جريدة الراية – الدوحة

شدّد فضيلة الشيخ د. علي محيي الدين القره داغي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين على أهمية الوقوف مع الشعب السوري في محنته متحسّراً على تخلي منظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية عنه، وردّ على ما سُمّي بتحريم علماء اليمن الخروج على حاكمها بأن ذلك عندما يكون السلطان عادلاً ويقيم الشرع، فلا يجوز للإنسان أن يخرج على هذا السلطان، أما إذا ثارت الأمة، فالأمة هي صاحبة الشأن شرعاً، كما قال أبوبكر وعمر إن المسلمين أهل الحل والعقد.. جاء ذلك في خطبة الجمعة التي ألقاها أمس بجامع السيدة عائشة رضي الله عنها.. وقد بدأها قائلاً:

الدين المقبول

أنزل الله سبحانه وتعالى هذا الدين العظيم، الذي سمّاه الإسلام، أنزله على هذه الأمة حتى يكون خيراً ورحمة وشفاء وهدى وبركة، وهذا الدين العظيم هو دين جميع الأنبياء، بدءاً من سيدنا آدم ثم نوح ثم الى بقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، واختار الله سبحانه وتعالى هذا الدين لنا “ورضيت لكم الإسلام ديناً”، “ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه” فليس هناك دين مقبول عند الله سبحانه وتعالى في هذا الكون سوى هذا الدين، وهذا الدين امتداد لدين الله الخالد الذي أراده الله سبحانه وتعالى للبشرية، لتسعد به البشرية في الدنيا والآخرة، وليحول الإنسان من خلال هذا الدين هذه الدنيا الى جنة الله في الأرض، ثم بعد ذلك يُكرّمه الله سبحانه وتعالى بجنة عرضها السموات والأرض في الآخرة، وليكون هذا الدين وسيلة لتعمير الكون في ضوء منهج الله ” هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ” أي طلب منكم التعمير.

لا حاجة لتشريع وضعي


وقال: جاءت هذه الرسالة كاملة، شاملة، خالدة، طبّقها المسلمون منذ عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يحتاجوا في مسيرتهم، لا في عصر الخلافة الراشدة، ولا في عصر بني أمية، ولا في العصر العباسيين أو العثمانيين ، لم يحتاجوا إلى أي قاعدة قانونية، ولا إلى أي استعانة بأي تشريع وضعي، لأن هذا الدين يتضمّن في داخله الشمول والكمال، فقد بيّن الله سبحانه وتعالى المبادئ الأساسية، والقواعد الكلية، والأحكام التي تحتاج إليها البشرية الجمعاء، بينها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، القرآن العظيم، إجمالاً وتفصيلاً، ما احتاج الى تفصيل، فصله كما هو الحال في العقائد والعبادات، وكذلك في أحكام الأسرة، وما احتاج الى إجمال، لأنها متطوّرة، بيّن الله سبحانه وتعالى في هذه الأشياء، القضايا الإجمالية، وترك التفصيلات للاجتهادات البشرية، وأعطى الله سبحانه وتعالى من خلال القرآن الكريم دوراً واسعاً للعقل الإنساني، من خلال الاجتهادات المنضبطة، الاجتهادات الصادرة من اهلها العلماء، وفي موضعها وبضوابطها الشرعية، فكان لهذه الاجتهادات دور واسع كبير، لاسيما في مجال المعاملات ومجال السياسة الشرعية والقضايا المستجدات، لأن الله سبحانه وتعالى يعلم “ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير”، يعلم ما هو أكثر تطويراً أو يمكن أن يتطوّر إلى ما هو أكثر، ويعلم كذلك علم اليقين بما هو يحتاج الى إجمال أو إلى التفصيل، وهكذا نجد هذا التفصيل أو ذلك الإجمال في كتاب الله سبحانه وتعالى، ثم من خلال السنة النبوية المشرفة، التي فصلت الكتاب، وبينت الكتاب، واضافت من خلال القواعد الكلية العامة في القرآن الكريم جملة من الأحكام، ومع ذلك بقي للعقل البشري الاجتهادي دور كبير في فهم هذه النصوص، وفي تنزيلها على الوقائع، وفي بيان الضوابط والشروط، في كيفية تطبيق هذه النصوص، ومع ذلك فقد ترك للانسان المجتهد أو العقل الاجتهادي مجال واسع سمي منطقة الفراغ، منطقة العفو، الذي لم ينزل فيها نص جزئي أو كلي أو تفصيلي فيها، حتى يجتهد فيها الانسان بما يحقق المصالح للفرد والمجتمع والامة،وبذلك جمع الاسلام، وجمعت الشريعة بين الثوابت المتمثلة بالأدلة القطعية وبين الأحكام المتغيّرة التي تقبل التغيير من خلال الاجتهادات، وهي الأحكام التي أُخذت من النصوص الظنية أو الأحكام التي اجتهدها الإنسان ووصل إليه الإنسان، من خلال الاجتهادات بهذا الجمع بين الوحي في القواعد الكلية والعقل في التنزيل والتوصيف والاجتهاد.

خيرا الدنيا والآخرة

وذكر فضيلته أن الشريعة جمعت خيري الدنيا والآخرة، واستطاعت أن تبني حضارة عظيمة وحكماً كبيراً، دام هذا الحكم ودامت تطبيق الشريعة على مستوى الدولة وعلى مستوى الأفراد اكثر من 1200 سنة بل 1300 سنة، لم يحتج فيها المسلمون الى الاستعارة او الاستعانة او اعارة اي قاعدة قانونية لا من القانون الروماني الذي كان ضعيفاً بل لم يكن على مستوى القواعد التشريعية ولا من أي قانون آخر بل إنه حينما ننظر ونقارن بين القوانين السابقة مثل القوانين الرومانية لوجدنا في هذه القوانين تخلفاً حضارياً لم تكن هذه القوانين تعترف بأهلية الانسان بأنه قادر على البيع والشراء الا اذا كان رومانيا وحتى اذا كان رومانيا لم تكن هناك أهلية للمرأة في البيع والشراء ولا في أي عقد من العقود وانما كانت الاهلية فقط إما للأب أو للأخ الكبير ولم تكن هناك قوانين تعطي حقوق الميراث حتي قانون الانجليزي لم يكن فيها اعتراف بأن المرأة لها حق الميراث الا الى عام 1925 ثم بعد ذلك لم يكن هناك عدل في هذا المجال .

سبق الشريعة

وتابع: من هنا سبقت شريعتنا كل هذه القوانين والتشريعات، من حيث تحقيق العدالة ومن حيث اعطاء جميع الحقوق المناسبة الكاملة للمرأة، ومن حيث المساواة بين الحقوق والواجبات، هكذا عاش المسلمون، وحققوا حضارتهم بعدما كانوا قبل الإسلام مستضعفين، كانوا متفرّقين، كانوا جاهليين، كانوا في ضلال مبين، لم تكن لهم الهداية لا في أمور دينهم ولا في أمور دنياهم، ولم تكن لهم قوة ولا علم ولا حضارة تذكر حينما نقيسها بحضارتنا الإسلامية، وظل المسلمون على هذه الحالة الى ان ضعفوا وتفرقوا وتمزقوا، وحينئذ تكالبت عليهم الاعداء، فمزقوهم أكثر، وقضوا على حضارتهم، وأصبحوا تابعين بعد ان كانوا متبوعين، وأصبحوا ضعفاء بعد أن كانوا أقوياء، واصبحوا متخلفين بعد ان كانوا متقدّمين ومتحضّرين، ثم جاء العصر الحالي المتمثل بمئتي سنة الأخيرة، التي استطاع فيها الاستعمار أن يحتل بلادنا، وتستمر فترة الاحتلال خلال 200 الى 270 سنة لم يحقق الاستعمار لبلادنا أي خير يذكر، فهذه الجزائر احتلها المستعمر الفرنسي المتطوّر في ذلك الوقت مئتين وسبعين سنة، وتركها دولة متخلفة، وارادت لها أن تكون دولة منسوخة في لغتها وحضارتها وفي قيمها وأخلاقها، وهكذا فعل الاستعمار البريطاني بنا في عالمنا العربي، وكذلك في العالم الترك والكرد والفارسي، في كل هذه الشعوب المسلمة، ماذا فعل الاستعمار البريطاني حينما جاء في بداية القرن العشرين، مزق هذه الأمة وبخاصة العرب، مزّقها الى دويلات، بل لم يُعط لهم حق الدولة، رغم أن الثوار العرب أو معظم العرب وقفوا مع الانجليز في إسقاط الدولة العثمانية من خلال الثورة العربية الكبرى، وكانت النتيجة أن جاءت اتفاقية سايكس بيكو التي مزقت العالم العربي بهذا الشكل، وأعطت فلسطين، أغلى أرض وأبرك أرض بعد الحرمين الشريفين، أعطتها لهؤلاء اليهود، ثم جاء وعد بلفور، ثم بعد ذلك ولضعف الاستعمار البريطاني سلم هذه الامانة وهذه العهدة الى الاستعمار الأمريكي، الذي ظل مع اليهود والصهاينة، مع المغتصبين ومع المحتلين، وتعمل هذه الدولة الكبرى في قوتها لصالح هوية الصهاينة، واضعاف العرب والمسلمين.

الثورات في سوريا واليمن

وقال: إن هذه التجربة الواضحة، لا تحتاج الى دليل، ومعظمكم شاهدتم أو لديكم العلم اليقيني من خلال تواتر ما حدث، والغريب من ذلك بعد كل ذلك، يريدون اليوم من خلال ما تحقق من نتائج ايجابية للربيع العربي المتمثل بنجاح الثورة التونسية، ونجاح الثورة المصرية، وان شاء الله ستنجح الثورة اليمنية قريباً، والثورة االسورية، كذلك يُريدون أن يلتفوا حول هذه الأمور، ويلبسوا ثوباً آخر كأننا لا نعرفهم، لم يكن هؤلاء الغربيون لم يُدافعوا أو يُؤيّدوا، أو أي شيء إلى آخر لحظة بالنسبة لتونس، بل إن موقف فرنسا بالنسبة لتونس كان مخزياً، ظل داعماً لبن علي إلى آخر لحظة، وهكذا أيضاً في مصر، ولكن الله شاء أن يسقط هذان النظامان بسرعة، بل إنه ثبتت حتى في ليبيا، أثبتت التقارير أن المخابرات البريطانية والفرنسية والإيطالية الى آخر العهد، إلى قبيل اعلان الحرب على القذافي، كان لها دور كبير جداً في تقوية المخابرات الليبية، التي كانت تسوم الشعب الليبي سوء العذاب خلال 42 سنة، هذه المواقف واضحة للجميع، ومع كل ذلك يُريد هؤلاء ان يبعدوا الشعوب المسلمة في تونس وفي مصر عن هذه الشريعة، يُريدون لهم ان تكون هناك مرجعية غير مرجعية الشريعة، بل يُريدون أكثر من ذلك، إذا كانت المادة الثانية في الدستور المصري السابع في عهد مبارك والسادات والتي رتبت في عهد السادات، والتي تنص على أن الشريعة هي المصدر الرئيسي، ولم تقل المصدر الوحيد، يُحاول العلمانيون الذين يجهلون حقيقة الاسلام، ولا أقول كل العلمانيين، الذين هم اما مرتبطون بهذه الدوائر، وهم كانوا مستفيدين في ظل مبارك وبن علي، يريدون اليوم ألا يرضوا أو يبقوا حتى هذه المادة، انما تعود مصر الى دولة علمانية، وتبدأ من الصفر كما فعل أتاتورك بتركيا عام 1924، ومنع الشعب التركي من أداء الصلاة باللغة العربية، ونزع الحجاب، وكل شيء من مظاهر الاسلام، وظل الصراع الشديد الى ان جاء حزب أربكان، ومن ثم بعد ذلك أردوغان، واستطاعوا أن يجدوا مجالاً، أو نوعاً من الحرية، التي جاءت مع الحرية الأصوات العالية لتطبيق الشريعة بقدر ما استطاع هؤلاء أن يفعلوا.

خطوة مؤتمرات

ورأى فضيلته أن هذه المؤامرات في غاية من الخطورة، وهذه التي نحن نخاف منها، لأننا وبخاصة المسلمون الملتزمون هم يكونون وقوداً للجهاد، وهم القادرون الوحيدون على مواصلة الجهاد والتضحيات والفداء بالأرواح والأموال، ثم في النتيجة يترك هؤلاء ويجني ثمار هذه الثورة، وهذه الدماء التي أُريقت يجني ثمارها غير هؤلاء، من الذين كانوا بدل ان يكونوا في الخنادق كانوا في الفنادق، وكانوا مرتبطين بهذه الانظمة السابقة، وهم لا يزالون مدعومين من الغرب او الشرق. وهكذا فعلوا في الجزائر، كانت الثورة الجزائرية ثورة إسلامية 100%، كانت ثورة جهادية، كانت من أجل إعادة الجزائر الى الاسلام، والى العروبة لغة، ولكن شاؤوا بعد ذلك ان يسلموا نتيجة الانتصارات الى حزب اشتراكي، استطاع ان يسوم الشعب الجزائري سوء العذاب، وان يجعله في جهالة وتخلف، يتمنى ان يكون الاستعمار المباشر هو الذي يحكمه، هكذا يفعلون حتى يتمنى الناس للاستعمار المباشر، لأن الاستعمار غير المباشر من خلال العملاء أشد من الاستعمار المباشر من قبل الأعداء.

أوما ننتبه؟ أوما نتذكر؟


وقال: وهكذا ايضاً في تونس، كانت الثورة السابقة في الخمسين، ثورة جهادية، وأتوا بأبورقيبة ووضعوه على رأس الحزب، وكان يتحدّى أمر الله سبحانه وتعالى، ويشرب متحدياً في نهار رمضان، بل يأمر العمال بألا يصوموا وهو في الظهيرة، تأكل وتشرب ويقول هكذا اقتدوا برئيسكم. وهكذا فعلوا بالثورة العربية الكبرى، التي قامت ضد الطورانية التي ظهرت في الدولة العثمانية بفعل يهود الدونمة، واستطاع الإنجليز أن يصنع قومية عربية من المسيحيين، ولكن الاستعمار البريطاني لم يعط حتى لهذه الثورة، وكانت الثورة تريد أن تكون العرب كله في دولة واحدة، او خلافة، ولكن مزّقوهم واحتلوهم.. أوما ننتبه؟ أوما نتذكر؟ يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم وهو يتكلم عن اليهود والنصارى والمشركين الملحدين وهؤلاء الظلمة، ولكن يكاد ان ينطبق علينا ” أفلا يرون أنهم يُفتنون في كل عام مرّة أو مرّتين ثم لا يتوبون” أي لا يتوبون الى الله، ولا يرجعون الى الله، (ولا يتذكرون) أي لا يرجعون إلى العقل والتذكر، أي لا عقل ولا شرع، لا يعتبرون بالشرع ولا بالعقل.