بقلم – أ.د. علي محيي الدين القره داغي

جريدة الوطن – الدوحة

 فإن تجارب المصارف الإسلامية خلال عقودها الثلاثة الأخيرة جديرة بالدراسة والبحث، حيث استطاعت أن تشق طريقها على الرغم من كل المعوقات التي وضعت أمامها، والهجمات التي شنت عليها من قبل أعداء المشروع الإسلامي بصورة عامة، وأعداء البنوك الإسلامية بصورة خاصة، بل استطاعت البنوك الإسلامية أن تحقق نجاحات في أكثر من صعيد، وتثبت وجودها ليس على الصعيد المحلي، والإسلامي فحسب، بل على الصعيد العالمي، وما اهتمام البنوك العالمية الكبرى وفتح بعضها لفروع إسلامية بل لبنوك إسلامية مستقلة إلا برهان على النجاح والعناية والاهتمام.

فقد فتح أول بنك إسلامي في مدينة دبي منذ بداية عام 1975، ثم تبعته بنوك إسلامية أخرى حتى بلغ عددها اليوم أكثر مائتي بنك تستثمر مئات المليارات من الدولارات على مستوى الداخل والخارج.

 وعلى الرغم من كل ما تحقق من إنجازات، وما أصابها من معوقات فإن هذه التجربة بعد مرور أكثر من ربع قرن عليها تحتاج إلى تقويم وتقييم ودراسات جادة، بل وندوات ومؤتمرات لتوضح لنا معالم نجاح هذه التجربة، ومكامن فشلها في بعض الأمور والمجالات.

كما أن البنوك الإسلامية تحتاج اليوم إلى خطوات تقدمية أخرى فلا ينبغي أن تقف على ما وصلت إليه منذ عدة سنوات، وذلك لأن من سنة الله تعالى في هذا الكون أن من لم يتقدم فقد تأخر كما قال تعالى: «لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر» حيث لم يقل الله (أو يتوقف) لأن التوقف هو عين التأخر. وهذا التقدم يتطلب منا اليوم عدة أمور من أهمها:

1 ـ دراسة تحليلية جادة لآليات البنوك الإسلامية من كل جوانبها والإتيان بالبدائل الجدية في كل مجال.

2 ـ عدم الاكتفاء بصيغ المرابحات والاستصناع والتمويل، والانتقال إلى الصيغ الفعالة مثل المشاركات والمضاربات، والبيع والسلم والإجارات ونحو ذلك، وذلك لأن معظم المعوقات تأتي بسبب عدم التطوير في الصيغ والآليات.

3ـ دراسة الأسواق الداخلية والخارجية، والدخول فيها عن علم وبينة.

4 ـ تكوين بورصة إسلامية لتكون بمثابة الرئة للبنوك الإسلامية يتحقق من خلالها زفيرها وشهيقها.

5 ـ توحيد البنوك الإسلامية، وتقوية الاتحاد العالمي للبنوك الإسلامية ودعمه بكل ما ينهض برسالته ويقوى ساعده، حتى يكون قادراً على النهوض بما أنيط به، وعلى التحديات التي تواجهه.

وذلك لأن عالمنا اليوم يعيش عصر العولمة، وعصر الاقتصاد العملاق، والشركات العملاقة، حيث نرى أن أوروبا الغربية كلها اتحدت واتخذت لنفسها عملة واحدة (يورو) وتداخلت الشركات والبنوك العملاقة بعضها في بعضها حتى تكونت بنوك يصل رأسمال أحدها إلى مئات المليارات بل قد يصل إلى تريليون.

 ومن الطبيعي أن تكون للمصارف الإسلامية مشاكل وعقبات، كما تحققت لها إنجازات ونجاحات فمن أهم هذه المشاكل والعقبات مشكلة الديون التي يتأخر سدادها لأي سبب كان، حيث لا تستطيع فرض فائدة وزيادة بسبب التأخير أو التوقف عن السداد، في حين لا توجد هذه المشكلة لدى البنوك التقليدية التي تتعامل بالفوائد، حيث تحتسب الفوائد من بداية القرض إلى نهايته.

 والأخطر من ذلك هو أن يقوم العميل المدين بتأخير سداد ديونه للمصرف الإسلامي، لأنه يعلم أنه لا يفرض زيادة أو فائدة عليه، فيماطل وهو موسر حتى يستفيد أكبر قدر ممكن من المديونية.

 ولذلك يستحق الموضوع أن يبحث بكل جوانبه الفقهية والاقتصادية للوصول إلى حلول عملية مقبولة شرعاً.

 والله أسأل أن يوفقنا لما يرضاه، ويسدد خطانا ويعصمنا من الوقوع والزلل في القول والعقيدة والعمل، فهو حسبنا ومولانا فنعم المولى ونعم النصير.

التعريف بالموضوع

الديون لغة جمع الدَين ـ بفتح الدال ـ وهو لغة يطلق على ما له أجل، وأما الذي لا أجل له فيسمى بالقرض، وقد يطلق عليهما.

وقد ورد لفظ «الدين» ومشتقاته في القرآن الكريم حتى أن أطول آية هي آية الدين: قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ….) وقد فسَّره المفسرون بعدة تفسيرات، قال الشافعي: يحتمل كل دين، ويحتمل السلف وقال الطبري: (..وقد يدخل في ذلك القرض والسلم..) وقال الجصاص: ( ينتظم سائر عقود المداينات التي تصح فيها الآجال ……).

فلفظ «دين» يشمل كل دين ثابت مؤجل سواءً كان بدله عيناً أو ديناً، وحتى لو كان سبب الآية موضوع السلم فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

 وورد لفظ الدين في السنة المشرفة بمعنى الدين الشامل لحقوق الله تعالى، وحقوق العباد المتعلقة بالذمة حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: فدين الله أحق أن يقضى.

وأما الفقهاء فقد أطلقوا الدين على معنيين: عام لكل ما يجب في ذمة الإنسان من الالتزامات الآجلة الدينية والدنيوية، وخاص بما ثبت في ذمته بسبب عقد «استصناع، ومرابحة، وقرض ونحوها» أو لاستهلاك أو قرابة.

 فالدين هنا أعم من القرض، والمقصود به في البحث هو المعنى الخاص الذي يتناول الديون الآجلة بسبب عقد الاستصناع، أو المرابحة، أو البيع بالثمن الآجل، أو نحو ذلك.

وصف المشكلة

من المعلوم أن البنوك الإسلامية تتعامل مع عملائها في الغالب عن طريق الالتزامات الآجلة، فتصبح دائنة لهم سواء الدين ناتجاً عن عقد المرابحة، أم البيع الآجل، أم الاستصناع أم نحو ذلك، وذلك لأن النشاط الرئيسي لها هو تحقيق الأرباح من خلال العقود الآجلة التي تكون أثمانها مؤجلة ومقسطة.

 والمشكلة تكمن في أن هذه الأثمان التي تحولت إلى ديون في ذمم العملاء إذا تأخر أداؤها في أوقاتها المحددة فإن البنك الإسلامي يخسر عوائد هذه الديون المتأخرة، وذلك لأن أرباحه تعود عند إجراء العقود الشرعية إلى ملاحظة الزمن طولاً وقصراً، فإذا تأخر السداد كلياً، أو سداد بعض الأقساط فإن هذه الأرباح لم تتحقق بصورة متكاملة.

 ولكن بعض العملاء يتأخرون عن دفع أقساطهم الواجبة، أو يتعمدون عدم الدفع بسبب عدم فرض الفوائد على التأخير في البنوك الإسلامية، لكل ذلك تقع مشكلة كبيرة للبنوك الإسلامية تكمن في أنها تحرم من هذه الديون المتأخرة أو من استثمارها والاستفادة من عوائده، ومن هنا تخسر نسبة لا بأس بها من العوائد يكون لها تأثير سلبي على ميزانيتها، وبالأخص في التنافس مع البنوك الربوية التي لا تتأثر بهذه المتأخرات لأن الفوائد تعمل حسب الزمن، وأن عداداتها تحسب الفوائد كلما تأخر موعد السداد.

الآثار السلبية للمتأخرات على البنوك الإسلامية:

تترتب على تأخير ســداد الديون آثار ســلبية كبيرة على البنوك الإســـلامية من أهمها:

1 ـ الحرمان من تلك المبالغ المدينة، ومن استثمارها والاستفادة من عوائدها خلال فترة التأخير، وبالتالي تتأثر ربحية البنك الإسلامي فيكون في وضع لا يستطيع معه منافسة البنوك الربوية التي تحسب فوائد التأخير ولا يهمها ذلك.

2 ـ توجه البنوك الإسلامية نحو المبالغة في طلب الرهونات والضمانات، والتشدد في إعطاء فرص التمويل للعملاء خوفاً من التأخير في السداد، الأمر الذي يجعل تعامل البنك الإسلامي محصوراً في فئة من الناس تتوافر لديهم ما يتطلبه التمويل الإسلامي من الضمانات الممتازة، وهذا من أعظم المخاطر، لأنها تؤدي إلى جعل المال دولة بين الأغنياء، في حين أن مقاصد إنشاء البنوك الإسلامية هو إفساح المجال لأكبر قدر ممكن من العملاء.

3 ـ توجيه البنوك الإسلامية إلى رفع هوامش الربح خوفاً من المماطلة حتى أصبح التمويل عن طريق البنك الإسلامي أعلى كلفة بالمقارنة إلى الفوائد الربوية، ولأجل هذا ينتقد الكثيرون هذا المسلك حتى يقولون: كأن البنوك الإسلامية تستغل اسم الإسلام لرفع تكلفة تمويلها.

 وترتب على ذلك أن العملاء الممتازين الذين لا يماطلون (ما عدا الملتزمين جداً) لا يأتون إلى البنوك الإسلامية، حيث التكلفة عالية، والخدمات المتاحة فيها أقل بكثير من البنوك الربوية.

 وقد حاول أحد البنوك الإسلامية في قطر حل هذه المشكلة من خلال عقد يتضمن تردداً وتعليقاً حيث ينص أحد بنودها على أنه في حالة الالتزام بالسداد فإن نسبة المرابحة 10% وفي حالة التأخير عن السداد تكون 13% وهذا العقد بهذه الصورة لم أرَ من الفقهاء من أجازه.