ا.د. علي محيي الدين القره داغي

جريدة الوطن – الدوحة

 عدم الخلط بين الغرامة والتعويض:

والتحقيق أي الغرامة كمصطلح معروف الآن بين القانونيين هي ما تفرضه الدولة بسبب وقوع مخالفة قانونية تستوجب فرض عقوبة مالية- كما سبق-.

 وحينئذ يجب أن تميز عن التعويض المالي والمدني الذي يستفيد منه المضرور تعويضًا عمّا أصابه من ضرر، وهذا ما أكده الفقيه القانوني الشهيد عبدالقادر عودة رحمه الله؛ حيث قال: من المسلم به أن الشريعة عاقبت على بعض الجرائم التعزيرية بعقوبة الغرامة، من ذلك أنها تعاقب على سرقة التمر المعلق بغرامة تساوي ثمن ما سرق مرتين فوق العقوبة التي تلائم السرقة.

وقد ورد في ذلك بعض الأحاديث الثابتة منها حديث عبدالله بن عمرو بن العاص أنه صلى الله عليه وسلم في شأن التمر المعلق قال: «.. فمن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة»، وحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بخصوص الزكاة: «.. من أعطاها مؤتجرًا فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله غرمة من غرمات ربنا تبارك وتعالى..».

قال الشوكاني: «وقد استدل به- أي الحديث- على أنه يجوز للإمام أن يعاقب بأخذ المال، وإلى ذلك ذهب الشافعي في القديم، ثم رجع عنه وقال: إنه منسوخ، وزعم الشافعي أن الناسخ حديث ناقة البراء، لأنه صلى الله عليه وسلم حكم عليه بضمان ما أفسدت، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه أضعف الغرامة، ولا يخفى أن تركه صلى الله عليه وسلم للمعاقبة بأخذ المال في هذه القضية لا يستلزم الترك مطلقًا، ولا يصلح للتمسك به على عدم الجواز وجعله ناسخًا البينة..».

وقد ذهب إلى جواز المعاقبة بالمال الإمام يحيى من الهادوية، وقال في الغيث: لا أعلم في جواز ذلك خلافًا بين أهل البيت وقد ذكر الشوكاني مجموعة كبيرة من الأحاديث الدالة على ذلك مع المناقشـة.

وبسبب ذلك اختلف الفقهاء فذهب جمهورهم إلى منع الغرامة المالية، وذهب بعضـهم إلى جواز ذلك.

يقول الأستاذ عودة: «ولكن الفقهاء اختلفوا في جعل الغرامة عقوبة عامة يمكن الحكم بها في كل جريمة، والذين يعترضون على الغرامة المالية يحتجون بأنها كانت مقررة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ونسخت؛ وأنه يخشى أن يكون في إباحة الغرامة المالية ما يغري الحكام الظلمة بمصادرة أموال الناس بالباطل….».

ثم قال: «وفي عصرنا الحاضر حيث نظمت شؤون الدولة، وروقبت أموالها، وحيث تقرر الهيئة التشريعية الحد الأدنى والحد الأعلى للغرامة، وحيث ترك توقيع العقوبات للمحاكم، لم يعد هناك محل للخوف من مصادرة أموال الناس بالباطل، وبذلك يسقط أحد الاعتراضات التي اعترض بها على الغرامة».

ومن المعلوم أن مَنْ قال بالغرامة المالية يعتبرها عقوبة جنائية «تعزيرية» تأخذها الدولة، ويؤول إلى خزائنها وبيت مالها، وليست للتعويض عما أصاب المضرور.

 خطأ استعمال لفظ الغرامة في موضوعنا هذا

وبما ذكرناه أن إطلاق لفظ الغرامة على ما يريد البنك الإسلامي أخذه لصالحه غير دقيق بل غير صحيح، فالغرامة عقوبة جنائية تصرف للدولة فقط، في حين أن ما يريد البنك الإسلامي أخذه هو بمثابة تعويض عما فاته من أرباح متوقعة أو مظنون بها.

ولذلك لا ينبغي استعمال هذه الكلمة في هذا المجال وإنما الذي ينبغي بحثه في هذا المجال هو التعويض المالي عما أصاب البنك من ضرر «إن صح هذا»، وموضوع الشرط الجزائي ومدى مشروعيته في هذا المجال، وهذان الموضوعان اللذان نبحثهما الآن ومدى علاقتهما بالموضوع.

 ثانيًا: الشرط الجزائي

الشرط- بسكون الراء- لغة: ما يوضع ليلتزم في بيع، أو نحوه، وبفتح الراء العلامة، وجمعه أشراط، ومنه الشرطة، قال الفيروز آبادي هو: إلزام الشيء والتزامه في البيع ونحوه كالشريطة، وجمع الشرط الشروط، وجمع الشريطة: الشرائط.

 والشرط يستعمل في الفقه الإسلامي بمعنيين:

المعنى الأول: هو ما أوجبه الشرع لصحة، أو لزومه مثل شرط صحة العبادات، أو العقود، وشروط لزوم العقد، وهذا ما يعبر عنه الفقهاء بما يلزم من عدمه عدم المشروط، ولا يلزم من وجوده وجود المشروط أو عدمه، وليس هذا محل بحثنا.

المعنى الثاني: ما ألزمه العاقدان على نفسيهما في العقد، وبعبارة دقيقة هو إحداث التزام في العقد لم يكن يدل عليه لولاه، أو كما قال العلامة الحموي: الشرط هو التزام أمر لم يوجد في أمر قد وجد بصيغة مخصوصة والمقصود بالشروط هنا هي الشروط المقترنة بالعقد إما كبند من بنوده، أو كملحق من ملحقاته المرتبطة بالعقد.

والمراد بـ «الجزائي» هو في اللغة نسبة إلى الجزاء وهو المكافأة على الشيء، والجزية بالكسر: ما يؤخذ من الذمي، وخراج الأرض.

والشرط الجزائي عرفه القانون المدني الفرنسي بتعريفين، أولهما في مادته 1226 بأنه: «هو الذي بموجبه ولضمان اتفاق ما يتعهد الشخص بشيء ما في حالة عدم التنفيذ»، وأما التعريف الثاني ففي المادة 1229 حيث نصت على أن: «الشرط الجزائي هو التعويض عن الأضرار التي يتحملها الدائن بسبب عدم تنفيذ الالتزام الأصلي».

وقد انتقد هذان التعريفان انتقادات شديدة، ولذلك عرفه الدكتور البدراوي بأنه: «اتفاق سابق على تقدير التعويض الذي يستحقه الدائن في حالة عدم التنفيذ، أو التأخير فيه» وبذلك يدخل فيه اشتراط حلول جميع الأقساط إذا تأخر المدين في دفع قسط منها، لأنه تعويض وإن كان غير مالي في الظاهر.

وهناك مصطلحات أخرى استعملت بدلاً من الشرط الجزائي مثل الجزاء الاتفاقي، والجزاء التعاقدي، والتعويض الاتفاقي، وتعويض النكوص، والبند الجزائي، وفي نظرنا أن مصطلح «الشرط الجزائي» أدق المصطلحات لأن لفظ «الشرط» يشير إلى أن هذا الجزاء، أو التعويض جاء بسبب شرط وضع ضمن شروط العقد، أو في اتفاق لاحق بهذا العقد، و«الجزائي» يشير إلى أن ذلك التعويض جاء جزاءً لمخالفة ذلك الشرط.

التكييف القانوني للشرط الجزائي

حتى تتضح الصــورة نذكر التكـييف القانـوني للشـــرط الجزائـي ثم التكــييف الفقهـي.

فقد أثيرت حول الشرط الجزائي عدة نظريات، منها نظرية العقوبة الخاصة التي تعود جذورها إلى القانون الروماني الذي كان يجير الشرط الجزائي كعقوبة؛ حيث كان يفرض على المدين في حالة عدم التنفيذ الجزئي دفع الجزاء بالكامل.

ولكن هذه النظرية قد نالها قسط كبير من الانتقادات، وذلك، لأن الشرط الجزائي مبني على حرية الإرادة، ولا يمكن أن يضفى على هذه الحرية الإرادية صفة العقوبة، ولذلك رأى البعض أن هذا الإضفاء العقابي تشويه للطبيعة الحقيقية للشرط الجزائي، ومن هنا فقد هبت على هذه النظرية رياح النقد الشديدة فاقتلعتها من جذورها.