جريدة الوطن – الدوحة

ظهرت في عصرنا الحاضر وسائل جديدة في كل مجالات الحياة، ونحن فعلاً أمام ثورات علمية وتقنية في عالم الاتصالات والمواصلات تجاوزت كل الثورات السابقة في عالم الصناعة، ونحوها.

 ويبدو أن ثورة التقنيات المتطورة في عالم الاتصالات الانترنت، وفيس بوك، وتويتر، والموبايل ساعدت كثيراً في تفجير ثورات في عالم السياسة، وساهمت في التجميع والتنظيم، والتحريك والتوجيه كما رأينا في ثورة تونس المبدعة، وبشكل أكبر في ثورة مصر العظيمة التي كانت مدرسة فعلاً في الحفاظ على الأموال العامة، والخاصة، والأخلاق والقيم السامية في التعامل مع الآخرين، والسلوكيات، حيث لم تشهد ساحة التحرير- المليئة بمئات الآلاف طوال عدة أسابيع، بل بالملايين في بعض الأيام- مشكلة أخلاقية من التحرش الجنسي، أو مشكلة مالية من السرقات، والنهب، ونحوهما، كما تبين أن بعض ما حدث في بداية الثورة كان من صنع فلول بعض الأجهزة الأمنية والشرطة للاساءة إلى الثورة.

والخلاصة أن الثورة كانت ثورة سلمية نظيفة طاهرة أعطت صورة حضارية طيبة للشعب المصري إلى العالم أجمع.

الحالة الثالثة: أن تبدأ المظاهرات من بدايتها بالمطالبة بإسقاط النظام.

وهنا ننظر في هذه المسألة:

أ- فإن كانت أسباب المظاهرة مشروعة حيث توجد المظالم الحقيقية العامة، أو الفساد في الأموال العامة، أو التقصير البيّن في حقوق الأمة، أو المخالفة لشروط العهد الدستور الذي نظم العلاقة بين الشعب والحاكم فإن تلك المطالبة تدخل ضمن الحقوق المشروعة للشعب صاحب حق العقد والحل وحينئذ إذا كانت المظاهرة تمثل غالبية الشعب المصرة على التغيير فيجب على الحاكم أن يستجيب لهذه المطالب المشروعة عن طريق الحوار والمفاوضات حتى لا يترتب على ذلك ضرر كبير، وقد قال القاضي عياض: فلو طرأ عليه- أي على الإمام- كفر، وتغيير للشرع…. خرج عن حكم الولاية، وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه، وخلعه، ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلاّ لطائفة وجب عليهم القيام وخلع الكافر، ولا يجب في المبتدع إلاّ إذا ظنوا القدرة عليه.

ب- أما إذا كانت أسباب المظاهرات غير مشروعة فهي غير جائزة، ويجب على الحكومة أن توضح هذه المسائل وتكشف زيف الأسباب الموهومة لمظاهرتهم عن طريق الحوار، وأهل العلم، كما حدث مثل ذلك في أيام الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حيث قامت ضده الخوارج لأسباب غير مقبولة شرعاً، فأرسل إليهم ابن عباس رضي الله عنهما، فناقشهم وفَنّد آراءهم، فتراجع منهم خلق كثير، كما هو معروف.

 كما يجب على الحكومة أن تُحَسّن من أدائها وأن تكون واسعة الصدر، وتسمح لكل ما يقولون فإن كان فيه حق تنفذه، وإلاّ فالحوار، ثم الأمر بفض المظاهرة.

ثالثاً- إن معظم التشدد يأتي من دائرة التوسع في دائرة البدعة المحرمة، مع أن التحقيق يقتضي أن لا نعطي لها حجماً أكبر، ولا وزناً أثقل من وزنها، كما لا ينبغي، بل لا يجوز أن توسع دائرة البدعة المحرمة لتشمل كل شيء جديد، وحينئذ تتوقف الحياة عن الحركة والتطوير، وبالتالي فلا يتناسب مع صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، ولذلك حصر العلماء الاثبات لمعناها قديماً وحديثاً في إحداث شعيرة تعبدية قولية، أو فعلية، أو عقدية لم يشرعها الله تعالى.

يقول الامام الشاطبي: فالبدعة إذن عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة، يقصد بالسلوك عليها: المبالغة في التعبد لله سبحانه ثم قال: وإنما قيدت بالدين ؛ لأنها لو كانت طريقة مخترعة في الدنيا على الخصوص لم تُسمّ بدعة كإحداث الصنائع….

 وقد أكد معظم المفسرين هذا المعنى السابق، ولذلك لم يجعلوا الهيئات الخاصة بالعمائم والملابس، وما يقوم على العادات والأعراف من البدع، بل جعلوا ما فيه من المصالح معتبراً بالأدلة العامة.

 وبالإضافة لذلك فإن ما له أصل عام في الدين لا يدخل في البدعة، وهذا ما فهمه الفاروق حيث روى البخاري وغيره بسنده عن عبدالرحمن بن عبدالقاريّ أنه قال: ( خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبيّ بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نِعْمَت البدعة هذه…….).

أخذت البدعةُ حجماً أكبر؟

أ- ولو نظرنا إلى حجم ما كتب عن البدعة على الرغم من أهميتها قديماً وحديثاً، وما جرى فيه خلاف لتوصلنا إلى أنه أعطى لها حجما أكبر مما تستحق، فعلى سبيل المثال فإن الكلام عن البدعة في المرجع الأكبر للتراث الإسلامي قد تكرر 5509 مرات، وتكرر في فتاوى بعض المعاصرين آلاف المرات، وكان يكفي أن يحسم هذا الخلاف بالفرق بين إحداث البدعة في العقائد، والشعائر، وفي العبادات المحضة بالزيادة أو النقصان، أو بتغيير صورتها الشرعية دون دليل، وبين الإبداع في أمور الدنيا الذي هو من المطلوبات بل من الواجبات للنهوض بالأمة.

ب- ويبقى بينهما أمر ثالث في غاية من الأهمية يمكن أن يكون محل النزاع هو أن الخروج من البدعة في الدين العبادات الشعائرية هل يتحقق بوجود أصل عام أم لا بدّ من دليل خاص؟، وهذا محل نظر واختلاف يسع الطرفين، وأن الراجح هو أن ما يوجد له أصل عام معتبر من الأدلة لا يدخل في البدعة المحرمة، وإنما يدخل في البدعة الحسنة كما قال الفاروق الخليفة الراشد في جمع الناس جميعاً على إمام واحد، والصلاة بهم ثلاثاً وعشرين ركعة (نعمت البدعة هذه).

ج- ومن جانب آخر نرى ما رآه المحققون من أن الأمور الخلافية الاجتهادية التي قال بها بعض العلماء الثقات خارجة من دائرة البدعة، وأنه لا يجوز تسمية ذلك بالخلاف ما دام قال به أحد الأئمة الأعلام، فإذا كانت قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا ترد فيما اختلف فيه الأئمة الأعلام، فكيف يوصف اجتهاد واحد منهم بالبدعة؟

وسيأتي لهذا مزيد تفصيل.

د- ومما وقع في هذه المسألة إشكال آخر وهو أن الموسعين في دائرة البدعة جعلوا قضية البدعة بين الحق والباطل، والهداية والضلال، والصواب والخطأ المبين، وفي بعض الأحيان يصل الأمر عند بعضهم إلى الحكم بالكفر والخروج عن الملة لمرتكب البدعة.

 مع أن الصواب هو أن البدع مراحل، منها البدع العقائدية التي هي أخطر بكثير من البدع العملية التي نتحدث عنها.

 إن البدعة قد ثار حولها خلاف كبير- كما سبق- ومع ذلك فإن تنزيلها على المسائل أصعب بكثير من التحقيق في معناها، ولذلك اختلف فيها الصحابة والتابعون، فمثلاً يطلق بعضهم عليها أنه بدعة، فقد كان ابن عمر رضي الله عنه يعد صلاة الضحى بدعة، وخالفه في ذلك جماعة من الصحابة الكرام..