جريدة الوطن القطرية
يواصل د. علي محيي الدين القره داغي عرض كتابه «المشكلة الاقتصادية وحلها» الذي ننشر حلقاته يوميا على صفحات «رمضانيات»، وقد تناولنا فيه عبر الحلقة الماضية اسباب الاعصار المالي المسبب للازمة العالمية وعرضنا اسس انهيار الرأسمالية في الأزمة العالمية، وفي هذه الحلقة يستكمل فضيلته
الحديث عن أهم الدروس المستفادة من الازمة المالية العالمية حسبما ذكر الاقتصاديون في الغرب.
يمكن أن نلخص أهم الدروس المستفادة في مايلي:
1-بروز ضعف الاقتصاد الوضعي الرأسمالي أمام الأزمة وانكشاف عوراته وعيوبه.
2-إعادة النظر في الاقتصاد الرأسمالي وتقديم البديل الإسلامي على شكل مشروع متكامل يتعاون فيه جميع الاقتصاديين والخبراء.
3-ضرورة علاج المشكلات من جذورها وعدم التراخي في حلها
4-غياب القيم الدينية والأخلاقية عن الاقتصاد وعن السياسات والاجراءات والتنفيذ.
5-عدم تأثير المسكنات وعدم الاستفادة من الحل المعتمد على العرض دون المرض.
6-ضرورة السعي والعمل لتقديم اقتصاد اسلامي واضح المبادئ والمعالم والسياسات والآليات.
7-إن أكبر دروس الأزمة المالية هو أن العمل المصرفي الإسلامي هو الحل، وهو الصيغة المثلى للنظام المصرفي الحقيقي، هذا الدرس قاله غربيون غير مسلمين.
في هذا الاطار فإن بعض قادة الدول الأوروبية طالبت بإعادة النظر في النظام الرأسمالي الحالي، فقد طالب الرئيس الفرنسي بذلك صراحة في أكثر من مقابلة، وقالت وزيرة الاقتصاد الفرنسي في لقاء مع قادة الجالية الاسلامية: نريد اقتصاداً بلا ميسر (قمار) ولا غرر وقد ذكر وزير الخزانة البريطاني أن العجز الموجود في الميزانية لن يحله دون آثار سلبية سوى الصكوك الاسلامية، ويطالب رئيس وزرائه براون بتحويل لندن إلى عاصمة للصيرفة الإسلامية.
يبدو أن لهذه النداءات صدى، فقد أصدرت الهيئة الفرنسية العليا للرقابة المالية -وهي أعلى هيئة رسمية تعنى بمراقبة نشاطات البنوك- في وقت سابق قرارا يقضي بمنع تداول الصفقات الوهمية والبيوع الرمزية التي يتميز بها النظام الرأسمالي واشتراط التقابض في أجل محدد بثلاثة أيام لا أكثر من إبرام العقد، وهو ما يتطابق مع أحكام الفقه الإسلامي، ومع الفقه المالكي ـ بالذات ـ حيث يشترط أن لا يتأخر ثمن السلم عن ثلاثة أيام.
كما أصدرت نفس الهيئة قراراً يسمح للمؤسسات والمتعاملين في الأسواق المالية بالتعامل مع نظام الصكوك الإسلامي في السوق المنظمة الفرنسية، وناقش البرلمان الفرنسي فكرة السماح للصيرفة الإسلامية والتأمين الإسلامي، وأعطى الضوء الأخضر، ولذلك أصدرت وزيرة الاقتصاد مجموعة من القوانين واللوائح لتحقيق هذا الهدف، ولتحويل باريس عاصمة للصيرفة الإسلامية.
والحق أنه ومنذ سنوات والشهادات تتوالى من عقلاء الغرب ورجالات الاقتصاد تنبه إلى خطورة الأوضاع التي يقود إليها النظام الرأسمالي الليبرالي على صعيد واسع، وضرورة البحث عن خيارات بديلة تصب في مجملها في خانة البديل الإسلامي.
ففي كتاب صدر مؤخرا للباحثة الإيطالية لووريتا نابليوني بعنوان «اقتصاد ابن آوى» أشارت فيه إلى أهمية التمويل الإسلامي ودوره في إنقاذ الاقتصاد الغربي.
واعتبرت نابليوني أن «مسؤولية الوضع الطارئ في الاقتصاد العالمي والذي نعيشه اليوم ناتجة عن الفساد المستشري والمضاربات التي تتحكم بالسوق والتي أدت إلى مضاعفة الآثار الاقتصادية».
وأضافت أن «التوازن في الأسواق المالية يمكن التوصل إليه بفضل التمويل الإسلامي بعد تحطيم التصنيف الغربي الذي يشبه الاقتصاد الإسلامي بالإرهاب، ورأت نابليوني أن التمويل الإسلامي هو القطاع الأكثر ديناميكية في عالم المال الكوني».
وأوضحت أن «المصارف الإسلامية يمكن أن تصبح البديل المناسب للبنوك الغربية، فمع انهيار البورصات في هذه الأيام وأزمة القروض في الولايات المتحدة فإن النظام المصرفي التقليدي بدأ يظهر تصدعا ويحتاج إلى حلول جذرية عميقة».
ومنذ عقدين من الزمن تطرق الاقتصادي الفرنسي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد «موريس آلي» إلى الأزمة الهيكلية التي يشهدها الاقتصاد العالمي بقيادة «الليبرالية المتوحشة» معتبرا أن الوضع على حافة بركان، ومهدد بالانهيار تحت وطأة الأزمة المضاعفة (المديونية والبطالة).
واقترح للخروج من الأزمة وإعادة التوازن شرطين هما تعديل معدل الفائدة إلى حدود الصفر ومراجعة معدل الضريبة إلى ما يقارب 2%. وهو ما يتطابق تماما مع إلغاء الربا ونسبة الزكاة في النظام الإسلامي.
6ـ ضرورة تدخل الدولة بالرقابة والتشريعات التي تمنع التلاعب والتهاون والاحتكار والمعاملات التي لا تقدم قيمة مضافة للاقتصاد، وتدخل الدولة في ضبط ورقابة التمويل المصرفي، وذلك لأن الأموال التي في البنوك هي في معظمها أموال المودعين، وقليل منها قادم من المساهمين، ولهذا يجب أن توجه لمصلحة الشعب من خلال صرفها في التنمية الشاملة، وفي البنية التحتية وفي مصالح الشعوب التي يجب أن تكون لها الأولوية في التمويل المصرفي
7ـ ضرورة التحول إلى اقتصاد الأصول الحقيقية:
التمويل والتعامل يجب أن يكون محله أصولاً حقيقية، حتى تقدم قيمة مضافة للاقتصاد، ومن المعلوم أن التمويل الاسلامي مبنى على تملك الأصول الحقيقية وتمليكها، وعلى المشاركة في الربح والخسارة.
8ـ ضرورة مراجعة المبادئ المتطرفة للرأسمالية القائمة على تأليه السوق وعدم التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة.
ولهذا فإن فرانسيس فوكامايا صاحب مقولة نهاية التأريخ اضطر إلى مراجعة نفسه، فكتب مؤخراً حيث وقع الفشل على أحدث وأقوى حضارة وأقواها، حتى وصف في مقاله الأخير الانموذج الأميركي بان صورته الحسنة تبدو اليوم كأنها وضع أحمر شفاه على فم خنزير كما في مجلة نيوزويك الأميركية.
مبررات البحث عن نظام اقتصادي ومالي جديد:
بعد سقوط الاقتصاد الشيوعي تماماً مع أنه كان محمياً بوجود أكبر قوة عسكرية وعلمية واقتصادية في الاتحاد السوفياتي السابق، وفي جميع الدول التي تبنت النظام الشيوعي، وإعطاء فرصة زمنية كافية 1917-1991 لم يعد من المعقول العود إلى الساقط الفاشل المعزول.
وأما النظام الرأسمالي فقد أصابه ما أصابه، فقد استغلت أميركا كل قوتها لربط معظم اقتصادات العالم باقتصادها، وجعل عملتها عملة عالمية، وبذل الغرب كل ما في وسعه لتقوية النظام الرأسمالي من حيث الآليات والأدوات، والأنظمة الممثلة في صندوق النقد الدولي IMF، وغيره من المؤسسات المالية الدولية وهيمنتها على العالم وبخاصة الدول النامية التي كانت دائماً تشجعها على حرية السوق، بل فرضت ذلك عليها من خلال منظمة التجارة العالمية WTO.
ومع كل ذلك حدث لهذا النظام الاقتصادي الرأسمالي، والنظام المالي الدولي ما حدث من هذه الكوارث والأزمات التي كان آخرها هذه الأزمة التي أكلت الأخضر واليابس.
ولذلك فإن العقل والمنطق يقتضي ضرورة مراجعة النظام الرأسمالي، والنظام المالي العالمي، وإيجاد آليات لتحقيق التوازن بين الاقتصاد العالمي، والاقتصاد القومي، وبين الاقتصاد المالي، والإنتاج، فقد كان الاقتصاد المالي في البورصات يتضخم بصورة غير طبيعية وبشكل كبير، في الوقت الذي كان الناتج المحلي والعالمي يسير باتجاه معاكس نحو الانخفاض على مدار السنوات الأخيرة.
وكذلك أصبح من الضروري إيجاد آليات أكثر فعالية لتحقيق الشفافية والتقويم المستمر للنظام المالي، وإيجاد بديل عن آلية سعر الفائدة باعتباره مكوناً رئيسياً في عمل المؤسسات المالية، والبحث عن وظائف أخرى لها غير التجارة في النقود، والتوجه نحو المشاركات الحقيقية بين أرباب الأموال والمستثمرين من أجل تقويم حقيقي للأصول ومساهمة الطرفين في الغنم والغرم.
وأياً ما كان فإن أحداً من الاقتصاديين والسياسيين المنصفين لا ينكر وجود خلل كبير في النظام المالي العالمي ينبغي إصلاحه، وإعادة توجيهه بشكل يحقق مصالح الجميع.
ولذلك وجه كثير حتى من السياسيين الكبار أصابع الاتهام إلى النظام الرأسمالي والمالي العالمي، فقد وجه الرئيس الفرنسي ساركوزي انتقادات حادة إلى النظام الرٍأسمالي العالمي، وقال: إن النظام المالي العالمي على وشك كارثة وإننا في حاجة لإعادة بناء النظام المالي والقدي العالمي من جذوره ومضى ساركوزي في انتقاداته للنظام المالي قائلاً: إن فكرة وجود أسواق بصلاحيات مطلقة دون قيود، ودون تدخل الحكومات فكرة مجنونة، وان فكرة أن الأسواق دائماً على فكرة مجنونة. وقد وصف بعض الاقتصاديين البورصات العالمية بأنها تحولت إلى ما يشبه صالات القمار المتطورة في شراء وبيع السندات والمشتقات والاختيارات، وكتب كين لورس في صحيفة الغارديان البريطانية – في 13 أكتوبر2008 – مقالة انتقد فيها بشدة الرأسمالية والبورصات العالمية، وانتهى إلى الدعوة إلى نظام عالمي جديد للاقتصاد والمال.
التنبؤ بازدهار نظام اقتصادي ثالث:
بعد سقوط النظام الاقتصادي الشيوعي تماماً، وترنح النظام الرأسمالي تحت وطأة الأزمات منذ بدياته إلى الآن على الرغم أنه حقق نتائج اقتصادية جيدة في عدة مجالات… فقد تنبأ كثير من الاقتصاديين الإسلاميين منذ فترة ليست قريبة ان الاقتصاد الاسلامي هو البديل. ولكن الذي يقتضي التنويه به هو أن بعض الاقتصاديين الغربيين أنفسهم تنبأوا بذلك فقد ذكر الاقتصادي الفرنسي جاك أوسترى في كتابه (الإسلام في مواجهة النمو الاقتصادي) أن هناك اقتصاداً ثالثاً غير رأسمالي، أو اشتراكي، وهو الاقتصاد الإسلامي الذي يبدو أنه سيسود المستقبل، لأنه أسلوب كامل للحياة يحقق كافة المزايا الاقتصادية.ولذلك سماه الله تعالى: الشفاء، والرحمة للعالمين.