يواصل د. على محيي الدين القره داغي عرض كتابه «المشكلة الاقتصادية وحلها» والذى ننشر حلقاته يوميا على صفحات «رمضانيات»، وقد تناولنا فيه عبر الحلقة الماضية (شهادات بعض المفكرين والساسة وعلماء الاقتصاد في الغرب) وعرضنا معالم المشروع الإسلامي الاقتصادي لحل هذه الأزمة المالية، وفي هذه الحلقة يتحدث فضيلته عن (النظام المالي والسياسة المالية في الاقتصاد الإسلامي):الفرق بين السياسة المالية والنظام المالي:

أ ـ النظام:

لغة بكسر النون: الخيط الذي ينظم فيه اللؤلؤ وغيره، والترتيب، والاتساق، ويقال: نظام الأمر أي قوامه وعماده، وجمعه نُظُم، وانظمة، وأناظيم، والتنظيم هو تنسيق الأجزاء على نسق واحد، وأصله من نظم الأشياء نظماً، أي ألفها وظمّ بعضها إلى بعض.والمعنى الاصطلاحي: لا يخرج عن هذه المعاني اللغوية.

ب ـ المالي:

لغة: نسبة إلى المال.

وهو في اصطلاح جمهور الفقهاء: ما فيه منفعة مباحة لغير ضرورة، حيث يشمل الأعيان والمنافع، في حين أن جمهور الحنفية يحصرون المال في الأعيان فقط.

والذي يظهر لي رجحانه أن المال هو: كل ما له قيمة بين الناس، ومنفعة حسب العرف. ج ـ النظام المالي: يقصد به المبادئ المالية التي تتحكم في موارد الدولة وإنفاقها العام، ومعالجة العجز، فإذا كان النظام إسلامياً فإن هذه المبادئ تكون إسلامية تستهدف تحقيق الغايات المنشودة في ظل العقيدة والقيم الإسلامية.
وإن كان رأسمالياً فإن المبادئ والقيم الرأسمالية هي التي تتحكم في موارد الدولة وإنفاقها العام ومعالجة العجز، وهكذا. د ـ السياسة المالية: هي الإجراءات والترتيبات الخاصة بإدارة الأموال التي تتخذها الدولة من حيث الإيرادات والنفقات لتحقيق الأهداف الاقتصادية للدولة، وسيأتي تفصيلها في المبحث الثاني من هذا الفصل إن شاء الله.

الفرق بين السياسة المالية والنظام المالي:

إن النظام المالي يقصد به المبادئ والقيم الحاكمة في ظل الايدلوجية السائدة، سواء كانت إسلامية، ام رأسمالية، أم شيوعية..، وأما السياسة المالية فهي الترتيبات والاجراءات والوسائل التي تستعمل لتحقيق أهداف ذلك النظام المالي في ظل أيدلوجيته، ومن هنا فإن النظام المالي يتسم بشيء من الثبات حيث يتألف من مجموعة من المبادئ والقواعد والأهداف والمؤسسات التي يفضل المجتمع الاعتماد عليها في معاشه، في حين أن السياسة المالية هي الوسائل والاجراءات والأدوات التي تستهدف تحقيق الأهداف وبالتالي فهي متجددة مرنة متطورة يجرى فيها التنفيذ والترك، أو الزيادة، والنقص، فمثلاً تعدّ مقادير الزكاة جزءاً من النظام المالي، في حين يعتبر قيام الدولة بتعجيل الزكاة لحولين أو أكثر أو أقل سياسة اقتصادية، وهكذا.

المبحث الأول / المال والنظام المالي في كتب التراث، ودلالاتها :

لقد أولى علماؤنا السابقون عناية قصوى بهذا الموضوع وألفوا فيه كتباً مستقلة بين مختصر ومتوسط ومفصل، إضافة إلى أن جميع كتب الفقه تتضمن أبواباً عن المال وأسباب كسبه، ونحن هنا نذكر أهم الكتب التي ألفت في هذا المجال، ليفهم من خلاله أن الأوائل قد دخلوا في تفاصيل المال، بل والنظام المالي حتى نستطيع بكل سهولة استخراج علم متكامل في مجال المال، ونذكر هذه الكتب التي وصلتنا حسب تسلسلها الزمني من خلال زمن وفاة مؤلفيها ـ رحمهم الله ـ وهي:

1ـ كتاب الخراج لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم المولود بالكوفة في 113هـ والمتوفى 183هـ، صاحب الإمام أبي حنيفة، وقاضي القضاة في عصر الخليفة هارون الرشيد الذي طلب منه ذلك حيث جاء في مقدمته: ( إن أمير المؤمين ـ أيده الله تعالى ـ سألني أن أضع له كتاباً جامعاً يعمل به في جباية الخراج، والعشور الرسوم التي تؤخذ على حركة التجارة والصدقات والجوالي ـ أي الجزية ـ وغير ذلك، مما يجب عليه النظر فيه، والعمل به، وإنما أراد بذلك رفع الظلم عن رعيته، والصلاح لأمرهم).

وقد كان أبو يوسف في هذا الكتاب ناصحاً أميناً للخليفة بالحكمة والموعظة الحسنة غير خائف في الله لومة لائم، فبدأ بنصيحة قوية حكيمة بليغة قال فيها: ( يا أمير المؤمنين..إن الله قلدك أمراً عظيماً..، وائتمنك عليهم وابتلاك بهم وولاك أمرهم، وليس يثبت البنيان ـ إذا أسس على غير التقوى ـ أن يأتيه الله من القواعد فيهدّه على من بناه وأعان عليه، فلا تضيعنّ ما قلدّك الله من أمر هذه الرعية فإن القوة في العمل بإذن الله، لا تؤخر عمل اليوم إلى غد، فإنك إذا فعلت ذلك أضعت، وإن الأجل دون الأمل، فبادر الأجل بالعمل، فإنه لا عمل بعد الأجل..فإن أسعد الرعاة عند الله تعالى يوم القيامة راع سعدت به رعيته، ولا تَزغ فتزيغ رعيتك، وإياك والأمر بالهوى والأخذ بالغضب..).

ثم قال: وقد كتبت لك ما أمرت به، وبينته، فتفهمه وتدبّره، وردد قراءته حتى تحفظه، فإني قد اجتهدت لك في ذلك ولم آلك والمسلمين نصحاً ابتغاء ثواب الله وخوفاً من عقابه، – وإني لأرجو إن عملت بما فيه من البيان- أن يوفر الله لك خراجك من غير ظلم مسلم ولا معاهد، ويصلح لك رعيتك، فإن صلاحهم بإقامة الحدود عليهم ودفع الظلم عنهم، والتظالم فيما اشتبه من الحقوق عليهم.

هكذا وبهذه الصراحة البعيدة عن التكلف والألقاب ينصح أبو يوسف الخليفة هارون الرشيد ـ رحمهما الله ـ.

وقد تضمن الكتاب: قسمة الغنائم، وأحكام المعادن، والفيئ والخراج، وما عومل به في سواد العراق، والشام والجزيرة وكيف كان فرض الخليفتين أبي بكر، وعمر لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأحكام القطائع، وموات الأرض في الصلح والعنوة، وحد أرض العشر من الخراج، وما يخرج من البحر، والعسل والجوز واللوز، وقصة نجران وأهلها، والصدقات وأحكام إجارة الأرض البيضاء، والجزائر، والقنى، والآبار، والكلأ والمروج، وشأن نصارى بني تغلب، وسائر أهل الذمة، والمجوس، والكنائس والبيع والصلبان، وحكم المرتد، وقتال أهل الشرك وأهل البغي، وكيف يدعون. فهذه الموضوعات يمكن تلخيصها في أربعة موضوعات أساسية، وهي بيان موارد الدولة، نفقاتها، واخلاقيات النظام المالي الإسلامي، وواجبات الدولة. فالكتاب في حقيقته لا ينحصر في بيان أحكام الخراج، وإنما يتضمن خطة للإصلاح المالي والاقتصادي، وتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة، وهو دراسة ميدانية أيضاً كشفت المظالم التي كانت موجودة في عصر الرشيد، وما قبله، حيث قال: ( نظرت في خراج السواد، وفي الوجوه التي يجبى عليها) فوجد فيها مظالم كبيرة، وقد عرض عليه أن يعفى الأرضين التي لم تعد تزرع فلا ينبغي أن يوضع عليها الخراج. وذكر أيضاً أن المطلوب من الخليفة أن يختار: ( قوماً من أهل الصلاح والدين والأمانة، فتوليهم الخراج، ومن وليت منهم فليكن فقيهاً عالماً مشاوراً لأهل الرأي، عفيفاً..ولا يخاف في الله لومة لائم..) ثم ذكر مظالم الولاة والجباة حيث قال: فإنه قد بلغني أنه يكون في حاشية الوالي والعامل جماعة منهم، من لديه به حرمة، ومنهم من له إليه وسيلة، ليسوا بأبرار ولا صالحين..يأخذون ذلك فيما بلغني بالعسف والظلم والتعدي..فأْمُرْ بحسم هذا وما أشبهه، وترك التعرض لمثله..

ثم قال: ولا يُضربنّ رجل في دراهم خراج، ولا يقام على رجله، فإنه قد بلغني أنهم يقيمون أهل الخراج في الشمس ويضربونهم الضرب الشديد، ويعلقون عليهم الجرار، ويقيدونهم بما يمنعهم من الصلاة، وهذا عظيم عند الله، شنيع في الإسلام.

كما وجه الخليفة نحو تعمير الأرض بأساليب مشجعة.

2ـ كتاب الخراج ليحيى بن آدم بن سليمان القرشي المتوفى 203هـ، حيث نشره المستشرق ت.وجونبيول في سنة 1896م بمدينة ليون.

وهو كتاب يتضمن الأحاديث والآثار الواردة في الغنيمة والفيء، وأرض الخراج والعشور، والقطائع، وأحكام إحياء الأرض الميتة، والعيون..ونحوها، وهو في أربعة أجزاء تتضمن 640 نصاً كلها مسندة.

3ـ كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام المتوفى 224هـ، حققه الشيخ محمد خليل هراّس، وطبعته دولة قطر، واعتنى بطبعه ونشره الشيخ عبدالله الأنصاري.

والكتاب يتضمن أربعة أجزاء في مجلد واحد، يبدأ الجزء الأول بحق الإمام على الرعية، وحق الرعية على الإمام، وصنوف الأموال التي يليها الأئمة للرعية في الكتاب والسنة، ثم يذكر كتاب الفيء ووجوهه، وسبله، وكتاب سنن الفيء والخمس والصدقة، وكتاب فتوح الأرضين صلحاً، وسننها وأحكامها.

ويبدأ الجزء الثاني بباب الحكم في رقاب أهل العنوة والأساني والسبي، وكتاب افتتاج الأرضين صلحاً، وأحكامها، وكتاب مخارج الفيء، ومصارفه.

والجزء الثالث يتضمن عدة أبواب في أجزاء الطعام على الناس من الفيء، وباب التسوية بين الناس في الفيء وحماها ومياهها، وكتاب الخمس وأحكامه وسننه، وكتاب الصدقة وأحكامها وسننها.

واما الجزء الرابع فيتضمن مجموعة من الأبواب، تتعلق بأحكام الصدقة والزكاة انواعها، ومقاديرها ومصارفها بالتفصيل.

ويعتبر هذا الكتاب من أهم الكتب في التنظيم الاقتصادي الإسلامي في القرنين: الأول والثاني، وقد أثنى عليه العلماء قديماً وحديثاً، فقد قال الحافظ ابن حجر: كتابه في الأموال من أحسن ما صنف في الفقه وأجوده.