لن نخوض في هذه الورقة في غمار التعريفات ، وأكتفي ببيان المقصود من العنوان ، وهو : أن الأسرة المسلمة في الغرب تواجه مجموعة من التحديات من أهمها التحديات التربوية ، والتشريعية ، والنفسية ، والاجتماعية .
وأن المقصود بالتحديات التشريعية ، هي أن هذه الدول الغربية تتحكم فيها قوانينها المستمدة من تقاليدهم وأعرافهم وقيمهم التي تخالف في بعضها أحكام الشريعة الإسلامية الغراء ومبادئها ، ومن هنا يكون التحدي الأكبر أمام الأسرة المسلمة في الغرب ، ولا سيما في حالات التنازع بين الزوج والزوجة ، أو في حالات التوارث ونحوها .
وهذا ما سنبحث عنه في هذه العجالة المتواضعة .
إلزامية القوانين الغربية لكل من يعيش على أرضها :
على الرغم مما يقال في الغرب عن الحريات المتنوعة ، وبالأخص الحرية الدينية فإن القوانين الغربية ملزمة للمسلمين وغيرهم حتى في اخص الخصوصيات الشخصية ( الأسرة والأحوال الشخصية والتوارث ) باعتبار أن تنفيذ القوانين هو من سيادة الدولة التي لا يجوز لها التنازل لأي قانون آخر .
أما الإسلام فقد سمح لغير المسلمين الذين يعيشون في ظل الدولة الاسلامية أن يطبقوا على أنفسهم أحكامهم الخاصة بهم في كل شؤونهم ، بل إن القرآن الكريم خيّر إمام المسلمين ( الدولة الإسلامية ) بين تطبيق أحكام الله تعالى على غير المسلمين إذا أرادوا ذلك ، وبين تركهم ليحكم بعضهم على بعض حسب أعرافهم وقوانينهم فقال تعالى : ( فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) .
فهذه الآية صريحة ، بل نص في إعطاء الحرية لغير المسلمين الذين يعيشون في ظل الدولة الإسلامية أن يطبقوا على أنفسهم شرائعهم من خلال محاكمهم ، كما أن لهم الحق في الرجوع إلى محاكمنا ، وحينئذ يطبق عليهم شرع الله ، وهذا ما بينته الآية التي تأتي بعدها حيث تقول : (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم ) وهذا ما ذهب إليه جماعة من الفقهاء حيث قالوا : إن الإمام مخير ، لكن المالكية خصوا التخيير بشيء لم يكن متفقاً عليه تحريمه بين الأديان ، أما المتفق عليه كحرمة الزنا مثلاً فإن الإمام ينفذ حكم الله تعالى على مرتكبه .
وقد أثبت ذلك الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لليهود في وثيقة المدينة ( دستور الدولة الإسلامية الجديدة ) حيث جاء فيها : ( وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين ، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم …. ، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الاثم ) وقد اعترف اليهود في بنود هذه الوثيقة بوجود سلطة قضائية عليا يكون لها المرجعية عند الاختلاف ، ولكن لم يلزموا بالرجوع إليها إلاّ عندما يكون أحد أطراف التنازع أحد المسلمين ، أما ما سوى ذلك فهم مخيرون .
ومنح هذه الحرية التي لم تصل إليها التشريعات الغربية ( التي يدعى أصحابها الحرية والديمقراطية ) مفخرة ما بعدها مفخرة للإسلام والمسلمين ، بأن هذا هو دينهم الذي أقر التعايش السلمي وحق المواطنة الكاملة لغيرهم ، بل تنازل عما يسمى في العصر الحاضر بالسيادة القانونية لأجل الحرية الدينية ، وسمح لهم بأن يطبقوا شرائعهم ، ويزاولوا أشياء هي محرمات في نظره ، بل حمى خنازيرهم وخمورهم من الاعتداء عليهما ، مع أنهما من أشد المحرمات في الإسلام ، وعزر من يتلفهما بالعقوبات الرادعة ، بل ذهب بعض الفقهاء ( منهم الحنفية ) إلى وجوب التعويض عنهما مع أنهما ليسا من الأموال في نظر الاسلام ، ولكن لأجل احترام معتقدات هؤلاء .
هذه الحماية للحرية الدينية بإعطاء الفرصة لغير المسلمين لتطبيق شرائعهم على أنفسهم بكل حرية كانت منذ عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وبنصوص القرآن الكريم ، وقد طبقت منذ أكثر من أربعة عشر قرناً ، واليوم وفي القرن العشرين قرن الحريات والديمقراطيات والتقدم ( كما يقال ) لا تسمح القوانين لعشرات الملايين في أوروبا وأمريكا أن تطبق على أنفسها القوانين التي تخص خصوصياتهم الأساسية ، كما أنه من المحظورات إنشاء محاكم خاصة بهم ، إذ أن ذلك أيضاً من السيادة التي لا يجوز التنازل عنها .
ولذلك وقع الحرج الشديد على المسلمين الذين يعيشون في الغرب ، والتناقض الغريب بين ما يؤمنون به ، وما يمكن أن يطبق عليهم من القوانين التي تتعارض مع شريعتهم الغراء .