أ.د. علي محيي الدين القره داغي

جريدة الوطن – الدوحة

 البعد الثاني: الحلّ الذاتي الداخلي

 حيث يسعى الإنسان لحل المشكلة الذاتية داخل كيان الفقير نفسه من خلال ما يأتي:

1 – يركز الإسلام في هذا المجال على غرس العقيدة الصحيحة في داخله، وبخاصة الإيمان باليوم الآخر وما أعده الله تعالى للإنسان في الجنة، وأن الدنيا ما هي محطة العبور، والإيمان بالقضاء والقدر، والإيمان بأن في الفقر والغنى حكمًا قد يظهر لنا بعضها، ويخفى علينا الكثير، كما أظهر القرآن الكريم ذلك من خلال قصة سيدنا موسى عليه السلام مع خضر، حيث تبين أن كل ما فعلته يد القدر كان خيرًا ومصلحة، وقد أكد القرآن الكريم من خلال مجموعة من الآيات على أن الخير فيما اختاره الله تعالى فقال: «وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ».

 2 – وبهذه العقيدة يتحقق للفقير داخليًا الطمأنينة والرضا، والصبر والقناعة، وأن نعم الله تعالى كثيرة عليه، فقد يكون قد حرم من نعمة الغنى ولكنه عوض بنعم أخرى لا تعد ولا وتحصى: «وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ».

 وبعبارة موجزة التركيز على التربية العقدية والروحية، والتزكية الأخلاقية الداخلية للفقير، التي تجعله مقتديًا برسول الله صلى الله عليه وسلم في صبره على الجوع والفقر، وبصحبه الكرام، وبخاصة أهل الصفة، وقناعتهم، وصبرهم، وعفتهم وزهدهم حتى «يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا».

 3 – غرس قيم الصبر والزهد والقناعة والرضا:

يركز الإسلام على العناية القصوى بالآخرة، باعتبارها المرجع والمآل، والدار الخالدة، وأن الدار الدنيا هي متاع الغرور، وعلى غرس القناعة والرضا والصبر، وعلى ذلك تدل مئات الآيات والأحاديث، منها قوله تعالى: «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا»، وقوله تعالى: «وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ»، وقوله تعالى: «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ».

 ومن الأحاديث الشريفة قوله صلى الله عليه وسلم لابن عمر: كن في الدنيا كأنك غريب عابر سبيل وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، من حياتك لموتك.

 قال النووي: قالوا في شرح هذا الحديث: معناه: لا تركن إلى الدنيا، ولا تتخذها وطنًا، ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها، ولا بالاعتناء بها، ولا تتعلق منها إلاّ بما يتعلق به الغريب في غير وطنه، ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله.

 وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس وقوله صلى الله عليه وسلم: لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء.

 وفي مجال القدوة يقول عمر رضي الله عنه: «لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي ما يجد من الدّقل- أي ردئ التمر- ما يملأ بطنه» وقالت عائشة رضي الله عنها: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلاّ شطر شعير في رفّ لي، فأكلت منه حتى طال عليّ، فكلته ففني وقالت جويرية أم المؤمنين رضي الله عنها: «ما ترك رسول الله عند موته دينارًا ولا درهمًا، ولا عبدًا ولا أمة……..»، وقالت عائشة رضي الله عنها: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: خرج رسول الله من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير.

 وقد وردت أحاديث كثيرة تذكر حالات كثيرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها جوعان حتى أنه في بعض الأحيان يضع حجرًا على بطنه حتى يسنده به، وهكذا كان كبار الصحابة، مع إنفاقهم في سبيل الله، يقول عتبة بن غزوان رضي الله عنه: ولقد رأتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلاّ ورق الشجر، حتى قرحت أشداقنا…، ويقول أبو هريرة: فوالله الذي لا إله إلاّ هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع….

 فقد كان الرعيل الأول يعانون من الفقر والجوع، ولكن غلبوا عليهما بقوة الإرادة والتوكل على الله، وحولوهما إلى النعمة، فلم يمنعاهم من الحركة والجهاد، والتعمير والتغيير، فهؤلاء أهل صفة الذين كانوا بالليل قوامين متهجدين، وبالنهار صائمين وخير مجاهدين، يقول عنهم أبو هريرة: لقد رأيت سبعين من أهل الصفة، ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار، وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته.

ومن الأحاديث الآمرة بالقناعة وبيان فضلها قول النبي صلى الله عليه وسلم: قد أفلح من أسلم، وكان رزقه كفافًا، وقنعه الله بما آتاه، وقوله صلى الله عليه وسلم لأهل الصفة الفقراء الجائعين: لو تعلمون ما لكم عند الله تعالى لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة.

 فهذه الأحاديث وتلك السيرة العطرة والقدوة الحسنة لتدل بوضوح على أنه إذا جاء الفقر والجوع فلا يجوز الاستسلام لهما، بل يجب القناعة والعمل.