صحيفة الوطن – الدوحة
يواصل د. على محيي الدين القره داغي عرض كتابه المشكلة الاقتصادية وحلها والذي ننشر حلقاته يوميا على صفحات «رمضانيات»، وقد تناولنا فيه عبر الحلقة الماضية (الأزمة الاقتصادية العالمية.. حجمها وأسبابها وآثارها) وعرضنا مشاكل العولمة والبورصة العالمية، وفي هذه الحلقة يستكمل فضيلته الحديث عن (تحول الازمة المالية الى ازمة اقتصادية): سرعان ما تحولت الأزمة المالية إلى أزمة اقتصادية عالمية ويعتبر من أهم مظاهرها:
1.الكساد الذي عمّ معظم العالم.
2.انخفاض معدل النمو الاقتصادي، بل توقفه في معظم بلاد العالم.
3.زيادة معدل البطالة بسبب استغناء الشركات والمؤسسات عن كثير من الموظفين والعاملين، ويكفي لبيان ذلك أن أميركا وحدها خسرت في نوفمبر 2008 حوالي خمسمائة ألف وظيفة، كما أنها خسرت في العام نفسه مليونين ونصف مليون وظيفة، وذكر تقرير منظمة العمل الدولية ان العالم فقد عشرين مليون وظيفة خلال العام 2008م.
4.انكماش حاد في النشاط الاقتصادي وانخفاض مستوى الطاقة المستغلة في الشركات بسبب نقص السيولة وتجميد القروض إلا بشروط صعبة، وضمانات كبيرة، مما ترتب عليه إضرار كبير بالاقتصاد الانتاجي.
5.انخفاض معدلات الاستهلاك والانفاق والاستثمار.
6.افلاس بعض الشركات الصناعية الكبرى في مجال السيارات ونحوها، أو وصولها إلى حالة الانهيار أو حاجتها الماسة إلى الدعم الضخم من الحكومات هذا بسبب ما يأتي:
أ-استثمارها في سندات الرهون العقارية.
ب-علاقتها المباشرة مع البنوك التي أفلست، أو خسرت خسارة كبيرة، بأن أودعت لديها، أو استثمرت معها في محافظها، أو…….
ج- عدم الحصول على السيولة المطلوبة من القروض المطلوبة لتسيير أمورها.
د- انخفاض المبيعات بسبب الأزمة.
هـ-عدم قدرتها على تشغيل طاقتها الانتاجية.
7.انخفاض الطلب على البترول حيث نزلت قيمة البرميل من 147 دولارا في يوليو 2008 إلى أقل من 34 في ديسمبر 2008م، وسيكون لهذا أثره الفعال على الدول المنتجة.
تحول الأزمة الاقتصادية إلى أزمة تجارية أيضاً:
إن حلقات الاقتصاد مترابطة ومبني بعضها على بعض، ولذلك رأينا سرعة تحول الأزمة المالية إلى الأزمة الاقتصادية، واليوم انضمت إليهما الأزمة التجارية ليست على مستوى الدول المنتجة، بل على مستوى الدول المستهلكة، وهذا ما صرح به غولدن براون رئيس وزراء بريطانيا في مقال له نشر في صحيفة: وول ستريت جورنال، حيث قال: إن التجارة العالمية قد تنهار، ما لم يأخذ العالم خطوات منسقة وملموسة لتمويل تدفقات التجارة وقال براون: إن الأزمة المالية العالمية تحولت إلى أزمة تجارية في ظل تضرر العديد من الدول المصدرة الكبرى ضرراً بالغاً من جراء التراجع، وتأثرت الدول النامية تأثرا شديدا بانخفاض الطلب. وأشار إلى أن اليابان فقدت نصف سوق التصدير الخاص بها في الربع الأول من العام الحالي،…… ثم ذكر بأن 26 مليون وظيفة قد فقدت خلال الأزمة.
وقال: (التجارة ببساطة هي أسوأ ضحية للأزمة المالية العالمية في ظل وجود دائرة مفرغة نتجت عن انخفاض الصادرات، مما تسبب في انخفاض الإنتاج وارتفاع معدل فقدان الوظائف واستمرار الانخفاض في طلب المستهلكين وفي الصادرات وما إلى ذلك).
ثم اقترح براون سلسلة من الخطوات من أجل إنعاش النمو، تشمل ضخ كميات هائلة من الأموال لتمويل حركة التجارة. واتفقت الحكومات خلال قمة مجموعة العشرين التي استضافتها بريطانيا في أوائل ابريل الماضي على توفير 250 مليار دولار لتمويل التجارة خلال الفترة من 2009 إلى 2011).
الآثار النفسية والاجتماعية:
فقد ذكرت التقارير أن عدد العاطلين في العالم عام 2008 في حدود 210 ملايين عاطل، وأن أربعين مليوناً منهم مهددون بالفقر، وبالتالي فإن لهذه الأزمة تداعيات خطيرة، فهي بالاضافة إلى خطورتها النفسية سيكون لها تفسير على الحركة الاقتصادية والاجتماعية والأسرية، فقد ذكرت الصحف الغربية أن نسبة الطلاق قد زادت بشكل ملحوظ بعد الأزمة الاقتصادية، كما أن ملايين من الأميركيين أخذت منهم المساكن فسيكون لها تأثير كبير حتى على انتشار الجرائم ومزيد من التفكك الأسري.
الأزمة شاملة:
فالأزمة الحالية كما أنها شاملة لجميع مفاصل الاقتصاد حيث الخسائر والافلاس تلاحق البنوك والبورصات، وشركات التأمين، والطيران وغيرهما، فإنها شاملة كذلك لمختلف جوانب الحياة والنشاط الاقتصادي والاجتماعي، والانساني. هل هذا هو الانهيار للنظام الرأسمالي ؟
الذي نستطيع أن نقول دون تردد هو: إن ما حدث من هذا الاعصار المالي وما ترتب عليه من تدخل الدول تدخلاً مباشراً والاجراءات التي اتخذت لانقاذ النظام المالي والنقدي والمصرفي.. يعد خروجاً عن أسس النظام الرأسمالي الذي لا يبيح للدولة أن تتدخل في شؤون الحرية الفردية، وحرية التملك والانتاج، والاستهلاك والتبادل، وبالتالي فهو انهيار لهذه الأسس، وقد لا يكون انهياراً للنظام المالي في العالم الغربي، حيث يستطيع معالجة هذه المشاكل ـ ولو لأمد بعيد ـ عن طريق التعديلات والقيود، وقوة الانتاج والتقنيات والتقدم العلمي.
إن الفكر الغربي الاقتصادي يمتاز بالمرونة الكبيرة والتطوير عن طريق الديمقراطية والنقد البناء وعدم تقديس أي أساس إذا تعارض مع مصالحه، فإذا نظرنا إلى الاقتصاد الرأسمالي قبل مائة سنة فقط، وقارناه بالاقتصاد الرأسمالي اليوم لوجدناه قد تغير بنسبة لا تقل عن 50%، وبعد هذه الأزمة يمكن أن يتغير إلى أكثر منذ لك بكثير.
إن النظام الرأسمالي المعروف لم تعد له اليوم أسس تحمله، حيث انهارت معظم أسسه وخر عليها السقف، ولكن النظام المالي الغربي أو الأميركي حتى لَوْ لَمْ يسقط فإن هذه الأزمة قد هزته تماماً وأضعفته، وأنها تؤدي إلى كساد اقتصادي قد يطول سنين، وتضخم، وبطالة، ومشاكل كثيرة.
وبمقتضى القياس على حالة الاتحاد السوفياتي السابق كان من المفروض أن تنهار أميركا، حيث ان ظروفها مشابهة لظروفه فكان السوفيات في حرب استنزاف في أفغانستان، وكان اقتصادهم منهاراً في الوقت نفسه، فانهار مع كل ما عنده من الأسلحة، والهيمنة العالمية كما رأينا، ولكن هناك فروقاً بين الامبراطوريتين أو الاقتصادين ربما تحول دون انهيار النظام المالي في أميركا، أو انهيار أميركا نفسها بسرعة، ولكنها بلا شك في طريقها إلى الانهيار والزوال بسبب هذه الأزمة وبسبب الظلم والطغيان، وتحولها إلى امبراطورية القوة والبغي والعدوان، والازدواجية في المعايير، فهذه سنة الله تعالى في خلقه، والتأريخ على ذلك شاهد (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ).
انهيار أسس الرأسمالية بهذه الأزمة:
إن هذه الأزمة الحالية لم تؤد إلى إفلاس المؤسسات المالية الرأسمالية الكبرى، وانهيارها فحسب، بل أدت إلى انهيار مجموعة من الأسس المهمة في بنية النظام الاقتصادي الرأسمالي، وهي: أولاً ـ إن أهم أسسه على الاطلاق هو ترك حرية الملكية دون تدخل مباشر من الدولة، وفي ظل هذه الأزمة تدخلت أميركا وبعض الدول الغربية تدخلاً مباشراً وصل إلى التأميم للشركات والمؤسسات.
ومن المعلوم أن التأميم متناقض تماماً مع النظام الرأسمالي، بل هو من صميم النظام الشيوعي الاشتراكي.
إن حرية الفرد في الامتلاك والانتاج والتبادل والاستهلاك، وفي توجيه عناصر الانتاج لتحقيق أهدافه من أهم أسس النظام الرأسمالي حيث ينطلق في منح هذه الحرية المطلقة من فلسفة يفترض فيها أن الفرد إذا منحت له هذه الحرية يستطيع تحقيق مصالحه الخاصة به بنفسه، وحمايتها، فهو إن كان منتجاً يسعى ليكون إنتاجه مشجعاً للمستهلكين بشرائه، إما لأنه أجود، أو لأنه أرخص، وان كان متسهلكاًَ فهو يسعى لأن يشبع رغباته في حدود دخله، وبأدنى الأسعار، وهكذا الأمر إذا كان أجيراً أو عاملا ً أو مالكاً لمصنع، فالكل يسعى لتحقيق رغباته، وقادر على الحماية والدفاع عن حقوقه، وكل ذلك سيؤدي في النتيجة إلى تنسيق، وتنظيم للنشاطات الاقتصادية دون تدخل الدولة.
ولكن هذه الفلسفة تحطمت على صخرة الواقع، حيث استغلت الطبقة العاملة والمستضعفة فلم تستطع الصمود أمام قوة أصحاب رؤوس الأموال والمصانع الكبرى، فظهرت مظالم كبيرة نتجت منها ثورات كالثورة الشيوعية ضد الرأسمالية، وحتى في العالم الغربي ظهرت نقابات العمال التي دافعت عن حقوقهم، فقيدت هذه الحرية بقيود ووضعت القوانين المنظمة للأنشطة الاقتصادية فتغير النظام الرأسمالي عن نشأته إلى اليوم الكثير والكثير، وردمت الفجوة الواسعة بين الفكر الشيوعي الذي لا يعترف بالملكية الفردية وحرية الفرد في التملك، وبين النظام الرأسمالي الحر الذي يقوم عليهما.
فقد انهارت هذه الفلسفة اليوم في ظل هذا الاعصار الذي أطاح به تماماً.
وإذا كانت الثورات السباقة قد قيدت الرأسمالية، فإن هذه الأزمة قد قوّضتها تماماً، وغيّرت كثيراً من أسسها ومعالمها.
العيب في استغلال الحرية:
إن الواقع يشهد على أن العيب لم يكن في أصل الحرية وإنما في استغلالها لصالح رأس المال، وإطلاقها حتى أصحبت فوضى ولا سيما في نطاق البورصات والمشتقات، دون التدخل المعقول المطلوب من الدولة، حتى انتفخت كالبالونات، وكذب نافخوها على المستثمرين فحدث الانفجار الحتمي.
وقد ظهرت تماماً آثار الجشع والفساد من خلال احتكار الشركات العملاقة العابرة للقارة، والبنوك الكبرى للأسواق، حيث غذتها الفلسفة المادة الربوية التي أدت إلى أن تفتح فوهات الطمع، وأفواه الجشع، وتفتح أبواب الفساد في الأرض، ويكون الضحية: الفقراء والمستضعفين، ثم يطبق الله سنته عند ذلك بإنزال عقوبته على الظالمين المفسدين. شعار التأميم الآن من أجل الانقاذ:
وقد بررت أميركا قيامها بالتأميم بأنه انقاذ لاقتصادها من الانهيار حينما أعلن البيت الأبيض الأميركي عن 700 مليار دولار ثم 819 مليار دولار لانقاذ الاقتصاد الأميركي من الانهيار، ولتأميم أكبر المصارف وشركات التأمين التي أصابها شبح الانهيار، وفرضت شروطاً قاسية على صرف الأموال والمكافآت والأجور من قبل البنوك الأميركية، والتدخل لضمان أي أموال يقرضها أحد البنوك لبنك آخر، يقول الرئيس التنفيذي لبلاك أستون إحدى شركات الأسهم الخاصة: (سنتطلع اليوم لتغيير مطلق في القطاع المالي العالمي في مجال السيولة، وأن هذه الخطوة يمكن أن تكون القرار الذي سيكسر ظهر أزمة الائتمان).
وقد استخدم حوالي مائة مليار دولار لشراء أسهم في سيتي جروب، وجي بي مورغان، وشيرز، وغولدمان شاسز، ومورغان ستانيللي، وويز فارجو، وبنك أميركا، وميرل لينش، وأستيت بنك، وبنك نيويورك ميللون، وتستخدم مائة وخمسون مليار دولار لشراء أسهم في مصارف أخرى ومؤسسات مالية عبر أميركا، ولكن لهذه البنوك الحق في شراء أسهمها من الدولة خلال ثلاث سنوات، وبذلك ضخت مائتين وخمسين مليون دولار من خطة الانقاذ لشراء أسهم المؤسسات المالية، ولكنها ما زالت بحاجة إلى المزيد. وقامت الحكومة البريطانية بتخصيص مبالغ كبيرة للغرض السابق نفسه، وقدمت خطة تصل إلى 875 مليار دولار لإنقاذ الاقتصاد البريطاني، والتأميم، وقامت فعلاً بتأميم مصرف براد فورد بينغلي العقاري بقيمة 50 مليار دولار، وهكذا….