جريدة العرب القطرية
13/08/2010


إن إلقاء نظرة متعمقة في آيات القرآن الكريم يظهر بوضوح تأصيل مبدأ التوازن وأسسه وتفاصيله، وكيفية تطبيقه وتحقيقه في كل شيء للوصول إلى الإنسان المتزن الموزون، وبالأخص في الجانب الاقتصادي، حيث إن عدم التوازن هو المسؤول عن كل هذه الأزمات، فلذلك أمر الله تعالى في وقت واحد بالعبادة والنشاط الاقتصادي، فقال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).



 


فلننظر إلى هذه الآيات التي تتضمن الأمر بالصلاة وترك البيع في وقت صلاة الجمعة، وهذا يمثل الجانب التعبدي، ثم تتضمن الأمر بنفس القوة والصيغة بالانتشار في الأرض لأجل الرزق، قال تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ثم تتضمن الجانب الأخلاقي الديني الدائم الذي يحمي الإنسان من الانحراف الاقتصادي وغيره، وهو دوام ذكر الله ومراقبته والخوف منه، ثم بيان واقعية الإسلام من خلال نظرته الواقعية إلى الإنسان حيث هو يحب المال حباً جماً، وقد تشغله التجارة عن الذكر، وهذا يدل على تأصيل الجانب المادي فيه، وبالتالي يحتاج في علاجه إلى القيم الدينية لتؤصل فيه المثالية الراقية، كما نرى واقعية الإسلام في نظرته إلى الإنسان.


التوازن في الحقوق والواجبات معاً (الحقوق المتقابلة):


الإسلام تقوم تشريعاته ليس على أساس الحقوق فقط، كما هو الحال في النظام الرأسمالي الحرّ، ولا على أساس الواجبات فقط، كما هو الحال في النظام الشيوعي، وإنما على أساس الحقوق المتقابلة، أو الحقوق والواجبات، أي أن في مقابل الحق الواجب، وبالعكس، حتى بين الإنسان وربه، وقد ركزت الشريعة الإسلامية على تحقيق التوازن بين حقوق الله وحقوق الإنسان، وبين حقوق الدولة والجماعة وحقوق الفرد، وبين حقوق الروح والعقل والقلب، وحقوق الجسد والبدن، وبين الأغنياء وحقوق الفقراء، وبين الدنيا والآخرة.


فقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم مبدأً عظيماً في هذا التوازن الدقيق، وفصله تفصيلاً رائعاً حينما قال لعبدالله بن عمرو: (صُمْ وأفطر، ونَمْ وقُمْ، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينيك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزَوْرك عليك حقاً) وروى البخاري بسنده عن سلمان الفارسي أن سلمان الفارسي قال لأبي الدرداء حينما رآه يجهد نفسه في الصيام والقيام: (إن لربك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه) فأتي أبو الدرداء النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدق سلمان).


فعنوان الإسلام هو أن لكل شيء حقه (فأعط كل ذي حق حقه) وهو عنوان شامل للحياة، ويريد الإسلام تطبيقه في جميع الجزئيات والأنشطة الإنسانية.


ففي ظل هذه النظرة الثنائية المتوازنة، وذلك المفهوم المتوازن (تتحول طاقات الإنسان، التي قد تبدو للنظرة السطحية العارضة أنها متعارضة، إلى طاقات حيوية فاعلة تتكامل وتنمو، وتردف حصيلة طاقة منها الطاقات الأخرى تماماً كما يتكامل الليل والنهار لتستمر الحياة، فالنهار ليس نقيضاً لليل في منظور نظرية التوازن الحياتية).