15/10/2010
جريدة الوطن
تنشر الوطن على صفحاتها خلال شهر رمضان المبارك احدث كتب الدكتور علي محيي الدين القره داغي، وعنوانه المشكلة الاقتصادية وحلها، ويناقش الكتاب رؤية الشرع الاسلامي لاغلب المشاكل الاقتصادية العالمية التي تشغل بال كثير من المهتمين والمختصين، واهمها قضية « الفقر» و«الحرمان» و«البطالة» وغيرها..
ود. القره داغي خبير المجامع الفقهية والامين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين قد قدم من خلال خبرته الطويلة في هذا المجال عددا كبيرا من الابحاث والدراسات التي توضح الرؤية الواعية للقضايا التي تعيشها الأمة الإسلامية في مجال الاقتصاد بشتى صوره وجوانبه. وخلال اعداده لهذا العمل لم تكن الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت العالم بعيدة عن اهتمامه، بل تطرق اليها وبحث عن اسبابها من وجهة نظر المتخصص، حللها وقدم رؤيته بشأنها، متناولا ملامح المشكلة الاقتصادية الكبرى، وحلّها في النظم الاقتصادية، اضافة الى العديد من المشكلات الاقتصادية الخاصة التي يحتاج بعض المسلمين الى فهم اسبابها وكيفية التعامل معها.. وفي هذا الكتاب الذي ننشر حلقاته يوميا في «رمضانيات»، يعرض لكم الباحث اجتهاداته في جمع إجابات الفكر الاسلامي عن اغلب الأسئلة المثارة حول موضوع «المشكلة الاقتصادية». تحدث الدكتور علي محيي الدين القره داغي، في الحلقة السابقة من احدث كتب الذي يناقش المشكلة الاقتصادية وحلها عن تعريف المشكلة الاقتصادية وتطرق الى الحاجات والمنافع، ويقول على ضوء ما سبق فالمنفعة في الاقتصاد الرأسمالي فردية، وليست مرتبطة بالقيم والأخلاق، وأنها مادية وليست روحية دنيوية وليس لها علاقة بالآخرة، وانها صفة ذاتية تنبعث من الشيء عند وجود الرغبة، ثم تزول بزوال الرغبة، فهي تتبع الرغبة وجوداً وعدماً، وان الثمن هو المقياس الاقتصادي للمنفعة، وان فائض المستهلك هو الفرق بين المنفعة الكلية والقيمة الكلية التي هي عبارة عن ثمن كل واحدة مضروباً في عدد الوحدات، فمثلاً لو وجد في السوق عرض مناسب أو كثير فيكون ثمن كيلو برتقال ثلاثة ريالات ـ مثلاً ـ ولكن إذا لم يوجد إلاّ قليل جداً فيشتري نفس المقدار منه بعشرة ريالات، إذاً فهذا الفرق ـ وهو سبعة ريالات ـ يسمى فائض المستهلك. يواصل د. علي محيي الدين القره داغى عرض كتابه «المشكلة الاقتصادية وحلها» والذي ننشر حلقاته يوميا على صفحات «رمضانيات»، وقد تناولنا فيه عبر الحلقة الماضية الناحية التطبيقية للحل الاسلامي للمشكلة الاقتصادية وعرضنا إجابات الفكر الاسلامي عن الأسئلة المثارة حول المشكلة الاقتصادية، وفى هذه الحلقة يتناول فضيلته الحديث عن انواع الفقر ودرجاته:
الفقر في اللغة هو الحاجة، والعوز، فالفقر هو المحتاج مطلقاً.وجمهور الفقهاء على أن الفقراء والمساكين هم أهل الحاجة الذين لا يجدون ما يكفيهم، وهما من الكلمات التي إذ ذكرت معاً يراد بكل واحدة معنى مستقلا، وإذا انفردتا شملت كل واحدة معنى الأخرى مثل الايمان والاسلام، فإذا أطلق لفظ الفقراء وحده فيراد به ما يشمل معنى المساكين أيضاً، ولكن إذا ذكر مع المساكين فيراد بالفقراء معنى، وبالمساكين معنى آخر، مثل قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ) فقد ذهب الحنفية إلى أن الفقير هو من يملك شيئاً دون النصاب الشرعي للزكاة، وان المسكين لا يملك شيئاً، فعلى ضوء هذا فإن المسكين أشد حاجة من الفقير، في حين أن المالكية والشافعية والحنابلة ذهبوا إلى عكس السابق، فيكون الفقير أشد حاجة من المسكين.
والحق أن القرآن الكريم استعمل اللفظين معاً في الآية السابقة فقط مما يدل على وجود فرق بينهما، وأن كل واحد منهما مصرف مستقل من مصارف الصدقات، وتكرر لفظ الفقر ومشتقاته فيه أربع عشرة مرة منفرداً، في حين تكرر لفظ المسكنة، ومسكين، ومساكين خمساً وعشرين مرة،ولذلك تطبق عليهما القاعدة السابقة في الجمع، والانفراد. ونحن في هذا المبحث نقصد بالفقير: المحتاج إلى الضروريات، أو الحاجيات، من الغذاء والدواء والمسكن، والملبس ونحو ذلك، مع ملاحظة نسبية الفقر ونسبية الضروريات والحاجيات، وتأثرها بالأعراف، فقد أشار القرآن الكريم إلى الحاجيات. أنواع الفقر ودرجاته:
للفقر أنواع ودرجات متدرجة، وهي:
1-الفقر المطلق الذي يستند إلى معيار حدّ الأقل من المطلوب من مستويات الاستهلاك لسد الحاجات الأساسية، فالفقر بهذا المعنى هو الحرمان من الموارد الاقتصادية التي تمكنه من اشباع حاجاته الأساسية بنحو ملائم، وبعبارة أخرى فإن خط الفقر المطلق يساوي إجمالي تكلفة سلة السلع المطلوبة لسد الاحتياجات الاستهلاكية الأساسية.
2-الفقر النسبي الذي يتغير بتغير الدخل من بلد إلى آخر، ومن وقت لآخر معتمداً على كلف اشباع الحاجات المختلفة، فعلى ضوء الفقر النسبي قد يكون الفقير في بلد ما غنياً بالنسبة لبلد آخر، فيمكن أن ينطبق المسكين بالمعنى الذي ذهب إليه الحنفية مع ما يسمى بالفقر النسبي.
3-الفقر المدقع، وهو الذي يساوي الحد الأدنى من السلع الغذائية الأساسية التي لا يمكن دونها البقاء على قيد الحياة إلاّ لمدة قصيرة، وهو الذي فسره الحنفية كما سبق.
4-الفقر المعدم الفاقة وهو أن لا يوجد مع الفقير أي شيء يذكر، ويسمى كذلك الفقر المزري أو الحالة المزرية.
مقياس الفقر
حاول كثير من الباحثين وضع معيار ومقياس للفقر، ولكن محاولاتهم اكتنفها كثير من الصعوبات بسبب مفهوم الفقر، وتنوعه، وتغيره، فقد اعتمد بعضهم على معيار الدخل بوصفه يعكس القدرة على شراء كمية معينة من السلع والخدمات، غير أنه واجه مشكلات عملية، ونظرية، فالعملية تكمن في أن الحصول على بيانات دقيقة عن الدخل ليس ميسوراً، ومن الجانب النظري تبرز مشكلة تحديد مستوى الدخل الذي يمثل الحد الفاصل بين الأسرة الفقيرة وغيرها، ولكن الضابط الوحيد هو الحاجة لسد كل ما هو ضروري. وقد استخدمت المنظمة الدولية في بيان معرفة الفقر ما أسمته (دليل الفقر البشري) الذي يركز على نواحي الحرمان من ثلاثة أبعاد أساسية وهي: طول العمر، والعلم والمعرفة، ومستوى المعيشة اللائق، فالحرمان من طول العمر موت الأطفال من دون سن الخامسة، والكبار في سن الأربعين بسبب عدم وجود التكافل الصحي، فقر أيضاً، وكذلك الحرمان من العلم والمعرفة والثقافة بسبب عدم وجود المال اللازم له فقرٌ، إضافة إلى مستوى المعيشة اللائق من الناحية المادية الشاملة للحاجات الأساسية بما فيها المياه النظيفة المأمونة.
وفي نظري أن هذا المعنى الشمولي للفقر الشامل للجوانب العلمية والثقافية، والصحية إضافة إلى الجانب المادي قد سبق به الاسلام، ولذلك أجاز العلماء الزكاة لطالب العلم، وان الكتب مهما كثرت فلن تمنع الزكاة إلى صاحبها. هل الفقر لا يزال مشكلة مع هذا التقدم الهائل، وهذه الثروة العظيمة ؟
ومع هذا التقدم الهائل في العلوم والتكنولوجيا، والثراء الفاحش لبعض الأفراد والشركات والدول، فإن الفقر لا يزال يضرب بأنيابه نسبة كبيرة من بني البشر، بل لايزال في ازدياد، فقد كانت دراسات البنك الدولي في عام 1987م تشير إلى أن عدد الفقراء في العالم يتوقع أن يهبط من 950 مليون في هذا الوقت إلى 260 مليونا فقط بحلول عام 1999، ولكن مع الأسف الشديد ازداد الفقراء في العالم بشكل أكبر بل دخلت بعض الدول والشعوب في عداد الدول والشعوب الفقيرة، فمثلاً لم يكن في حسبان أحد أن يدخل الشعب العراقي في عداد الشعوب الفقيرة بسبب الحروب التي خاضها النظام السابق ضد شعبه وضد ايران، ثم احتلال الكويت، واخراجه منها، ثم الحصار المفروض على العراق، ثم الاحتلال الأميركي في عام 2003م، والوضع الكارثي الحالي.
وفي مصر تشير الدكتورة كريمة كريم إلى أنه في عام 1981/1982 كان مدى انتشار الفقر يقل بدرجة قليلة في القطاع الحضري، أما في عام 1990/1991 فقد تجاوز الفقر في القطاع الريفي نظيره في القطاع الحضري بكثير حتى وصل إلى 100% وكذلك زاد في الحضر بنسبة 20%.
وكذلك زاد عدد الفقراء في الأردن 1986-1992 بنسبة 11.5% وارتفعت فجوة الفقر بمقدار 3.4% كما ذكر ذلك تقرير البنك الدولي، وتشير الاحصاءات إلى أن اتجاه معدلات الفقر في تونس يسير نحو الارتفاع في الفترة 1990-1995، وصاحبه انخفاض في الانتاج الزراعي بمقدار كبير، وأن 70% منهم من أهل الريف.
الفقر المدقع
وفي المغرب قام البنك الدولي بإبراز ثلاثة تقديرات لحالة الفقر المدقع:
الأول: بنى على المتوسط غير المعدل لمسح استهلاك الأسرة، ووفقاً لذلك فإن نسبته 13.1% من الفقراء بين عامي 1990-1991.
الثاني: بني على تعديل متوسط مسح عام 1984-1985 حيث النسبة 21% من جملة السكان.
الثالث: بنى على متوسطي المسحين السابقين فإن الفقر يشكل 17.5% لعامي 1984/1985، و14.6 لعامي 1990/1991 ويعقب الدكتور الفارس على هذا التقرير بأنه لو تم رفع خط الفقر من 1500 درهم اماراتي إلى 3000 درهم لوصلت نسبتهم إلى 21% من جملة السكان، وأما الفقر في العراق فقد كان منخفضاً في الستينات، وبداية السبعينات ثم وصلت نسبته في عام 1993 إلى 72.1% في المناطق الحضرية، و81.8% في المناطق الريفية. وفي لبنان كان الفقر منخفضاً جداً في فترة الستينيات، وبداية السبعينات، ثم جاءت الحرب الأهلية، فوصلت النسبة إلى 57% من جملة السكان في عام 1987، ثم وضعت الحرب أوزارها فشهد لبنان تطورات اقتصادية جيدة انخفضت فيها نسبة الفقر، ولكن الاعتداء الاسرائيلي في صيف عام 2006 ثم الاعتصامات في الوسط التجاري والسياحي في بيروت في عام 2007م قد شلت الحركة الاقتصادية، وبخاصة السياحة.
والأمر في الدول العربية الأخرى ـ ما عدا الدول الخليجية ـ ليس أحسن مما ذكرناه، وقد ازداد عدد الفقراء بسبب الأزمة المالية العالمية من 900 مليون إلى أكثر من 1200 مليون في عام 2009م