أثيرت منذ السنوات الأخيرة حملة تحت عنوان (إبادة الأرمن) تكاد تكون عالمية ضد تركيا اليوم التي تتقدم يوماً بعد يوم بقيادة حزب العدالة والتنمية ورئيسه الأستاذ رجب طيب أردوغان ، ورفاقه الأستاذ عبدالله كَل ، والأستاذ أحمد داود أوغلو وغيرهما ، فقد تحقق للشعب التركي خلال السنوات (12) السابقة ما يأتي – بإيجاز شديد – :
– العناية بالتعليم ، وبخاصة التعليم الجامعي ، حيث جعلت الدراسة في جميع الجامعات الحكومية مجانية ، في حين رفعت الجامعات الأوروبية والأمريكية الرسوم الدراسية بسبب الأزمة العالمية ، وتسعى تركيا لتكوين 300 ألف عالم متفرغ تكون له إبداعاته ، وكذلك العناية بالتعليم الديني وإعادة الاعتبار والاعتراف بالدراسات الشرعية حتى بلغت كليات الشريعة (الالهيات) إلى مائة كلية ، والعناية بتدريس القرآن الكريم في المدارس التركية .
– وفي مجال الاقتصاد ارتفع معدل دخل المواطن التركي من 3500 دولار أمريكي في عام 2002 ، إلى 11000 دولار في عام 2014 وارتفعت نسبة الأجور 300% ، وتم بناء أضخم مطار في العالم ، وفوز شركة الطيران التركية كأفضل شركات الطيران في العالم لثلاث سنوات متتالية ، وقد تم تسديد حجم عجز خارجي كان أكثر من 47 مليار دولار ، ولم يبق على تركيا اليوم عجر بل لديها فائض ، وأصبح ترتيبها الآن 16عالمياً في الاقتصاد ، وكان ترتيبها 111 قبل عشر سنوات والناتج القومي 1,1 تريليون ، ونسبة البطالة من 38% إلى 2% . كما أن صادراتها بلغت اليوم 153 مليار دولار ، وكانت سابقاً 23,5 مليار دولار .
وكذلك مما يفيد الاقتصاد والبيئة أنه تم إعادة تدوير القمامة لاستخراج الطاقة وتوليد الكهرباء ، حيث استفاد من هذه الخدمة حوالي ثلث السكان ، وتم زرع 2,77 مليار شجرة خلال السنوات العشر الأخيرة .
وفي مجال التصنييع ، فقد تم تصنييع قمر صناعي عسكري لأول مرة ، وتصنييع المدرعة والدبابة التركية ، وأول طيارة بدون طيار ، والعمل قائم لشق قناة عالمية تسهل عمليات النقل العالمي بالسفن مع الدخل الكبير.
– ومن الجانب الديني فقد أنجر الكثير فقد ذكرت بعضه ، حيث تسير الدولة بالتدرج الشعبي نحو دينه وقيمه وتأريخه وهويته دون إكراه ، وإنما عن قناعة ورضا تام.
– وعلى مستوى السياسة ، فقد تم إحلال السلام بين شطري جزيرة قبرص ، ولتركيا اليوم دور كبير في الصومال بإعادة الأمن والأمان إليها ، ولها دور ايجابي أيضاً في آسيا ، وأوروبا .
وبالنسبة للعالم العربي فقد تغيرت السياسة التركية في عهد ما قبل حزب العدالة والتنمية التي كانت داعمة لاسرائيل وللمشروع الصهيوني ، إلى الدعم السياسي القوي والشعبي للقضايا العربية والإسلامية ، وبخاصة القضية الفلسطينية ، كما أن تركيا اليوم تقف مع اليمن ، ودول الخليج وعاصفة الحزم بقيادة المملكة العربية السعودية لإعادة الشرعية إلى اليمن السعيد ، وكذلك فإن مواقفها مبدئية من سوريا ، ومن الانقلاب في مصر ، ومن ليبيا ، ، وأما موقفها من العراق فهو موقف صحيح وقائم على المصالح المشتركة حيث يريد للعراق أن تكون المكونات الثلاث الكبرى مشتركة شراكة حقيقية في الحقوق والواجبات دون الاقصاء والاجتثاث لأي مكون منها ، وبذلك وحده يتحقق الأمن والأمان للعراق ، وأعتقد أن دعم تركيا لاقليم كوردستان قائم على المصالح المشتركة ، وتبيّن أن استقرار الاقليم كان نافعاً لكل العراقيين ، وبخاصة لأهل السنة الذين هاجروا ديارهم بسبب الارهاب (داعش والحشد الشعبي).
– وبالنسبة لتحقيق الأمن والأمان داخل تركيا فقد كانت تركيا في حالة حرب خطيرة ضد حزب العمال الكوردستاني ، وتصرف عليها المليارات ، وراح ضحيتها وبسببها عشرات الآلاف من أبناء الشعب تركاً أو كورداً ، بالاضافة إلى أن المنطقة الشرقية تعيش حالة من التدمير والفوضى ، والفقر والبطالة .
فقد تم الصلح والسلام في هذه المنطقة ، وعاد إليها الأمن والأمان وتم الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الكوردي في ظل وحدة البلاد وقوتها ، وانتهت هذه الحرب المدمرة بفضل الله تعالى ثم بفضل جهود الأستاذ أردوغان ورفاقه وحزبه.
واليوم يشارك الشعب الكوردي في بناء تركيا القوية الموحدة التي يستفيد منها الجميع ، تركيا المساواة والحقوق التي لا تفرق فيها بين شخص وآخر على أساس العرق ، أو الدين ، أو الطائفة ، لذلك لا يجوز ، ولا يليق لأي حزب كوردي أن يقف ويتعاون مع الأحزاب القومية الطورانية التي ظلمت الشعب الكوردي ، وحاولت صهره والقضاء علي هويته طوال سبعين عاماً .
إذن لماذا هذا الهجوم على تركيا ؟
وهنا يرد السؤال : هل يُوَجّه الاتهام نحو تركيا بإبادة الأرمن في هذه السنوات الأخيرة لأجل هذه المكاسب الداخلية والاقليمية والدولية ؟ أم أن هذه الحملة لأجل العيون السود للأرمن؟ أم لأجل العدالة الدولية وحقوق الانسان وأن القائمين على هذه الحملة قد نذروا أنفسهم لأجل حماية حقوق الانسان ، وبالتالي فإن ضمائرهم تحسّ بالألم والأذى إذا لم يقفوا مع المظلومين في كل مكان؟!!
وقبل الاجابة عن هذه الأسئلة أود أن أبيّن حقيقة معروفة في القوانين ، ومبدءاً من المبادئ المعترف بها في جميع العالم وهو أنه (لا تزر وازرة وزر أخرى).
وبناء على ذلك فإن ما حدث في عام 1915م – على فرضية الصحة- قد وقع داخل فوضى الحرب العالمية الأولى ، وراح ضحية هذه الحرب عشرات الملايين ، وأكثر منها راحت في الحرب العالمية الثانية ، فهل تحاسب هذه الدول التي تكونت بعد هاتين الحربين؟
ومن جانب آخر فإن الدولة التركية اليوم قد أنشئت عام 1925م باسم جديد ، وبجغرافية جديدة ، وبدستور جديد ، وبفكر جديد ، وو…. .
نحن لا نستهين بقتل أي إنسان مهما كان دينه فقال تعالى : (أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) [المائدة : 32] ولكن أيضاً لا يجوز اتهام أي شخص (طبيعي أو معنوي) إلاّ بالبينات والحجج الواضحات المسلم بها على أنه ارتكب تلك الجريمة فعلاً.
ولذلك كانت العدالة تقتضي أن تشكل لجنة محايدة للتحقيق في هذه المسألة بمهنية وحرفية – كما دعا إلى ذلك أردوغان- تبحث في أصل التهمة ، وتبحث كذلك مدى قانونية اتهام تركيا اليوم بها لو ثبتت ، وتعطي لتركيا حق الدفاع عن نفسها كما هو الحال في جميع دساتير العالم ومواثيقه .
ومن جانب آخر فإنه قد وقعت جرائم حقيقية بقتل الملايين وإبادة الشعوب في كثير من بلاد العالم ، ومع ذلك لا تثار ، فمثلاً الاتحاد السوفيتي في عهد ستالين قد ارتكبت جرائم خطيرة بحق بعض الشعوب أثناء الحرب العالمية الثانية ولم يصدر قانون من أي دولة باتهام روسيا الاتحادية بها ، وكذلك حدثت في أمريكا إبادة جماعية للهنود الحمر ومع ذلك لم يصدر قانون من دولة أخرى بذلك ، وأن الاستعمار الفرنسي فعل في الجزائر المجازر وراح ضحيتها مليون ونصف مليون شهيد .
وإذا كانت هذه الدول الغربية التي أصدرت القوانين بإبادة الأرمن ، وتحميل تركيا بها ، من باب تأنيب الضمائر الحية !! فلماذا لم تتحرك هذه الضمائر الحية ، والقلوب النظيفة ضد ما تشاهده من محاولة إبادة الشعب السوري على يدي نظام الأسد ، والشعب الفلسطيني وبخاصة في غزة على أيدي الصهاينة ، وكذلك ما حدث من محاولة الابادة للشعب الكوردي في حلبجة والأنفال ، وما حدث في البوسنة والهرسك وأفريقيا الوسطى ، وماينمار التي يبدي لها جبين الانسانية .
ومن جانب آخر فلماذا تأخر اتهام تركيا بها من 1915 إلى 2015 أي مائة سنة كاملة .
ومن جهة أخرى فإن علاقة تركيا اليوم جيدة مع أرمينيا ، فكان المفروض أن تقوم حكومة الأرمن بهذا الاتهام لو كان هناك مصداقية ؟
إن هذه القضية مسيسة تماماً يراد بها النيل من سمعة تركيا التي تتقدم بفضل الله تعالى في جميع الجبهات ، وهي قضية تثأر على مواقفها نحو أمتها الإسلامية ، وقضيتها الأولى قضية فلسطين .
إن المتربصين الطامعين الذي يريدون أن تبقى أمتنا الإسلامية متخلفة فاشلة تابعة مفعولاً بها لا فاعلة هم الذين يجمعون هذه الملفات لكل عمل ناجح ، ويمكرون مكراً كباراً (وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) [إبراهيم : 46] ويخططون بكل قواهم السياسية والاعلامية والاقتصادية لافشال أي مشروع ناجح في بلادنا حتى ولو لم يكن باسم الاسلام فقد قال تعالى : (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة : 120] أي حتى نكون تابعين لملتهم أي لثقافتهم ، فلا يريدون لنا السيادة والاستقلال ، ولا الوحدة والتعاون ، ولا الازدهار والتقدم والتحضر ، ولكن الله تعالى وعد وعداً ناجزاً بأنهم لن يستطيعوا أن يحققوا أهدافهم بشرطين : التوكل والاخلاص لله تعالى ، والأخذ بسنن الله تعالى التي تقتضي أن تأخذ الأمة بجميع أسباب القوة ، والحذر الشديد ، والعمل وفق الخطط والبرامج فقال تعالى : (لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى) [آل عمران: 111] وقال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء : 105-107] .
ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام أن على الدول والشعوب الإسلامية أن تقف صفاً واحداً أمام المؤامرات الدولية وأن تتعاون فيما بينها لاجهاضها ، لأنها اليوم تتهم تركيا ، ويمكن غداً أن تتهم دولة أخرى.
كتبه أ.د. علي محيى الدين القره داغي
الدوحة 22 محرم 1436ه = 11 مايو 2015