تنشر الوطن على صفحاتها خلال شهر رمضان المبارك احدث كتب الدكتور علي محيي الدين القره داغي، وعنوانه المشكلة الاقتصادية وحلها، ويناقش الكتاب رؤية الشرع الاسلامي لاغلب المشاكل الاقتصادية العالمية التي تشغل بال كثير من المهتمين والمختصين، واهمها قضية « الفقر» و«الحرمان» و«البطالة» وغيرها..
ود. القره داغي خبير المجامع الفقهية والامين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين قد قدم من خلال خبرته الطويلة في هذا المجال عددا كبيرا من الابحاث والدراسات التي توضح الرؤية الواعية للقضايا التي تعيشها الأمة الإسلامية في مجال الاقتصاد بشتى صوره وجوانبه. وخلال اعداده لهذا العمل لم تكن الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت العالم بعيدة عن اهتمامه، بل تطرق اليها وبحث عن اسبابها من وجهة نظر المتخصص، حللها وقدم رؤيته بشأنها، متناولا ملامح المشكلة الاقتصادية الكبرى، وحلّها في النظم الاقتصادية، اضافة الى العديد من المشكلات الاقتصادية الخاصة التي يحتاج بعض المسلمين الى فهم اسبابها وكيفية التعامل معها.. وفي هذا الكتاب الذي ننشر حلقاته يوميا في «رمضانيات»، يعرض لكم الباحث اجتهاداته في جمع إجابات الفكر الاسلامي عن اغلب الأسئلة المثارة حول موضوع «المشكلة الاقتصادية». تحدث الدكتور علي محيي الدين القره داغي، في الحلقة السابقة من احدث كتب الذي يناقش المشكلة الاقتصادية وحلها عن تعريف المشكلة الاقتصادية وتطرق الى الحاجات والمنافع، ويقول على ضوء ما سبق فالمنفعة في الاقتصاد الرأسمالي فردية، وليست مرتبطة بالقيم والأخلاق، وأنها مادية وليست روحية دنيوية وليس لها علاقة بالآخرة، وانها صفة ذاتية تنبعث من الشيء عند وجود الرغبة، ثم تزول بزوال الرغبة، فهي تتبع الرغبة وجوداً وعدماً، وان الثمن هو المقياس الاقتصادي للمنفعة، وان فائض المستهلك هو الفرق بين المنفعة الكلية والقيمة الكلية التي هي عبارة عن ثمن كل واحدة مضروباً في عدد الوحدات، فمثلاً لو وجد في السوق عرض مناسب أو كثير فيكون ثمن كيلو برتقال ثلاثة ريالات ـ مثلاً ـ ولكن إذا لم يوجد إلاّ قليل جداً فيشتري نفس المقدار منه بعشرة ريالات، إذاً فهذا الفرق ـ وهو سبعة ريالات ـ يسمى فائض المستهلك.
أما المنفعة في الفكر الإسلامي فهي شاملة للمادة والروح، وللجسد والنفس، والعقل، وللدنيا والآخرة، وانها مرتبطة بل خاضعة للقيم العليا والأخلاق السامية في الإسلام، حيث استعمل القرآن الكريم النفع بهذه المعاني الجامعة، فقال تعالى: «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ في الحج»: حيث تشمل: المغفرة من الذنوب، وأداء العبادة، والتجارة، قال الماوردي: إنها التجارة في الدنيا، والأجر في الآخرة، وهذا قول مجاهد وقال تعالى: «وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ» أي بما ينفع الناس من المعايش وقال تعالى بالنسبة للخمر والميسر:«قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا» والمنافع هنا دنيوية مثل منافع التجارة، ولذة الطرب والنشو.
وهكذا فالمنافع في الإسلام شاملة للجسد والروح وممتدة من الدنيا إلى الآخرة، بل هي في عمومها خالدة لا تنتهي في الدنيا بل تكون في الجنة منفعة خالدة.
ومن الجانب العملي فإن الإسلام يراعي المنافع ورغبات الناس ما لم تكن حراماً،ـ علماً بأن الحرام قليل ومحدد كما سبق ـ وأن دائرة الحلال واسعة جداً. الفرق بين الحاجة والرغبة في الاقتصاد الاسلامي:
يفرق الفكر الاسلامي بين الحاجة والرغبة، فالحاجة هي: ما يفتقر إليه الانسان وانه دون وجوده يقع الانسان في حرج وضيق ـ كما سيأتي ـ وبالتالي فهي مرتبة بين الضروريات والتحسينيات، وان تحقيقها مطلوب. غير أن الحاجات، أو الطيبات في الاقتصاد الإسلامي تطلق على ما هو أعم من الحاجيات في علم أصول الفقه، لأنه يريد به الحاجة مطلقاً سواء كانت ضرورية، أم لا، إذن فيقصد بها: كل ما يحتاج إليه، فيشمل كل مراتبه، أو ما يطيب له وأما الرغبات فهي ما تميل إليه النفس وتريده لأي سبب معقول أو غير معقول، وبالتالي فهي أعم حتى تشمل أهواء النفس ونزواتها، ولذلك تتدخل فيها العقيدة والأخلاق الاسلامية لضبطها وتزكيتها فقال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ).
مراتب المنافع والحاجات في نظر الفقهاء:
وقد قام فقهاؤنا العظام منذ أبي اسحاق الشيرازي فإمام الحرمين، فالغزالي، فالعز بن عبدالسلام فابن تيمية، ثم الشاطبي، بتأصيل هذه المنافع والمصالح، وتنظيمها تنظيماً بديعاً قائماً على الأهمية وفقه الأولوية، حيث قسموها إلى ثلاثة أنواع بل ثلاث رتب، وهي:
الرتبة الأولى: الضروريات التي لا بدّ منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وهلاك.
وهذه الضرورات حصرها علماؤنا السابقون في خمس أو ست، وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والعرض، والمال، وسبق أنني أضفت إليها مقصدين آخرين، وهما: حفظ أمن المجتمع حيث وضع للاعتداء عليه حدّ الحرابة، قال تعالى: ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) وأما الضرورة الثامنة فهي حفظ أمن الدولة ومؤسساتها حيث وضع له أيضاً حدّ البغاة، قال تعالى: (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ).
الرتبة الثانية: الحاجيات التي يفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق والحرج والمشقة.
الرتبة الثالثة: التحسينات، والكماليات: وهي ما كان بها كمال حال الفرد،والأمة، بحيث يحصل إلى أعلى المراتب في كل الطيبات، ففي المأكل أطيبها، وفي الملابس أنعمها، وفي المساكن أجملها وأوسعها، وفيما يخص الآخرة فعل السنن والمستحبات والمندوبات، ثم في الآخرة الوصول إلى الجنة أعلاها.
فهذه المصالح تشمل المنافع الدنيوية، والمصالح الأخروية، كما أنها تشمل الجانب الروحي والديني بالإضافة إلى الجانب المادي، وأنها تقابلها المفاسد والمضار والخبائث في الدنيا والآخرة.
ندرة الموارد
يستعمل الاقتصاديون: الندرة لبعض الموارد، ويريدون منها القابلية للنفاد، كمناجم الثروات المعدنية، ولكن عندما يقولون: ندرة الموارد يريدون بها الندرة النسبية. أسباب ندرة الموارد:
تعود أسباب هذه المشكلة إلى أن هذه الموارد تتسم بأنها:
1- نسبية، أي أنها نسبية بالنسبة لمقدار الطلب، وانها تختلف حسب الظروف والأحوال والدول والأشخاص، كما أنها نسبية بالنسبة لدرجات القوة والضعف والوسط.
2- تعدد الاستعمال، حيث يمكن استعمال المورد الواحد في أكثر من استعمال، فالأرض مثلاً يمكن أن تستخدم في الزراعة أوالبناء، أو لصناعات متعددة، وحتى الأرض الزراعية يمكن زرعها بالحبوب، أو بالأشجار المثمرة، أو الأشجار الخاصة بالصناعة، أو بالخضر،…. وحتى داخل الحبوب والأشجار ونحوها فهناك أنواع كثيرة.
3- تفاوت الموارد بين بلد وآخر من حيث القلة والوفرة.
4- عدم نقل بعضها، أو بتكلفة كبيرة، مثل البحار، والأنهار، والتربة.
5- زيادة السكان، وبالتالي زيادة الطلب.
6- سوء استخدام الموارد مما يؤدي إلى تبديدها واستنزافها وسرعة نضوبها.
7- الجشع، وسوء سلوك الانسان، وما يترتب عليه من الاحتكار والمظالم.
عدم المواءمة بين الحاجات والموارد
وهى بعبارة اخر عدم تنظيم الإنتاج والاستهلاك، وحلها في النظام الرأسمالي: إن النظام الرأسمالي يسعى لحل هذه المشكلة من خلال نظام السوق، أو ميكانيكية السعر، أو جهاز الثمن، حتى يجيب عن الأسئلة السابقة: ماذا ينتج ؟ وكيف ننتج ؟ ولمن ننتج ؟ وكيف ننمي الانتاج ؟ وكيف نوزع ؟.
إن الاقتصاد الرأسمالي يبنى على فرضية أن ترك قوى العرض والطلب يفعل في ظل المنافسة الكاملة، والحرية الاقتصادية وعدم تدخل الدولة في الأسواق يؤدي إلى تحديد نوع الانتاج، وكميته وصفته، وتخصيص الموارد بشكل أمثل، وذلك من خلال جهاز الأسعار، أي الحركات التلقائية للأثمان الناتجة عن تفاعل قوى العرض والطلب.
يقول الاقتصادي الأميركي بول ساملسون : ( المستهلك هو الملك ـ كما يقولون ـ والجميع مصوتون يستخدمون أموالهم كأصوات من أجل عمل ما يريدون عمله، فالأصوات تتنافس مع بعضها، والأشخاص الذين لديهم أصوات أكثر، هم الذين لديهم معظم التأثير فبماذا ينبغي أن ينتج، وإلى أين تذهب السلع ؟ فعلى ضوء ذلك فإن الاجابة عن السؤال الأول يتحقق، وهو ماذا ننتج أي ننتج ما يريده الناس.
ولكن هذه الفرضية إنما تصح إذا كان المستهلك واعياً راشداً قادراً على أن يسير نحو الأحسن لنفسه ولمجتمعه دون تأثير خارجي من الإعلام ونحوه.
وفي نظر الاقتصاد الرأسمالي أن الاجابة على بقية الأسئلة تأتي من خلال نظام السوق، وقانون الطلب، وجهاز الثمن الذي يوفر مقارنة واضحة بين أثمان السلع والخدمات الاستهلاكية التي تمثل ايرادات المنتجين، وبين أثمان السلع والخدمات الانتاجية، التي تعكس تكاليف الانتاج، وبذلك تتم الاجابة عن كيف ننتج أي ننتج ما وأقل تكلفة وأكثر طلباً عليها لرخصها، وننتج كذلك ما هو أجود صناعة واتقاناً وأكثر طلباً عليها بسبب جودتها، وان كانت أغلى.
وما ذكرناه آنفاً يجيب عن السؤال: لمن ننتج ؟
وأما الجواب عن السؤال: كيف نوزع ؟، فيتحقق من خلال أن الناتج القومي بين أفراد المجتمع يتم وفقاً لمساهمة كل فرد في العملية الانتاجية، فالعامل يحصل على أجره، ومالك الأرض على ريعها، والمنظم على الربح، وصاحب رأس المال على الفائدة الربوية.
وأما الجواب عن السؤال: ( كيف ننمي الانتاج ؟)، فيتم من خلال الاجابة على الأسئلة السابقة، إضافة إلى أن التوزيع بالشكل الذي ذكرناه يحقق التوافق بين المنتجين والمستهلكين، فيكون دافعاً قوياً نحو النمو والتقدم وسعي المنتجين لرفع مستواهم، باستخدام أساليب جديدة، وتقنيات متطورة للتطور والتقدم، كما أن سعر الفائدة في نظر الاقتصاد الرأسمالي، هو المحرك الأساسي للموارد الاقتصادية، حيث انه من خلال تقلبات سعر الفائدة ارتفاعاً وانخفاضاً التي تعتمد على جهاز الثمن يتحقق النمو الاقتصادي.
جريدة الوطن القطرية