيع , ويفيد الملك في المبيع بالقبض … وكذلك إذا كان الفساد بإدخال شرط فاسد , أو باعتبار الجهالة , ونحو ذلك , وإن ذكر المبيع , والثمن فهو على هذا يفيد الملك بالقيمة عند القبض .
ثم في البيع الفاسد إنما يملك بالقبض إذا كان بإذن البائع , فأما إذا كان بغير إذنه فهو كما لو لم يقبض …. وذكر محمد في الزيادة : إذا قبضه بحضرة البائع فلم ينهه , وسكت إنه يكون قابضاً ويصير ملكاً له .
ثم المشتري شراءً فاسداً هل يملك التصرف في المشتري , وهل يكره ذلك ؟ فنقـول : ” لا شك أنه قبل القبض لا يملك تصرفاً ما لعدم الملك .
وأما بعد القبض فيملك التصرفات المزيلة للملك من كل وجه , أو من وجه , نحو الإعتاق , والبيع , والهبة , والتسليم …. ” .
وأما الكراهة فقال الكرخي : يكره التصرفات كلها , لأنه يجب عليه الفسخ لحق الشرع , وفي هذه التصرفات إبطال حق الفسخ , أو تأخيره فيكره , وقال بعض مشايخنا : لا يكره التصرفات المزيلة للملك , لأنه يزول الفساد بسببها , فأما التصرفات التي توجب تقريراً لملك الفاسد فإنه يكره , والصحيح الأول .
وأما المشتري شراءً فاسداً إذا تصرف في المشتري بعد القبض فإن كان تصرفاً مزيلا ً للملك من كل وجه كالإعتاق والبيع والهبة فإنه يجوز , ولا يفســخ , لأن الفساد قد زال بزوال الملك , وإن كان تصرفاً مزيلا ً للملك من وجه أو لا يكون مزيلا ً للملك فإن كان تصرفاً لا يحتمل الفسـخ كالتدبير , والاستيلاد والكتابة فإنه يبطل حق الفســخ , وإن كان يحتمل الفسـخ كالإجارة فإنه يفســخ [3] .
وأما جمهور الفقهاء فعلى الرغم من أنهم لم يعترفوا بالتفرقة بين العقد الباطل والعقد الفاسد من حيث المبدأ لكنهم رتبوا بعض الآثارعلى القبض في العقد الفاسد , يقول ابن رشد : ” اتفق العلمـاء على أن البيوع الفاسدة إذا وقعت ولم تفت بإحداث عقد فيها أو نماء : إن حكمها الرد أعني رد البائع الثمن , والمشتري المثمن , واختلفوا إذا قبضت وتصرف فيها بعتق , أو هبة , أو
بيع , أو رهن , أو غير ذلك من سائر التصرفات . هل ذلك فوت يوجب القيمة أو كذلك إذا نمت أو نقصت ؟ فقال الشـافعي : ليس ذلك فوتاً , ولا شبهة ملك في البيع الفاسد , وإن الواجب الرد , وقال مالك : ” كل ذلك فوت يوجب القيمة إلا ما روى عنه ابن وهب في الربا : ” أنه ليس بفوت …..[4] .
فمذهب مالك في هذه المسألة هو أن البيوع الفاسدة عنده تنقسم إلى محرمة , ومكروهة , فأما المحرمة فإنها إذا فاتت بعد القبض مضت بالقيمة وأما المكروهة فإنها إذا فاتت بعد القبض صحت عنده , قال ابن رشد : ” وربما صح عنده بعض البيوع الفاسدة بالقبض لخفة الكراهة عنده في ذلك ” [5] .
وجاء في رسالة القيرواني ( ت 386 هـ ) وشرحه للنفراوي : ” وكل بيع فاسد – لفقد شرط , أو وجود مانع – فضمانه من البائع , لبقائه على ملكه حيث لم يقبضه المبتاع , فإن قبضه المبتاع قبضاً مستمراً , فضمانه من المبتاع من زمن قبضه , قال العلامة خليل : وإنما ينتقل ضمان الفاسد بالقبض …. , لأنه قبضه على جهة التملك لا على جهة الأمـانة , فإن لم يقبضه فلا ضمان ولو مكنه البائع من قبضه , وقيدنا القبض المستمر للاحتراز عما إذا اشترى سلعة شراءً فاسداً فقبضها , ثم ردّها إلى البائع على وجه الأمـانة , أو غيرها فهلكت فإن ضمانها من بائعها , لأن هذا القبض بمنزلة العدم ” .
وقد اعتبر مالك تغير حال السوق – بأن تغير ثمنه بزيـادة أو نقص بنسبة الربع – أو تغيـر المعقود عليه بصغر وكبر بعد القبض كالهلاك , فعلى هذا إذا قبض المشتري في العقد الفاسد المعقود عليه ثم تغير ثمنه , أو ذاته فلا يحق له أن يرده على بائعه , لانتقال ملكـه إليه بهذا التغيير الذي هو بمثابة الفوات , بل عليه قيمته يوم قبضه إذا كــان قيمياً , وعليه مثله إذا كان مثلياً كالمكيول والموزون , وأما العقارات فلا تؤثر فيها حوالة الأسواق كالمثلي , بل لا بد من ردّها لفساد بيعها [6] .
وقد ذكر العلامة النفراوي عدة أمور هامة حول هذه المسائل منها أن كلام القيرواني يشعر بأن المبيع في العقد الفاسد بعد قبضه يحل تملكه , وذلك لأنه جعل الضمان على المشتري بعد قبضه , وهذا على عكس بيع الميتة والزبل , والكلب فلا ضمان على المشتري ولو قبضه وأدى ثمنه كما قاله ابن القاسم .
ومنها أن الضمان في البيع الصحيح يختلف عن الضمان في البيع الفاسد حيث أن العقد الفاسد وحده دون القبض لا يؤدي إلى ترتيب الضمان على المشتري , في حين أن العقد الصحيح فيما ليس فيه يجعل الضمان على المشتري حتى قبل القبض .
ومنها الإشكال الذي ذكره الفاكهاني حول نقل الضمان في العقد الفاسد بعد القبض إلى المشتري , فقال : ” جعل الضمان من البائع صريح في أن الفاسد لم ينقل الملك , وجعل الضمان بعد القبض من المشتري يقتضي أن الفاسد ينقل …. فأجاب النفراوي بأنه لا ملازمة بين نقل الملك والضمان إذ قد يوجد الضمان من غير تقدم ملك , كمن أتلف شيء غيره من غير تقدم سبب ملك , فإنه يضمن لتعديه , والمشتري هنا متعد بقبض المشتري شراءً فاسداً . فيكون ضمانه لتعديه بالقبض لما يجب فسخ عقده قبل فواته , ولذلك يضمن بعد القبض حتى ولو هلك بآفة سماوية إذن فلا حاجة إلى بناء الضمان بعد القبض على القول بأن الفاسد ينقل الملك .
ومنها أنه إذا أردت السلعة بسبب الفساد فإن المشتري يفوز بغلتها للحديث الصحيح ” الخراج بالضمان ” [7] , وأما كلفتها فإن تساوت مع الغلة فلا شيء له , وإن زادت , أو لاغلة له فإنه يرجع على البائع بقدرها , لأنه قام عن البائع بما لا بد له منه [8] .
بل إن الشـافعية صرحوا بأن فاسد كل عقد كصحيحه في الضمان وعدمه بعد العقد يقول الزركشي : ” ومعنى ذلك أن ما اقتضى صحيحه الضمــان بعد التسليم كالبيع والقرض , والعمل والقراض , والإجارة , والعارية فيقتضي فاسده الضمان , لأنه أولى بذلك , وما لا يقتضي صحيحه الضمان بعد التسليم كالرهن والعين المستأجرة والأمانات كالوديعة , والتبرع كالهبة والصدقة لا يقتضيه فاسده أيضاً ” [9] , غير أنه استثنى من هذه القاعدة عدة صور منها أن الهبة الصحيحة لا ضمان فيها على المشتري , والفاسدة تضمن على وجه نقل ترجيحه عن الشرح الصغير , ومنها إعارة الدراهم والدنانير قال الغزالي : ” فإن أبطلناها ففي طريقة العراق أنها مضمونة , لأنها إعارة فاسدة , وفي طريق المراوزة : أنها غير مضمونة لأنها باطلة [10] .
وذكر الزركشي أن القبض الفاسد لا أثر له إلا فيما وقع في ضمن إذن فيبرىء , إلغاء للفاسد , وإعمالاً للصحيح , ولذلك صور : منها لو كان لشخص طعام مقدر على زيد , وكان عليه مثله لعمرو فقال لعمرو : إقبض من زيد مالي عليه لنفسك , ففعل فالقبض فاسد , ومع ذلك تبرأ ذمة الدافع عن دين الآخر في الأصح , ومنها : إذا فسدت ولاية العامل ( الأمير ) وقبض المال مع فسادها برىء الدافع , لأن الإذن يبقى وإن فسدت الولاية , نعم لو نهاه عن القبض بعد فسادها لم يبرأ الدافع بالدفع إليه إن علم بالنهي , فإن لم يعلم فوجهان ..[11] .
والشافعية صرحوا أن العقد الفاسد لا يملك فيه شيء ويلزمه الرد ومؤنته , وليس له حبسه لقبض البدل , ولا يرجع بما أنفق إن علم الفساد , وكذا إن جهل على الأصح [12] .
والحنابلة كذلك يوجبون الضمان على المشتري في العقد الفاسـد بعد القبض قال ابن رجب الحنبلي : ” كل عقد يجب الضمان في صحيحه يجب الضمان في فاسده … فالبيع والإجارة والنكاح موجبة للضمان مع الصحة فكذلك مع الفساد , والأمانات كالمضاربة , والشركة والوكالة والوديعة , وعقود التبرعات كالهبة لا يجب الضمان فيها مع الصحة , فكذلك مع الفساد [13] .
وقد اتفق الظاهرية مع الجمهور في أن العقد الفاسد لا يفيد الملك مطلقاً , لكنهم قالوا : إن المثمن المقبوض في العقد الفاسد مضمون على المشتري ضمان الغصب سواء بسواء , والثمن مضمون على البائع إن قبضه , ولا يصححه طول الأزمان , ولا تغير الأسواق , ولا فساد السلعة , ولا ذهابها …. [14] .
وبعد هذا العرض يمكن القول بأن الفقهاء متفقون على أن المقبوض بعقد فاسد مضمون ما دامت طبيعة هذا العقد لو كان صحيحاً يوجب الضمان على التفصيل السابق بينهم , واتضح لنا أن القبض كان له أثره حتى مع كون العقد فاسداً , كما أنه يمكننا تلخيص هذه الآراء السابقة في ثلاثة إتجاهات :
الإتجاه الأول : أن المقبوض بعقد فاسد لا يفيد الملك مطلقاً , وهذا اتجاه الشافعية , وأحمد في المشهور من مذهبه .
الإتجاه الثاني : أن المقبوض بعقد فاسد يفيد الملك وهذا مذهب الحنفية .
الإتجاه الثالث : أن المقبوض بعقد فاسد إن فات أفاد الملك , وإن بقي ولم يتغــير يجـــب ردّه ولم يفـد الملك , وإن تغير حاله , أو سعره بنسبة الربع فيعتبر كالهلاك , وبالتالي فلا يرده , بل يرد قيمته إن كان قيمياً , وأما إن كان مثلياً فيرد المثل , وأما العقار فلا يؤثر فيه تغير الأسعار .
المقبوض على سوم الشراء , أو النظر , أو الرهن :
وأما المقبوض على سوم الشراء فهو أن يتساوم شخصان حول بضاعة ويصلان إلى ثمن معين , ثم يطلب المتساوم الراغب في الشراء أن يأخذها , على أن ينظر فيها : فإن أعجبته أنشأ العقــد مع صاحبه , وإلا أرجعها إليه , وقد ضرب العلامة ابن عابدين مثلا ً لهذه المسألة فقـال : ” طلب منه ثوباً ليشتريه , فأعطاه ثلاثة أثواب , وقال : هذا بعشرة , وهذا بعشرين , وهذا بثلاثين , فاحملها فأي ثوب ترضى بعته منك , فحمل , فهلكت عند المشتري ” ففي هذا المثال يكون الضمان على المشتري لأحد هذه الأثواب الثلاثة لاعلى التعيين , لأنه هو المطلوب للشراء , فيكون الضمان بالثلث , ولذلك قال الإمام ابن فضل في هذه المسألة : ” إن هلكت جملة , أو متعاقباً ولا يدري الأول وما بعده ضمن تلك الكل , وإن عرف الأول لزمه ذلك الثوب , والثوبان أمانة , وإن هلك اثنان ولا يعلم أيهما الأول ضمن نصف كل منهما , ورد الثالث , لأنه أمانة , وإن نقص الثالث ثلثه , أو ربعه لايضمن النقصان , وإن هلك واحــد فقــط لزمه ثمنه ويرد الثوبين ” يقول ابن عابدين : ” قال في البحر : فهذا صريح في أن بيان الثمن من جهة البائع يكفي للضمان ….. .
قلت وبيان ذلك أن المتساوم إنما يلزمه الضمان إذا رضي بأخذه بالثمن المسمى على وجه الشراء فإذا سمى البائع الثمن , وتسلم المساوم الثوب على وجه الشراء يكون راضياً بذلك , كما أنه إذا
سمى هو الثمن , وسلم البائع يكون راضياً بذلك فكأن التسمية صدرت منهما معاً بخلاف ما إذا أخذه على وجه النظر ” [15] , أما إذا كان الثوب واحداً – مثلا ً – ثم هلك فيكون مضموناً كله .
ثم الضمان في المقـبوض على سوم الشراء يكون بالقيمة إذا هلك , أما إذا استهلكه الراغب في الشراء فمضمون بالثمن كما حققه الطرسوسي , في حين أن بعض فقـهاء الحنفية قالوا : يكون مضموناً بالقيمة مطلقاً بالغة ما بلغت وبعضهم الآخر قيـّـدوا ذلك بأن لا يزاد بالقيمة على المسمى و قد صرح الحنفية بأن إشتراط الراغب في الشراء ( المساوم ) عدم ضمانه لا يعفيه من المســؤولية [16] .
وأما المقبوض على سوم النظر فهو بأن يقول : أعطني هذه البضاعة حتى أنظر إليها , أو حتى أريها غيري , ولايقول : إن رضيته أخذته سواء ذكر الثمن أم لا .
وحكمه عدم الضمان مطلقاً إذا هلك , أما لو استهلكه القابض فإنه يضمن قيمته .
والفرق بين هذا وسابقه هو وجود القبض على وجه الشراء في الأول , وعدم وجود ذلك في المقبوض على وجه النظر , بل القبض فيه على وجه النظر وقد رضي به المقبض فيكون أمـانة ومن هنا فقبض المساوم على وجه الشراء يصبح كأنه راض بتسمية البائع فكأنها وجدت منهما , وأما القبض على وجه النظر فليس فيه ذكر البيع فيكون أمــانة [17] , جــاء في الفتــــــــاوى الهنـدية : ” وفي فروق الكرابيسي : هذا الثوب لك بعشرة , فقال : هاته حتى أنظر إليه , أو حتى أريه غيري فضاع , قال أبو حنيفة ( رحمه الله ) لاشيء عليه يعني يهلك أمانة , إن قال : هاته فإن رضيته أخذته فضاع كان عليه الثمن , والفرق أنه في الأول أمر بدفعه إليه لينظر إليه , أو ليريه غيره , وذلك ليس ببيع , وفي الثاني أمره بالاتيان به ليرضاه ويأخذه , وذلك بيع بدون الأمر ( أي المعاطاة ) فمع الأمر الأول …. وإن أخذه لا على النظر فضاع لا يخرجه الكلام الأخير عن الضمان الواجب بأول مرة ” [18] .
وقد أفاض علماء الحنفية في هذه المسائل فقالوا : لو أرسل شخص رسولاً إلى بزّاز – مثلا ً – ليرسل إليه ثوباً فبعثه البزاز مع رسوله , فضاع الثوب قبل أن يصل إلى الآمر , وتصادقوا على ذلك فلا ضمان على الرسول , وإنما الضمان على الآمر , ولكن لو أرسله البزاز مع رسوله فضاع قبل وصوله إلى الآمر يكون الضمان على البزاز[19] .
وقالوا أيضاً : لو قبض الوكيل بالشراء البضاعة على سوم الشراء فأراها الموكل فلم يرض به وردّه عليه هلكت عند الوكيل ضمنها الوكيل بالقيمة ولا يرجع بها إلى الموكل إلا أن يأمره الموكل بالأخذ على سوم الشراء فحينئذٍ إذا ضمن الوكيل رجع على الموكل .
وقالوا أيضاً : لو طلب شخص شراء قوس , فذكر الثمن وتقرر , ثم قبل أن يتم التعاقد اللفظي أخذ القوس بإذن البائع فمدّه فانكسر يضمن قيمته حتى ولو قال له البائع : إن انكسر فلا ضمان عليك , أما إذا لم يتقرر الثمن فلا ضمان عليه ما دام الأخذ بإذن البائع .
وقالوا أيضاً : رجل جاء إلى زجّاج ( بائع الزجاج ) فقال له : ادفع لي هذه القارورة فأراها إياه لقال الزجاج : ارفعها , فرفعها فوقعت فانكسرت لا يضمن , لأنه رفعها بإذنه ما دام الثمن لم يتقرر , أما إذا ساوم عليها و استقر الثمن , ثم رفعها فالضمان عليه , هذا كله إذا كان بإذن الزجاج , أما لو رفعها بدون إذنه فانكسرت كان ضامناً .
وقالوا أيضاً : لو اشترى شيئاً فأعطاه البائع غير المبيع غلطاً فهلك ضمن القيمة , لأنه قبضه على جهة البيع وهو سوم [20] .
وأما المقبوض على سوم الرهن , وذلك بأن يعده شخص أن يقرضه مبلغاً معيناً فجاء المدين برهن فسلمه إليه قبل أن يأخذ دينه فهلك المرهون , جاء في البزازية : ” الرهن بالدين الموعود
مقبوض على سوم الرهن …. بأن وعده أن يقرضه ألفـاً فأعطاه رهنا وهلك قبل الإقراض ….[21] .
وحكمه أنه مضمون على الذي قبض بالأقل من قيمته ومن الدين ما دام سمى قدر الدين , أما إذا لم يبين مقداره فليس بمضمون على الأصح [22].
أنواع القبض , وصوره القديمة والمعاصرة :
لقد أفاض فقهاؤنا الكرام في ذكر أنواع القبض , وكيفيته , والصور المتداولة في عصورهم , والمسائل الكثيرة التي لا تسمح طبيعة بحثنا بالخوض فيها , ولذلك نذكر أهمها , ثم نعقبها بذكر بعض الصور المعاصرة .
فقد قسم الكاساني الحنفي القبض إلى قبض تام , وقبض ناقص , حيث قال : ” إن أصل القبض يحصل بالتخلية في سائر الأموال , واختلفوا في أنها : هل هي قبض تام فيها أم لا ؟ ! [23] .
ومعنى كون التخلية قبضاً تاماً أنه يترتب على التخلية جميع الأحكام المترتبة على العقد بالكامل من انتقال الضمــان إلى المشتري , وجــواز التصــرف له في المبيــــع قبــل نقــله , أو كـيله , أو وزنه , أو عدّه .
ومعنى كون التخلية قبضاً ناقصاً أن المشتري لا يجوز له بيع المبيع قبل نقله , أو كــيله , أو وزنه وإن كانت التخلية تؤدي بإتفاق الحنفية في الجميع إلى نقل الضمـان من البائــع إلى المشتري ونحن نذكر هنا بإيجاز متى تكون التخلية قبضاً تاماً , ومتى لا تكون كذلك :
1- التخلية قبض تام فيما يأتي :
أ ) في كل ما ليس له مثل من المذروعات , والمعدودات المتفاوتة , حيث التخلية فيه قبض تام بلا خلاف عند الحنفية , حتى لو اشترى مذروعاً مذارعة , أو معدوداً معاددة ووجدت التخلية يخرج عن ضمان البائع , ويجوز بيعــه , والانتفاع به قبل الذرع والعــدّ .
ب ) وفيما له مثل لكنه بيع مجازفة , لأنه لا يعتبر معرفة القـدر في بيع المجازفة .
ج ) وفي المعدودات المتقاربة إذا بيعت عدداً لا جزافاً عند أبي يوسف ومحمد , وعند أبي حنيفة تعتبر التخلية فيها قبضاً ناقصاً .
وجه قول أبي حنيفة أن القدر في المعدود معقود عليه كالقدر في المكيل والموزون , ولذلك لو عدّه فوجده زائداً لا تطيب له الزيادة بلا ثمن , بل يردها أو يأخذها بثمنها , ولو وجده ناقصاً يرجع بقدر النقصان كما في المكيل والموزون , وهذا دليل على أن المقدار معتبر في العقد , ولما كان احتمال الزيادة والنقصان في عدد المبيع ثابتاً فلا بد من معرفة قدر المعقود عليه , وامتيازه عن غيره , ولا يعرف قدره إلا بالعـدّ , ولذلك لا يجوز بيعـه قبل عـدّه [24] .
ووجهة نظر الصاحبين أن العددي ليس من أموال الربا كالمذروع , ولهذا لم تكن المساواة فيها شرطاً لجواز العقد كما لا تشترط في المذروعات , فكان حكمه حكم المذروع [25] .
2- كون التخلية قبضاً ناقصاً فيما له مثل لكنه بيع مكايلة , أو موازنة في المكيل والموزون , حيث لا يجوز للمشتري أن يبيعه قبل الكيل والوزن , وكذا لو اكتاله المشتري , أو اتـزنه من بائعه ثم باعه مكايلة أو موازنة من غيره لم يحل للمشتري منه أن يبيعه , أو ينتفع به حتى يكيله أو يزنه , ولا يكتفي باكتيال البائع أو اتزانه من بائعه وإن كان ذلك بحضرة هذا المشتري .