جريدة الوطن – الدوحة

وهذا الكلام هو ملخص لما ذكره الرافعي في شرح الوجيز وعليه نصوص الكتب الشافعية حيث تدل على أنه ليس هناك خلاف للشافعية في عدم جواز بيع الدين بالدين، وأن قواعد الصرف تنسحب على كل التعامل الذي يجرى بالدين حيث يشترط فيه التماثل والتقابض في المجلس إذا كانا من جنس ربوي واحد، والتقابض في المجلس إذا كانا من جنسين ربويين مختلفين، أما إذا كانا من غير ذلك فتطبق عليه القواعد العامة في البيع، بأن كان الدين دراهم ودنانير (النقود) والمستبدل عنه طعاماً، أو غيره من القيميات، أو المثليات (ما عدا النقود) فيجوز البيع زيادة ونقصاناً ودون الحاجة إلى القبض في المجلس.

والخلاصة فعلم ما سبق أن ما يجري من تلك الدولة من بيع الدين المؤجل لشخص آخر بثمن معجل اقل من الدين لا يجوز أبداً عند الشافعية، وليس عليه أي قول من أقوال الإمام الشافعي، ولا وجه من وجوه أصحابه، وإنما هو نابع من عدم فهم بعض العبارات المطلقة الواردة في جواز بيع الدين دون الخوض في مرادها وما تتطلبها قواعد المذهب في مسائل الصرف ونحوها.

كما أن ذلك لا يجوز عند أحد من الفقهاء السابقين ـ حسب علمي ـ بل هو داخل في ربا النسيئة، ولا يختلف عن سندات الدين التي صدر بحظرها قرارات المجامع الفقهية، وهذا والله أعلم.

الإجراء الثاني: دخول البنك مع المدين في مشاركة في عقار، أو نحوه بقيمة الدين وحينئذ تتحقق شركة الملك فيستفيد البنك من أجرة العقار أو نحو ذلك، وهذا إنما يتحقق في المدين المعاون أو بعبارة أخرى مع المدين المعسر وذلك لأن المدين المماطل لا يريد التعاون مع البنك، وإنما يريد حصوله على مكاسب جراء هذه المماطلة، والمطلوب من البنك الإسلامي أن يتعامل مع المدين المعسر بمقتضى قوله تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة).

 النوع الثاني: ما يمكن اعتباره من الحلول الجذرية: وهو أيضاً قسمان:

 القسم الأول: حل المشكلة من خلال تضمين العقد في البداية عند التعاقد ما تسميه البنوك الإسلامية بغرامات التأخير، وهي في حقيقتها تعتبر شرطاً جزائياً، أما غرامة التأخير فهي عقوبة جنائية تعود حصيلتها إلى الدولة.

القسم الثاني: التعويض عن الضرر من خلال مطالبة البنك للمدين بتعويضه عن الضرر الذي أصابه جراء مماطلته من خلال العمل لإصدار حكم من المحكمة، أو من خلال التحكيم.

ونحن هنا نحاول تأصيل هذه الأمور الثلاثة: غرامة التأخير، والشرط الجزائي، والتعويض عن الضرر.

 أولاً: غرامة التأخير

 تمهيد:

وقبل أن أخوض في غمار غرامة التأخير وتأصيلها نوضح موقف البنوك الإسلامية في التعامل مع غرامات التأخير.

وقد قام أحد البنوك الإسلامية التي كنت العضو التنفيذي لهيئته الشرعية بعمل استبيان وجرد لمواقف البنوك الإسلامية حول موضوع غرامات التأخير، فأرسل إلى أربعين بنكاً إسلامياً فكانت النتيجة أن البنوك الإٍسلامية ومن ورائها هيئاتها الشرعية أمام هذا الإجراء على قسمين، قسم لا يقبل بفرض هذه الغرامات، وقسم آخر غير قليل يقبل بل يفرض هذه الغرامات، وقد بلغ عدد البنوك الإٍسلامية التي تستعملها 12 بنكاً من بين 27 بنكاً.

هذا في عام 1999م أما الآن فعدد البنوك الإسلامية التي تستعمل غرامات التأخير تزيد بكثير، يكفي أن المصرفين الإسلاميين في قطر اللذين لم يكونا يستعملانها عام 1999 أصبحا اليوم يستعملانها بناء على فتوى هيئتها الشرعية.

والبنوك الإٍسلامية في فرضها غرامات التأخير ليست على سنن واحدة، فتسعة بنوك إسلامية من ضمن (12) بنكاً تنص في عقودها على غرامات التأخير في حين أن ثلاثة منها لا تنص في عقودها، وإنما في ملاحق مستقلة، وأن خمسة منها تفرض نفس أسلوب احتساب الربح الأصلي، وسبعة منها تستعمل أساليب أخرى.

ثم إن معظم هذه البنوك التي تستعمل الأساليب لا تضيف هذه الأموال المأخوذة إلى أرباحها بل تصرفها في وجوه الخير، حيث وصل عددها إلى ثمانية بنوك من بين (12) بنكاً، بينما تضيف الأربعة الأخرى هذه الأموال المأخوذة بسبب التأخير إلى أرباحها.

وقد رأينا البحث السابق قد توصل إلى نتيجة مهمة جداً وهي أن فرض غرامة التأخير لم يقض على المشكلة بل زاد حرجاً للبنوك الإسلامية وكلاماً وقيل وقال وأنه يجب البحث عن آلية معينة لتقليل ظاهرة المتأخرات، أو القضاء عليها.

 كما توصل البحث إلى أن اختلاف هيئات الرقابة الشرعية في حكم غرامة التأخير أحدث نوعاً من البلبلة.

 التأصيل الفقهي لغرامة التأخير على الديون المتأخرة

 الغرامة لغة من غرِم ـ بكسر الراء ـ غرماً وغرامة أي لزمه ما لا يجب عليه، ويقال: أغرمه أي جعله غارماً، وأُغرم بالشيء أي أولع به، وغرّمه أي ألزمه تأدية الغرامة، والغرامة: الخسارة، وفي المال: ما يلزم أداؤه تأديباً أو تعويضاً، يقال: حكم القاضي على فلان بالغرامة (محدثة).

 والغـرامة في الشـريعة والقانـون عقوبة جنائية تفرضها الدولة أو المحاكم لصـــالح الخزانة العامة.

ففي القانون تعتبر الغرامة عقوبة جنائية دون شك ولا خلاف في صفتها الجنائية في مرحلتي التهديد بها وتوقيعها، ولكن معظم القانونيين في فرنسا ذهبوا إلى تكييف الغرامة بعد الحكم بها حكماً نهائياً على أساس الدين المدني للدولة أو الدين العام لصالح الدولة في مواجهة المحكوم عليه كدين الضريبة، وذلك حتى تتمكن الدولة من تحصيلها من الورثة بعد وفاة المحكوم عليه في حدود تركته، ولكن هذا الاتجاه لم يقبل به الآخرون، وذلك لأن الغرامة عقوبة جنائية خالصة تستهدف أغراضاً معينة كالزجر والتخويف لا يتحقق إلاّ بتوقيعها على من ارتكب الفعل المعاقب عليه، كما أنه لا توجد مصلحة للمجتمع في توقيع العقوبة على أفراد أبرياء لا علاقة لهم بالجريمة وهم ورثة المحكوم عليه، فالغرامة باعتبارها عقوبة تتحقق بحرمان المحكوم عليه من جزء من ذمته المالية، وإحداث ألم له بهذا الحرمان، وأما إثراء الخزينة العامة فهو نتيجة تبعية ليست مقصودة لذاتها، فلا يجوز جعلها الأصل ومن هنا فالغرامة عقوبة جنائية في جميع مراحلها، وجزاء جنائي تتوافر فيها جميع أركان العقوبة، وعناصر الجزاء الجنائي، فهي جزاء توقعه الدولة بمالها من سلطة العقاب على الأفراد دون غيرها، وأن الدولة وحدها هي التي تتولى إقامة الدعوى بتطبيق الغرامة ـ ما عدا بعض استثناءات ـ وأن حصيلة الغرامات تذهب إلى خزينة الدولة، ولا تكون من نصيب الطرف المضرور، وهذا ما نصت عليه معظم القوانين في العالم، وأن الغرامة جزاء لفعل غير مشروع جنائياً وبالتالي تخضع لمبدأ: لا عقوبة إلاّ بناءً على نص، وأنه لا يجوز استخدام القياس فيها، ولا تطبيقها بأثر رجعي، كما أن الغرامة تهدف إلى تحقيق أغراض عقابية، ولا تهدف إلى تعويض الطرف المضرور، ويقول الدكتور سعيد الجنزوري: والواقع أن إثبات أن الغرامة هي عقوبة جنائية أمر لا يحتاج إلى دليل أو مناقشة….

وأما الغرامة فقد استعملها البعض بمعنى الضمان الذي يترتب على التزام دين، أو إحضار عين، أو بدن، باعتبار المال حيث إن الضامن الكفيل يتحمل آثار التزامه بناء على الحديث الوارد القائل: الزعيم ـ أي الكفيل ـ غارم. وقد استعملت الغرامة عندهم أيضاً فيما يترتب على التعدي أو التقصير من تعويضات للشخص المضرور.