تناولنا في المقال السابق المقصود بالتجديد في الدين، ونستكمل اليوم مع الحديث عمن هو المجدد. قد تتجه بعض الأمة لأي سبب كان نحو التشدد – كما حدث للخوارج في السابق، ولبعض الجماعات المتشددة في عصرنا الحاضر – ظناً منها أنه الملجأ والمنجى فيصبح منهجاً وسلوكاً، ويترتب عليه رد فعل نحو التساهل والترخص الزائد، فيظهر منهجا الإفراط والتفريط. ومن جانب ثالث يتربى بعض الأمة فقط على الجزئيات تاركاً الكليات، وبالعناية القصوى بالوسائل بدل العناية بالمقاصد والغايات، وبالمظاهر بدل العناية بالأسس والجواهر، وبالآحاد بدل المتواتر، وبالمتغيرات بدل الثوابت، وبالظنيات بدل القطعيات، وبالمختلف فيه بدل المجمع عليه، وبالرخص الفقهية بدل العزائم.
ويترتب على ذلك رد فعل عكسي من بعض المسلمين فيهتمّ بالكليات فقط تاركاً الجزئيات، وبالقطعيات فقط دون الظنيات، وبالمجمع عليه تاركاً المسائل الخلافية، وبالعزائم والشدائد تاركاً الرخص والتيسيرات، وهكذا. إذن مع مرور الزمن تتحول مجموعة من التصورات والمناهج المعتمدة على الإفراط، أو التفريط، ومجموعة من السلوكيات والقيم جزءاً من المنظومة التي تدين بها الأمة، وبالتالي تتمزق الأمة، وتتخلف عن ركب الحضارة والتقدم والإبداع، وتتحول حالتها من أمة الشهادة والشهود إلى أمة التبعية والتقليد، وتتخلى عن دورها الحضاري، ورسالتها في تعمير الأرض والاستخلاف، وتصبح خاضعة لـ«فقه الاستضعاف»، وتبتعد عن منهج الوسطية والاعتدال إلى مناهج الإفراط والتفريط، والغلو والاعتساف.
وعند بلوغ الأمور هذه الحالة يُظهر الله تعالى مجموعة من العلماء والمفكرين، والمصلحين والتربويين والاجتماعيين ومن القادة السياسيين لينهضوا بالأمة مرة أخرى، ويصلحوا جوانب الخلل كلها، ويغيروا ما بأنفسهم وأنفس الأمة، وما في سلوكياتهم وقيمهم نحو ما يريده الله تعالى من هذه الأمة، وحينئذ جددوا دين الأمة الذي دخلته تلك المنظومة التي ذكرناها آنفاً، وأرجعوهم إلى الإسلام المتكامل بعقيدته ومنهجه وقيمه وسلوكياته، وحينئذ تنهض الأمة من جديد، وتقود العالم من جديد.
إذن التغيير والتجديد للأمة من حيث هي، ومن حيث رسالتها وأهدافها وأعمالها، وليس هذا التجديد أو التغيير للدين الذي أنزله الله تعالى، فالدين هو الكتاب والسنة الصحيحة، وهما باقيان على حالتهما محفوظان كما وعد الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)}(الحجر). وبهذا المعنى زالت شبهات كثيرة حول تجديد الدين – وهو ثابت – وهل يعني هذا أن الدين غير قابل للاجتهاد والتطوير؟ للإجابة عن ذلك نقول: إن الله تعالى أراد لهذه الأمة الدوام والخلود، فجعلها الله تعالى خير أمة أخرجت للناس، وجعلها الأمة الخاتمة بختم الرسالة المحمدية والنبوة الأحمدية، فقال تعالى: ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما )40(الأنبياء). وهذا يعني في ذاته كمال الرسالة الإلهية المتمثلة في القرآن العظيم، بحيث لا تحتاج معها إلى رسالة أخرى، ولذلك قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا }(المائدة: 3).
ولكن ختم النبوة وكمال الدين يعنيان في الوقت نفسه أن رسالة هذا الدين صالحة لكل زمان ومكان، وقادرة على حل المشكلات ووضع الحلول الناجعة لمختلف القضايا الدينية والفكرية، والثقافية والعلمية، والسياسية والاجتماعية، والاقتصادية…. وحينئذ تكون شاملة لعنصرين أساسيين، ومقررين لهما، وهما: أ- الثوابت التي لا تتغير والمتمثلة في الأصول العامة والمبادئ الشاملة لمفاصل الحياة الكلية وفي جوهرها هي الحماية للأمة من الانصهار في بوتقة الآخرين بالذوبان والانسلات الحضاري، وفقدان الهوية. ب- التطوير والتجديد، وهذا من خلال الاجتهاد والاستنباط كما قال تعالى: { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}(النساء: 83)، وسواء كان ذلك الاجتهاد اجتهاداً واستنباطاً مباشراً من الكتاب والسنة لمن كان قادراً على ذلك ومتوافراً فيه الشروط، أم كان اجتهاداً انتقائياً ترجيحياً بين الاجتهادات السابقة. والاجتهاد ليس خاصاً بدائرة الفقه الفرعي، بل هو شامل لجميع النصوص القابلة للاجتهاد، وللحالات التي ليس فيها نص، وهي «منطقة العفو» كما في الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما بسندهم عن سلمان الفارسي قال: سئل رسول الله [ عن السمن والجبن والفراء، فقال: «الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا لكم»، وفي رواية أخرى رواها الحاكم والبزار بلفظ: «فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً» وتلا: ( وما كان ربك نسيا )64(مريم)، سواء كانت في دائرة العقيدة، أم الفكر، أم الفقه، أم غيرها.