بقلم: ا. د. علي محيي الدين القره داغي

جريدة الوطن – الدوحة

ويمكن حصر هذه الآراء في اتجاهين:

الاتجاه الأول: اتجاه المانعين الذين يمنعون غرامة التأخير مطلقاً.

الاتجاه الثاني: اتجاه المجيزين الذين أجازوا فرض غرامة التأخير على المدين الموسر المماطل.

وقد استدل المجيزون بعدة أدلة نذكرها مع ما يمكن من مناقشتها مناقشة علمية متجردة، وهي:

أولاً: استدلوا بثلاثة أحاديث وهي:

أ ـ قول النبي صلى اله عليه وسلم: «مطل الغني يظلم» وهو حديث صحيح سبق تخريجه.

ب ـ قوله صلى الله عليه وسلم: «ليُّ الواجد بحل عرضه وعقوبته» وهو حديث حكم بعض الرواة عليه بالصحة، والبعض الآخر بالحسن، أي فلا تقل درجته عن الحسن وهو حجة في إثبات الحكم الشرعي.

ج ـ قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» وهو حديث حكم عليه الرواة بالصحة، بل هو أصل من أصول المعاملات، وقاعدة أساسية من القواعد الأربع التي يرجع إليها الفقه الإسلامي كله.

فالحديثان الأولان يدلان على أن مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته وإن كانت في الغالب هي الحبس، والضرب ونحو ذلك، فليس هناك مانع من العقاب بالغرامة المالية، وقد ثبت في السيرة والسنة، وسنة الخلفاء الراشدين العقوبة بأخذ المال، منها حديث بهز بن حكيم حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم بخوص المانع عن أداء زكاته: «فإنا آخذوها وشطر ماله غرمة من غرامات ربنا…».

والحديث الثالث يدل بوضوح على منع الضرر والضرار، ومن المعلوم أن مطل الغني يضرّ بالبنك الدائن ضرراً كبيراً حيث يحبس ماله عن الاتجار فيه، لذلك يمكن أن تتخذ الغرامة المالية لمنع هذا الضرر، لأن الضرر يزال، وإزالة هذا الضرر إنما يتحقق بالتعويض عنه وذلك يتم عن طريق الغرامة المالية.

 ويمكن أن يناقش الاستدلال بهذه الأحاديث حيث إن الحديثين الأولين لم يحددا العقوبة، وتفسيرها بالغرامة المالية على التأخير يحتاج إلى دليل، ثم إن سلطة فرض العقوبات وتنفيذها ليست للأفراد والشركات، وإلاّ كان بإمكان البنك أن يقوم بجلد المدين وضربه وحبسه، وحينئذٍ كان يحتاج إلى بناء السجون والجلادين، ولم يقل أحد من العلماء السابقين بذلك.

 والحديث الثالث يدل على رفع الضرر وليس فيه دلالة على فرض العقوبات من قبل الأفراد، أو الشركات لتحقيق مصالحها، بل إن الضرر لا يزال بضرر مثله.

 ثم إن الدين له ميزانه الخاص الحساس القائم على عدم الزيادة فيه لأي سبب كان، وإلاّ كانت هذه الزيادة ربا، بل جعل الفقهاء بعض العقود التابعة له في نفس الدائرة ولذلك لم يجيزوا كفالة، وربما اشترط المجيزون أيضاً على جواز اشتراط غرامة التأخير، أو الشرط الجزائي في الديون بما ذهب إليه جمهور الفقهاء ما عدا الحنفية من أن منافع الأعيان المغصوبة مضمونة.

 والجواب عن ذلك أنه مع التسليم بذلك أن هناك فروقاً جوهرية بين النقود (وبالأخص النقود الورقية) وبين الأعيان من العقارات والحيوانات ونحوهما من عدة أوجه من أهمها أن الأعيان يمكن الاستفادة من منافعها كالسكنى في العقارات والركوب في الحيوانات ولذلك يجوز تأجيرها بمال، ولكن النقود ليست لها منافع بذاتها، ولذلك لا يجوز تأجيرها، ثم إن النقود لها خصوصية حيث اشترط الرسول صلى الله عليه وسلم في بيعها المساواة الكاملة مع القبض الفوري (يداً بيد) إذا كان النقدان من جنس واحد، والقبض الفوري فقط إذا كانا مختلفي الجنس، وهذان الشرطان غير محتاج إليهما في غير النقود.

ثانياً: استدلوا بالمصالح المرسلة حيث انها تقتضي منع المماطل من استغلال أموال المسلمين ظلماً وعدواناً، حيث إن هذا الظلم يقع على البنوك الإسلامية فقط دون البنوك الربوية التي تسري فيها الفائدة حسب الزمن، ومن هنا تضرر البنوك الإسلامية مرتين: مرة لأنها تحرم من أموالها، ومن استثمارها والاستفادة من فوائد استثمارها، ومرة تضعف في سوق المنافسة، وهل من المعقول أن تقف البنوك الإسلامية مكتوفة الأيدي أمام استغلال هؤلاء المماطلين الأغنياء الذين يستفيدون من هذه الثغرة أية فائدة، ولذلك أجيز التعويض عما أصاب البنك من الضرر الفعلي.

ويمكن أن يناقش هذا الدليل بأن من شروط المصالح المرسلة أن لا تصطدم مع نص شرعي، وهذه المصلحة تصطدم مع النصوص الخاصة بمنع الزيادة في الديون لا في البدء ولا في الانتهاء.

وجود الفروق بين غرامة التأخير والفائدة الربوية

وقد أجاب هؤلاء المجيزون عن هذا وبينوا أن هناك فروقًا بين غرامة التأخير، والفائدة الربوية تكمن في أن الفوائد الربوية مثبتة في البداية في حين أن غرامة التأخير محتملة حيث إن المدين لو لم يتأخر لم يدفع شيئاً، وأن الفوائد الربوية توضع على الدين منذ البداية في حين أن غرامة التأخير تأتي في الأخير وعند التأخير، وأن الفوائد الربوية تلزم المدين مطلقاً سواء كان عسراً أو موسراً أما غرامة التأخير فلا تلزم إلاّ عند المماطلة، وأن الفوائد الربوية تلزم المدين فور تأخير في الأداء، أما غرامة التأخير فلا تلزمه إلاّ عند المماطلة.

والجواب عن ذلك هو أن هذه الفروق ليست جوهرية ولا مؤثرة في الحكم الشرعي، وذلك لأن وجود الشرط الفاسد في العقد يجعل العقد فاسدًا عند جماعة من الفقهاء والعقد الفاسد محرم، وحتى لو لم يجعله فاسدًا فإن القبول بالشرط الفاسد وبالأخص القبول بأخذ الفائدة أو دفع الفائدة حرام لا يجوز الإقدام عليه.

 وأما كون الفائدة مثبتة في البداية وغرامة التأخير محتملة فلا يؤثر في النتيجة إذا أدت إلى تحصيل غرامة التأخير، حيث إن القرض جرّ منفعة مادية مالية بسبب التأخير عن السداد، وهذا هو ما يتفق مع ربا الجاهلية القائم على: «إما أن تقضي في وقته أو تربي».

 ثم إنه من الناحية العلمية أن بعض البنوك الإسلامية التي أجازت غرامة التأخير على ضوء بعض ضوابط شكلية، بحيث إذا توافرت بدأ الكومبيوتر في احتساب غرامة التأخير، وذلك لأن إثبات كون المدين معسراً ليس من السهل إثباته، ولذلك تتجه هذه البنوك إلى اعتبار المدين مماطلاً بمجرد تأخره عن السداد إلى أن يثبت المدين أنه معسر.

 ومن جانب آخر لا شك في أن هذا الدين قد جرّ منفعة مادية للدائن، وبالتالي يتعارض مع القاعدة الثانية في الفقه الإسلامي القاضية بأن كل قرض جرّ نفعاً مشروطاً فهو ربا، وأصلها حديث ضعيف أخرجه البغوي في حديث العلاء بن مسلم عن عمارة عن علي رضي الله عنه بلفظ: «كل قرض جرّ منفعة فهو ربا»، قال ابن عبد الهادي: هذا إسناد ساقط، سوار متروك الحديث، ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن علي أيضاً، وله شاهد ضعيف عند البيهقي بلفظ: «كل قرض جرّ منفعة فهو وجه من وجوه الربا» وروى البيهقي وابن ماجة بسندهما عن الهُنائي قال: سألت أنس بن مالك الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي له؟ قال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أقرض أحدكم قرضاً فأهدى له، أو حمله على الدابة، فلا يركبها، ولا يقبلها إلاّ أن يكون جري بينه وبينه قبل ذلك وهذا الحديث فيه ضعف بسبب أن إسناده عتبة بن حميد الضبي المختلف فيه: ضعفه أحمد وأبو حاتم، ووثقه ابن حبان.