دعا فضيلة د. علي محيي الدين القره داغي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الأمة الإسلامية للتوقف عند نعم الله عليها، وقال في خطبة الجمعة أمس: إن هناك الكثير من النعم قد لا تكون ظاهرة، وقد لا يحس بها الإنسان، إلا إذا فقدها، كنعمة الأمن والأمان، نعمة الأمن السياسي، حينما تكون البلاد والمدينة مستقرة آمنة، ونعمة الأمن الاقتصادي حينما يكون الناس في مأمن من المجاعة والمشاكل الاقتصادية، فلذلك منّ الله سبحانه وتعالى على قريش ومن خلالهم على الجميع بهاتين النعمتين “فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف “.. ورأى فضيلته أن الأمن السياسي لا يتحقق في ظل الظلم، وإنما يتحقق في ظل العدل، حيث يقول الله سبحانه وتعالى في آية أخرى “أي الفريقين أحق بالأمن” ثم يقول الله سبحانه وتعالى “الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون” ومن هنا يأتي الخوف والاضطراب إلى قلوب هؤلاء الظلمة من الطغاة، الذين شاهدنا بعضهم يتساقطون، مثل هؤلاء الظلمة لم يكونوا يُحسّون بالأمن “وإنهم كانوا ظالمين” ومن هنا أهلكهم الله سبحانه وتعالى.

بين عمر وباب العزيزية عند القذافي!

وروى القره داغي ماشاهده في ليبيا إثر زيارة وفد الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين لها الأسبوع الماضي فقال: رأيت الأمر العجيب حينما زرنا ليبيا، فيما يسمى بباب العزيزية، ماذا فعل هذا الرجل من الأنفاق، باب العزيزية 5 كيلومترات طولاً وعرضاً، وكل هذه المنطقة مرتبطة بقصر المؤتمرات من تحت الأرض بعشرات الأنفاق وبين كل 10 أمتار أو بأكثر وضعت أبواب حديدية لا يمكن تحريكها إلا إليكترونيا، ولو جاء 40 أو 50 شخصاً لما استطاعوا أن يحركوها. أنفاق غريبة ومداخل عجيبة، وقد صرفت عليها المليارات. فالرجل كان يعذَّب وهو حي بالخوف، فكان يخاف من كل شيء ،حتى بعض الجثث من العلماء كان قد قتلهم وأبقاهم في الثلاجات، لأنه كان سحرة يقولون له: ” لو دفن هؤلاء من العلماء في الأرض لزال ملكك” فكان محاصراً بالخوف من كل جانب، وكل ذلك لأنه كان يحس أنه كان ظالماً ولو كان آمنا وعادلاً لكان مثل عمر حينما جاءه هرمزان القائد العسكري الفارسي الذي رأى الأباطرة والقياصرة كيف يعيشون، فأراد أن يرى الخليفة أمير المؤمنين الذي استطاع أن يسقط الأمبراطوريتين الرومانية والساسانية، فلما دخل المسجد قالوا هذا هو عمر نائم بدون حراس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال “عدلت فأمنت فنمت” ورأى فضيلته أن الشكر لله على نعمة الأمن، والأمن لا يأتي إلا من خلال أداء الشكر، فهؤلاء كفروا بنعمة الله من خلال استعمال الجاه والسلطة في غير إرضاء الله، بل استعملوها في إيذاء الناس.

وعن أحوال العالم الإسلامي وثوراته قال: انظر ماذا يحدث في سوريا لا يعتبروا بالآخرين، لا ينظر إلى ما حدث إلى فرعون مصر الجديد، وإلى نمرود ليبيا، وإلى تونس، وإنما يزيد في القتل والتدمير، ومن هنا يجوز القسم عليه بأنهم زائلون لأنه قال الله فيهم “الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب”

قطر ونعمة الأمن

وقارن القره داغي بين فقدان الأمن في مثل تلك الدول وبين قطر فقال : ومن فضل الله علينا في هذه الدولة الفتية، في قطر، نعمة الأمن والأمان، ونعمة الأخوة ونعمة التكافل والتعاون بين كل من يعيش على أرض قطر من المواطنين والمقيمين، ثم بعد ذلك بين الحكام والمسؤولين، ولا سيما أن الأمير المؤسس الشيخ جاسم رحمة الله عليه قد بنى هذه الدولة على أساس العدل، وعلى أساس التقوى، وكان عالمًا ربانياً، وكان على عقيدة السلف رحمة الله عليه، وكانت وصيته كذلك لأبنائه أن يسيروا على منهج الإسلام، أن يسيروا على منهج الكتاب والسنة، فساروا عليه والحمد لله، وبفضل الله سبحانه وتعالى سار على نهجه الشيخ حمد، ونحن ندعوا له أن يوفقه للمزيد وأن يوفقه للبطانة الصالحة وأن يحقق على يديه الخير، فما ذهبنا إلى مكان في ليبيا إلا وهم يدعون لقطر أميراً وحكومة وشعباً، لأنه جعل قطر سبباً لإنقاذ ليبيا بالذات، لأن القذافي كان قد جهّز طابورًا من حوالي 60 كيلومترا من الدبابات والمدرعات والصواريخ الجديدة الصنع فشاء الله وجاء القدر وتدخُل قطر فجزاهم الله خيراً وحينئذ رتبّت الأمور وتدخل الناتو وقضوا على هذا الطابور من الأسلحة المدمّرة وقد شاهدنا بقايا هذه الدبابات والمدرعات على مدى الطريق..فلذلك من استعمل مسؤوليته وجاهه مع المظلومين فإن الله يوفقه إن شاء الله فرحم الله المؤسّس وبارك الله في الأمير ونسأل الله أن يوفقه للمزيد.

معنى الشكر

في خطبته الأولى قال القره داغي: حينما ننظر إلى أنفسنا، وإلى من حولنا، نجد أن نعم الله سبحانه وتعالى في داخل أنفسنا، وفي خارج أنفسنا، وفي داخل بيئتنا، وفي هذه السماوات والأرض، نرى أن نعم الله لا تعد ولا تحصى، وأنها تحيط بنا من كل جانب، وأن كل هذه النعم للإنسان حتى يسعد في دنياه وكذلك يسعد في أخراه..بيّن الله سبحانه وتعالى وذكّر بهذه النعم، سواء كانت داخلية من السمع والبصر والعقل والجسد، وهذا الخلق الجميل للإنسان، وهذه الأجهزة العظيمة للإنسان، ثم ما سخّره الله سبحانه وتعالى للإنسان من الشمس والقمر والرياح والكون كله حتى يشكر الله سبحانه حق الشكر.. والله سبحانه وتعالى أمر المسلمين بذلك “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ “، بل بيّن الله سبحانه وتعالى بأن هذه النعم ابتلاء كما أن النقم كذلك ابتلاء “وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ”، ويقول الله سبحانه وتعالى على لسان أحد الأنبياء ” هَٰذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ “، والكفر هنا حينما يقابل الشكر ليس المقصود به عدم الإيمان بالله سبحانه وتعالى فقط، وإنما يشمل ذلك في قمته ويشمل كذلك كُفران النعم، وعدم الإحساس بهذه النعم التي أكرم الله سبحانه وتعالى الإنسان بها، وكذلك يشمل عدم تفعيل نعم الله سبحانه وتعالى فيما خلقت له.

جوانب ثلاثة للشكر

قال: إذن الشكر يكون في ثلاثة جوانب أساسية، وبهذا أمر الله سبحانه وتعالى في أكثر من آية، مع أن الشكر بهذه المعاني الثلاثة قليل ما يعمله العباد فيقول الله سبحانه وتعالى: “وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ”، ثم بعد ذلك داخل عباد الله من المؤمنين أيضاً القليل منهم من يقول بهذا الشكر “وقليل من عبادي الشكور”، قليل من عباد الله سبحانه وتعالى الذين آمنوا به وأسلموا إليه ولكنهم لا يشكرون الله سبحانه وتعالى حق الشكر بهذه المعاني الثلاثة.

ويقول الله سبحانه وتعالى: “لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ”، فحينما يشكر الله حق الشكر، حينئذ يزيد الله سبحانه وتعالى بسنته النعم، سواء كانت خاصة بالفرد، داخلياً أو خارجياً، والنعم التي تخص الجماعة والأمة، والنعم التي تخص الدولة والمجتمع المدني، والتي تخص كذلك الجماعات والأفراد. “ولإن كفرتم” كفراً عقائدياً، وكفراً للنعمة، وعدم تفعيل وتشغيل النعم التي خلقها الله سبحانه وتعالى يكون هناك العذاب الشديد من عند الله سبحانه وتعالى .

وتابع قائلا: أمرنا الله سبحانه وتعالى بعمل الشكر، وليس بقول الشكر فقط، فقال سبحانه: “اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ” هذا يعني بأن النعم إذا تراكمت وتزايدت على الفرد، وعلى الجماعة، وعلى الدولة، وعلى الرئيس والحاكم والمحكوم، فلا يكتفي بقول الحمدلله على الرغم من أهمية هذه الكلمة، وإنما يجب أن يكون الشكر مرتكزاً تماماً في القلب، فيكون قلبك شاكراً لله سبحانه وتعالى، ومنشغلاً بالله سبحانه وتعالى، ومنشغلاً بنعم الله، والإحساس بها، ثم بعد ذلك تقوى هذه الطاقة الداخلية لتصل إلى اللسان فيكون لسانك شاكراً وذاكراً بالله سبحانه وتعالى في جميع الأوقات، وفي جميع الأحوال، ثم لا يكتفي بالقلب واللسان وإنما لابد إلى عمل الشكر، إلى فعل الشكر، إلى تفعيل الشكر، وإلى أن نفعل هذا الشكر من جنسه.

شكر على الأموال بالإنفاق

وقال فضيلته: فإذا كانت لديك أموال فإن شكر هذه الأموال بعد القلب واللسان بإنفاق هذه الأموال أو ما قدّره الله سبحانه وتعالى في سبيل الله سبحانه وتعالى، وفي سبيل رضاء المنعم الذي أكرمك والذي أعطاك “وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه”، فالله سبحانه وتعالى هو الذي أتاك، وهو الذي سهّل لك الأمر، وهو الذي سخّر لك هذا الأمر، حتى تصبح صاحب مال أو تصبح غنياً، فعليك أن تستعمل هذه الأموال فيما أراده الموكل وهو الله سبحانه وتعالى. نحن وكلاء ومستخلفون على هذه الأموال، وعلى هذه النعم، فيجب أن نستعملها في طاعة الله سبحانه وتعالى، وكذلك النعم التي تخصك في بدنك وقلبك، وفي صحتك وسمعك وبصرك، وفي لسانك وفي جوارحك، أن تستعمل هذه الجوارح في طاعة الله سبحانه وتعالى، فشكر العين النظر في الكون ليصل بالإنسان إلى التدبّر والتعقل، وإلى الإحساس بنعم الله سبحانه وتعالى، وزيادة الإيمان به.

ونعمة السمع أن تسمع الخير وأن تسمع القرآن ونحوه، وأن لا تسمع الشر وغير ذلك مما يؤذيك ويؤذي الآخرين. ونعمة اللسان بأن تنطق بالحق، وأن لا يكون هذا اللسان ناطقاً بالكذب أو بكل ما يغضب الله سبحانه وتعالى، وهكذا نعمة الجوارح، ونعمة اليد، ونعمة الرجل والبدن والعقل والروح، وكل هذه النعم العظيمة إنما شكرها بهذه المناطق الثلاثة بالقلب واللسان والعمل واستعمالها فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، وتفعيلها فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، وإلا لو كان الشكر يؤدي بمجرد اللسان فليس هناك أسهل من ذلك، ولكن الله أمرنا بعمل الشكر، أمرنا بالشكر المطلق، أمرنا بالشكر الذي يتناسب مع هذه النعم، ولذلك قال علماؤنا شكر الجاه أن تستعمل هذا الجاه أو هذه المسؤولية في إرضاء الله سبحانه وتعالى، وفي مساعدة الفقراء، وفي شفاعة الخير “مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا” إذا كان لديك جاه فلا يكتفي أ نك تقول الحمد لله فقط، وإنما تستعمله في طاعة الله، وفي إسعاد البشرية، وفيما كلّفك الله سبحانه وتعالى به من أداء هذا الجاه، وأداء وظيفتك على الوجه الذي يرضي الله ثم يرضي الناس جميعاً. وكذلك شكر العلم ليس بمجرد أن تقول الحمد لله، وإنما يجب مع ذلك أن تعلّم هذا العلم “خيركم من تعلم القرآن وعلّمه” وهكذا مع جميع ما أعطاك الله سبحانه وتعالى من النعم التي لا تعد ولا تحصى .

دعاء بالتوفيق

وقال: ومن هنا كان الأنبياء يدعون الله سبحانه وتعالى أن يوفقهم لشكره، ويقول سيدنا سليمان: “رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ” فالشكر بعد قولك الحمد لله، أن تعمل صالحاً بهذه النعم وأن تستعملها في طاعة الله سبحانه وتعالى. من هنا يكون الإنسان قد أدى جزءاً من شكر الله، وقد قال أحد العلماء “لو أحصيت مسألة التنفس فقط فيجب عليك أن تحمد الله باللسان أربع مرات عندما يخرج النفس وعندما يدخل النفس، إذا ما دخل النفس إلى بدن الإنسان مات، وإذا دخل أحياه الله” ، هاتان نعمتان: نعمة إزالة الموت ونعمة دخول الحياة، وإذا ما خرج النفس مات الإنسان، وثم إذا تنفست عادت إليك الحياة او أبقاك الله على الحياة، إذاً هناك نعمتان عند خروج النفس ونعمتان عند خروج النفس، والمفروض أن تحمد الله سبحانه وتعالى عليها.

وكذلك القلب كما يقال “دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان”.

ففي كل دقة أنت معرّض للحياة والموت، إذا ما دق القلب مات الإنسان، وإذا كان القلب يدق بالنبض كان الإنسان حياً، ففي كل دقيقة 70 نعمة على الحياة و70 نعمة على درء الحياة. وهكذا العين وهكذا كل ما أعطاك الله في هذا البدن.

بين النعمة والطاعة

وقال: من هنا وفي هذه المسألة فقط ” وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحيم” فعليك أن تحمد بلسانك ما تستطيع، وحينما تحمد بقلبك تحس بنعم الله، والأهم من ذلك حينما تستعمل هذه النعمة في طاعة الله حينئذ تكون أديت شكر الله حسبما يريد الله سبحانه وتعالى وبفضله ومنّه فقط قبِل منك هذا الحمد وهذا الشكر.