إن مقاصد الشريعة من حيث هي (فيما عدا المصالح المرسلة، وفقه المآلات، وسد الذرائع عند من يقول بها) ليست دليلا مستقلا، وإنما هي نوع من ميزان ضبط الاجتهاد، ومعيار لصحته ومطابقته لمبادئ الشريعة العامة، وبيان لجمال الشريعة ومحاسنها، ولذلك ينبغي مراعاة ما يلي:

* أن مقاصد الشريعة تعمل في دائرة المصالح المرسلة وفقه المآلات وسد الذرائع -عند من يقول بها.

* أن معرفة مقاصد الشريعة في غاية من الأهمية بالنسبة للمجتهد والمفتي والقاضي والحاكم، لاسيما في نطاق السياسية الشرعية ونطاق الاقتصاد اللذين تُركت فيهما ساحات واسعة جدا للاجتهاد المنضبط بمقاصد الشريعة وبقية شروطه فيهما، وكذلك الحال في القضايا الطبية المعاصرة.

فمعرفة المقاصد هي الميزان والمعيار والضمان للمنهج الوسطي البعيد عن التشدد والتفلت والإفراط والتفريط.

* أن الاجتهاد الصحيح المستقيم هو الذي تراعى فيه الأدلة النصية الكلية والجزئية مع مقاصد الشريعة دون التضحية بأحدهما على حساب الآخر، وإنما بتوازن دقيق يجمع بينهما، أو يرجح أحدهما على الآخر على ضوء الأدلة المعتبرة، ووضع المقاصد في مرتبتها مع الأدلة الثابتة، ثم فهم الأدلة الجزئية في ضوء المقاصد المعتبرة الكلية المحققة، وليست المقاصد والمصالح الموهومة أو الخاصة.

أن رعاية المجتهد أو المفتي لمقاصد الشريعة تترتب عليها مرونة كبيرة في الفقه، وتيسير على الناس، ورفع للحرج، ورحمة بهم، وتحقيق للخير الذي جعله الله تعالى هدفا لإنزال شريعته، ولكن بشرط واحد وهو أن لا يتعارض ذلك مع نص شرعي ثابت أو إجماع، أو مبدأ مستقر من مبادئ الإسلام، وهذا ما سار إليه الخلفاء الراشدون من تنظيم أمور الدولة والأمة، وهذا ما تقتضيه مصالح الأمة المتجددة على مر العصور، ففي عصرنا ظهرت تشريعات لتحديد الأجور للعمال، والصناع، والمساكن، وتنظيم الصناعة، والزراعة، والتجارة، وفرض عقوبات على جرائم جديدة كتعاطي المخدرات، والاتجار فيها، وإنشاء عقود جديدة، أو توثيقها، وجعل مراتب القضاء ثلاث درجات، وجعل القضاة في كل درجة ثلاثة أشخاص، وفصل السلطات الثلاث، وكل ما يتعلق بالفرد والمجتمع والدولة، والعلاقات الداخلية والخارجية وغير ذلك، وكل ذلك دليل على صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، وذلك لأن النصوص متناهية، والحوادث والمستجدات لا تتناهى، فتعالَج من خلال الاجتهاد القائم على القياس والمصالح المرسلة ونحوهما.