الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله الطيّبين وصحبه الغر الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وبعد
فإن الوقف هو طُرّةُ حضارتنا الإسلامية ، ودُرّةُ معالمنا الحضارية ، وتاج مؤسساتنا الأهلية التي ساهمت مساهمة فعالة في القضاء على الجهل ، والفقر ، والمرض ، والتخلف ، بل شاركت في الارتقاء بالمجتمع من حيث الصحة ، والتعليم ، والتنمية الاجتماعية والتكافل الحضاري من خلال بناء المستشفيات (بيمارستان) والمدارس والجامعات ، وجميع أنواع ما تحتاج إليه الأمة ، بل حتى الحيوانات والطيور الضعيفة .
هذا الصرح الكبير للوقف لم يُبنَ على فراغ ، وتلك الآثار العظيمة لم تتحقق دون أن يكون الجانب التأصيلي والفكر التنظيمي والأدوات على مستوى كبير من الدقة والضبط في تشخيص الأهداف والرؤية ، وواقعية البرامج والمشاريع .
ومن هذا المنطلق تأتي أهمية البحث بدقة عن الجانب التشريعي للوقف ، وأثر الوقف ودوره التنموي الشامل (الوقف والتنمية الداخلية والخارجية ، الوقف والتنمية الروحية ، الوقف والتنمية الصحية ، الوقف والتنمية العقلية ، الوقف وتنمية البحث العلمي) .
ونحن في هذا البحث نربط هذه الإنجازات العظيمة للأوقاف بالإعجاز التشريعي فيه ، وذلك من منطلق أن القرآن الكريم معجز بلفظه ومعناه، وتشريعاته ، ومن أهم تشريعاته الوقف بمدلوله الشامل لجميع مؤسسات المجتمع الأهلي التي تعتمد عليها الحضارة المعاصرة.
والله أسأل أن يوفقنا جميعاً فيما نصبو إليه ، وأن يكتب لنا التوفيق في شؤوننا كلها ، والعصمة من الخطأ والخطيئة في عقيدتنا ، والاخلاص في أقوالنا وأفعالنا ، والقبول بفضله ومنّه لبضاعتنا المزجاة ، والعفو عن تقصيرنا ، والمغفرة لزلاتنا ، إنه حسبنا ومولانا ، فنعم المولى ونعم الموفق والنصير .
كتبه الفقير إلى ربه
علي محيى الدين القره داغي
الدوحة / 10 محرم 1437ه
التعريف بعنوان البحث :
العنوان يتضمن الكلمات الآتية ، فنعرف بها:
أ – تعريف التشريع :
التشريع لغة مصدر : شرَّع يشرع ، وأصله من الشرع وهو لغة النهج والطريقة المستقيمة ، وشرعة المـاء مورده الذي يقصـد للشرب ، ويقـال : شرع لهم أي سنَّ لهم ، وهي من الشروع في الشيء قال ابن جرير :”وكل ما شرعت فيه من شيء فهو شريعة ، ومن ذلك قيل لشريعة الماء شريعة ، لأنه يشرع منها إلى الماء ، ومنه سميت شرائع الإسلام لشروع أهله فيه” .
وقد ورد لفظ ” شرع ” ومشتقاته في القرآن خمس مرات ، وهي :
(1) قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا ….) قال الماوردي : (وفي شرع لكم أربعة أوجه : أحدها : سنَّ لكم . الثاني : بين لكم ، والثالث : اختار لكم ، والرابع : أوجب عليكم) .
(2) قوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ) أي أن المشركين يتبعون ما سنَّ لهم شركاؤهم من تحريم ما حرموا عليهم من البحيرة و السائبة … ، وتحليل أكل الميتة والدم والقمار .
(3) قوله تعالى : (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً) . قال ابن عطية : أي تأتي حيتانهم مقبلات إليهم مصطفات ، كما يقال : أشرعة الرماح إذا مدت مصطفة .
(4) قوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) ، قال الماوردي :” أما الشرعة فهي الشريعة ، وهي الطريقة الظاهرة ، فيكون معنى قوله : شرعه ومنهاجاً أي سبيلا ً وسنة وهذا قول ابن عباس والحسن ومجاهد ، وقتادة .
(5) قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا) أي جعلناك على طريقة ومنهاج من أمرنا ، فاتبع تلك الشريعة التي جعلناها لك .
وقد ذكر أكثر المفسرين أن المراد بالشريعة في الآيتين الأحكام العملية دون العقائد وأصول الأخلاق الثابتة التي لا اختلاف فيها بين الرسل ، لقوله تعالى : (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا…) فإقامة الدين لله من خلال العقيدة الصحيحة ، وعدم التفرق فيه متفق عليهما بين جميع الأديان ، قال ابن عطية : (وهذا عندهم في الأحكام وأما في المعتقد فالدين واحد لجميع العالم … ، وقد ذكر الله في كتابه عــدداً من الأنبيـــاء شرائعهم مختـــلفة ، ثم قال لنبيه: صلى الله عليه وسلم (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) . فهذا عند العلماء في المعتقدات فقط ، فأما في الشرائع فهذه الآية هي القاضية فيها (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) .
وقد نقل المفسرون عن قتادة في تفسير هذه الآية : أي لكل واحد منهم سبيل وسنة والسنن مختلفة ، للتوراة شريعة ، وللإنجيل شريعة ، وللقرآن شريعة يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء كي يعلم الله من يطيعه ممن يعصيه ، وفي رواية عن قتادة : الدين واحد والشريعة مختلفة ” .
فعلى ضوء ذلك أن الشريعة هي الأحكام العملية التي قد يختلف بعضها عند بعض الرسل عن بعضها عند الآخرين ، ولذلك نسخت شريعـة محمـد صلى الله عليه وسلم كل الشرائع السابقة ، وأن المطلوب منه هو اتباع شريعته فقط كما نصت على ذلك آية سورة الجاثية .
فالمراد بالشريعة الأحكام العملية التي يكلف بها الإنسان من حيث الوجوب والندب ، والحرمة والكراهية والإباحة ، ومن حيث الوضع والعلامة ، سواء كان تشريع هذه الأحكام بالقرآن أم بالسنة ، لأن الكل وحي من عند الله تعالى قال تعالى : (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) قال الشافعي : (فذكر الله الكتاب وهو القرآن وذكر الحكمة ، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول : الحكمة : سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وخطاب الشرع إما خطاب تكليف أو خطاب وضع ، فالأول هو ما يتعلق بفعل المكلف على سبيل الاقتضاء أو التخيير ، والثاني هو ما أخبرنا أن الله تعالى وضعه ويسمى بخطاب الإخبار أيضاً .
والمراد بالاقتضاء : الطلب وهو إما طلب فعل أو طلب ترك ، وكل منهما إما أن يكون طلباً جازماً أو غير جازم ، فخطاب الشرع الدال على طلب الفعل طلباً جازماً ــ مع المنع من تركه ــ يسمى بالإيجاب ، وإذا كان غير جازم فيسمى بالندب ، وخطاب الشرع الدال على طلب ترك الفعل طلباً جازماً ــ أي مع المنع من فعله ــ يسمى بالتحريم ، وإذا كان غير جازم فيسمى بالكراهية ، والتخيير هو الإباحة ، وهي ما لم يقتض الخطاب أحد الطلبين ، بل خير المكلف بين الفعل والترك .
هذه هي الأحكام الخمسة التكليفية ، ويسمى الفعل الذي يتعلق به الإيجاب بالواجب ، وقد رسم بأنه ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه ، ويسمى الفعل الذي يتعلق به الندب بالمندوب ، ورسم بما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه ، ويسمى الفعل الذي يتعلق به التحريم بالمحرم ، ورسم بأنه ما يذم فاعله من حيث هو فعل ، ويسمى الفعل الذي يتعلق به الكراهية بالمكروه ، ورسم بأنه ما يكون تركه راجحاً على فعلـه لنهي ورد في فعله وإن كان فعله جائزاً ، ويسمى الفعل الذي يتعلق به الإباحة بالمباح ورسم بأنه : ما لا يثاب على فعله ولا يعاقب عليه من حيث هو.
ثم إنه لا خلاف في أنه قد وردت آيات في القرآن الكريم تدل على إباحة بعض الأشياء كقوله تعالى : (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) وقوله تعالى (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً) فمطلق الأكـل والشرب والطــعام حــــلال مباح من حيث هو ، لكنه ثار خلاف في أن ثبوت المباح هل يحتاج إلى دليل من الشرع ؟ فذهب المعتزلة إلى أنه لا معنى للإباحة إلا انتفاء الحرج في فعله وتركه ، وذلك لأن هذا الحكم ثابت قبل الشرع وهو مستمر بعده ، إذن فلا يكون حكماً شرعياً . غير أن الجمهور قالوا : لا يثبت أيُّ حكم إلا بالشرع ، كما أنه ليس معنى الإباحة ما ذكروه ، بل هي الخطاب الشرعي الدال على عدم الحرج في فعله وتركه ، فعلى هذا يكون هذا الحكم غير ثابت قبل الشرع ، وهي بهذا المعنى ليست حكماً عقلياً ، بل هو حكم شرعي ، وقد ذكر
الصفي الهندي أن هذا الخلاف لفظي راجع إلى الاصطلاح ، وذلك لأنه إن عني بالمباح ما لا حرج في فعله ولا في تركه لا غير فالمباح ليس حكماً شرعياً ، وإن عني بالمباح ما ذكرناه فهو حكم شرعي لا محالة .
وخطاب الوضع له خمسة أنواع وهي السبب ، والمانع ، والشرط ، والصحة ، والبطلان . فالسبب هو الوصف الظاهر المنضبط الذي دل الشرع على كونه معرفاً للحكم ، كجعل دلوك الشمس معرفاً لوجوب صلاة الظهر ، والمانع هو الوصف الذي دل الشرع على كونه معرفاً لعدم وجود الحكم ، وعرف أيضاً بأنه ما ينتفي الحكم لوجوده كالحيض حيث هو مانع من وجوب الصلاة على الحائض أثناءه . والشرط هو ما يلزم من عدمه عدم المشروط ، لكن لا يلزم من وجوده وجود المشروط . والصحة هي الموافقة لمقتضى ما دل عليه الشرع ، والفساد والبطلان عكس ذلك ، فالمراد بصحة العقود : أن تتحقق فيها أركانها وشروطها ، بحيث تترتب عليها آثارها الشرعية ، والبطلان عدم تحقق الأركان والشروط وبالتالي عدم ترتيب الآثار عليها .
فعلى ضوء ما سبق لا يختص الشرع أو التشريع بجانب الإلزام فحسب بل يعمه وغيره من الأحكام التكليفية والوضعية ، فمن الخطاب ، أو الحكم ــ سواء كان قرآناً أو سنة ـــ ما هو ملزم ، ومنه ما هو غير ملزم ، وذلك لأن كلا ً من ذلك حكم ، والحكم لا يكون إلا لله تعالى وحده .
ب- تعريف الوقف:
لغة : الحبس ، وذكر بعضهم أن الوقف أقوى من الحبس ، ويطلق كذلك على الموقوف عليه تسمية بالمصدر ، وجمعه أوقاف.
وفي الاصطلاح اختلف الفقهاء في تعريفه نظراً إلى نظرتهم إلى الوقف ، لذلك فالتعريف الراجح في نظري للوقف هو : حبس الأصل ، وتسبيل المنفعة ” ولا يفهم من الحبس الخلود والدوام إلى يوم القيامة ، وإن كان ذلك هو الأصل ، وإنما يشمل أيضاً ما يطلق عليه اسم ” الحبس ” حسب العرف ، لأن الشرع لم يحدد زمن الوقف ، والحبس للمال الموقوف ، فيخضع للعرف ، وبذلك يدخل فيه الوقف المؤقت كما أجازه جماعة من الفقهاء ، والمراد بالأصل كل شيء موجود تنتج عنه منفعة أو ثمرة وبالتالي فهو أعم من العين فيشمل العقار والمنقول ، والمراد بالتسبيل هو التصدق والبر ، وذلك لأن الوقف شرع للبر والإحسان ، والمراد بالمنفعة هو كل شيء ينتفع به مباشرة كالسكنى بالنسبة للعقار ، والثمرة بالنسبة للأشجار ، والغلة بالنسبة للأرض ، أو غير مباشرة كما هو الحال في وقف النقود للاستثمار لصالح الفقراء مثلاً ، حيث يستفيدون من الناتج لاستخدامه في قضاء حوائجهم كما يشمل منفعة القرض من حيث استفادة المقترض كما هو الحال في نقد النقود للاقراض .
ج- التعريف بالمقاصد :
المقاصد جمع مقصد ، وهو لغة من القصد بمعنى العزم ، والتوجيه ، والعدل ، والاعتدال ، والوسط.
واصطلاحاً عرفت المقاصد بعدة تعريفات ، منها : أنها هي الحكم والغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد.
د- تعريف الإعجاز :
وهو مصدر أعجز ، يقال أعجزه فلان أي جعله عاجزاً غير قادر عليه ، أو على مواجهته ، ومنه المعجزة التي هي : أمر خارق للعادة يظهره الله تعالى على يد نبي تأييداً لنبوته ، وعبّر جمع عنها بأنها : أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي مع عدم المعارضة .
مشروعية الوقف :
الوقف مشروع من حيث الأصل ، عند جماهير الفقهاء ، بل مستحب ، وقد يعتريه بعض الأحكام الأخرى .
ويدل على مشروعيته واستحبابه واعتباره من القرب المندوب إليها أدلة كثيرة من الكتاب والسنة ، وإجماع الصحابة ، ولا حاجة لذكرها هنا .
كيفية شمول الإعجاز القرآني للوقف :
حينما تتدبر الآيات التي وردت في الإعجاز ، والتحدي بالقرآن العظيم نجد ان هذا التحدي ليس موجهاً إلى العرب فحسب ، ولا إلى الإنسان فقط بل إلى الجن والانس ، مما يشعرنا بأن هذا التحدي بوجوه تعجز هؤلاء جميعاً فقال تعالى : (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) كما خاطب جميع المخاطبين به أيضاً فقال تعالى : (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) فهذه الآية جاءت مباشرة بعد قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) مما يدل على أن المخاطب به هو جميع الناس ، ثم تضمنت الآية نفسها أن يدعوا شهداءهم من الجن ليأتوا بسورة واحدة مثل القرآن الكريم .
إذن فالإعجاز والتحدي بالقرآن الكريم لجميع من طولبوا بالايمان به ، وهم جميع الانسن والجان ، ففي ضوء ذلك تكون وجوه الإعجاز والتحدي شاملة لهم جميعاً ومحققة ذلك على علم وبصيرة .
والمقصود بالتحدي والاعجاز هو أن يتضمن القرآن الكريم من وجوه الإعجاز ما تعجز عنه العرب وغير العرب من الشعوب والأقوام ، وكذلك ما يعجز عنه العلماء وعامة الناس.
ومن جانب آخر فإن القرآن الكريم استعمل في جميع آيات الإعجاز والتحدي لفظ ( المثل ) دون تحديده بالإعجاز البياني والبلاغي فقال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ) حيث تحداهم بحديث مثل القرآن الكريم في البيان والفصاحة والبلاغة ، وفي بيان الغيبيات السابقة واللاحقة ، وفي التشريع والأخلاق والمعاني وفي الإعجاز العلمي والاقتصادي ، إلى آخر ما تتحمله هذه الكلمة من معان ومفاهيم ودلالات ومبادئ وقواعد لرسم الحياة الطيبة وسعادة الدنيا والآخرة .
وقد ذكر الله الله ذلك في بقية الآيات الخاصة بالتحدي بالقرآن كله أو بعضه ، فقال تعالى : (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) وقال تعالى : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ) وقال تعالى : (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) وقال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) .
فقد رأينا أن التحدي بمثل القرآن كله ، أو بعشر سور من مثله ، أو بسورة واحدة من مثله ، وذلك دون تحديد ولا تقييد ولا تخصيص حتى يشمل كلّ ما في القرآن الكريم : لفظه ومعناه وأسلوبه ومبْناه …الخ .
والإعجاز في الوقف يأتي من خلال سبق الإسلام بتشريع الوقف بجميع أنواعه ، ومؤسساته ، وتنظيم المجتمع الإسلامي من خلاله كما يتبين فيما بعد .
الوقف ومؤسسات المجتمع الأهلي :
ظهر مصطلح (مؤسسات المجتمع المدني) أو (الأهلي) في العقود الأخيرة للدلالة على المؤسسات الأهلية غير الحكومية ، ودورها في خدمة المجتمع في مختلف مجالات الحياة ، وفي خدمة الإنسان من حيث حقوقه ، وحماية كرامته .
ونستطيع القول : بأن مؤسسات المجتمع الأهلي تسعى جاهدة ـ خارج إطار الدولة ومؤسساتها ـ لتحقيق المقاصد الضرورية والحاجية للإنسان والمجتمع من خلال حماية الإنسان ، وحريته الدينية ، وحماية النفس والعرض ، والمال ، وغيرها من المقاصد المعتبرة بالإضافة إلى تحقيق العدل ، وحماية ممتلكات الشعب من خلال المؤسسات الرقابية والإعلامية .
يقول المستشار إبراهيم البيومي غانم : ” وإذا قبلنا بأن المجتمع المدني ـ في أحد تعريفاته العامة والشائعة يشير إلى “كل المؤسسات التي تتيح للأفراد التمكن من الخبرات والمنافع العامة من دون توسط الحكومة” وباستقلال عن الجهاز القهري للدولة ، وأن موضوعه ينصب على ” المجال المعرفي الذي يتناول المؤسسات ، والممارسات التي تقع بين مجالي الأسرة والدولة ” ، فإن إدراك علاقة الوقف بالمجتمع المدني في الوطن العربي على وجه التحديد يتطلب بالضرورة تجاوز المعاني اللغوية والمشاحات الاصطلاحية المجردة ، والنفاذ مباشرة إلى التجليات العملية والممارسات الاجتماعية لكليهما في أرض الواقع .. ” ثم ختم ورقته بأن ” ثمة علاقة أكيدة نشأت بين نظام الوقف والمجتمع المدني / الأهلي العربي بغض النظر عن النمط الذي أخذته هذه العلاقة” .
وقبل أن أبين هذه العلاقة أود أن أؤكد على أن المجتمع القوي المتحضر هو الذي تقوم الدولة فيه بواجباتها العسكرية ، والسياسية والاقتصادية ، والاجتماعية من خلال منظوماتها ومؤسساتها ومواردها المالية الخاصة بها …
وبالتوازي لأعمال الدولة ينهض المجتمع أيضاً بواجباته الأهلية من خلال مجموعة من المؤسسات المتنوعة التي لها أيضاً منظومتها ومواردها الخاصة بها .
فحينما يلتقي هذان الخطّان ، ويتحركان عبر خطة محكمة ، ومنهج صحيح كل في دائرته ومن خلال منظوماته الخاصة بها يتكامل المجتمع ، فيتقدم تقدماً سريعاً في كافة مجالات الحياة ، ويتكون التكافل الاجتماعي ، والتماسك الداخلي ، والأمن السياسي والأمان الاقتصادي ، وتتحقق الحضارة والرفاهية ، كما نشاهد ذلك ـ على المستوى المادي ـ في الدول المتقدمة .
وقد رأينا من خلال النصوص السابقة التي ذكرناها حرص الإسلام على الوقف والصدقات العامة ، والقرض الحسن حتى وصلنا إلى فكرة الواجب الكفائي في مجال التكافل الاحتماعي ـ كما سبق ـ
ومما لا شك فيه أن الوقف الذي حرض عليه الإسلام وطبقه الرسول صلى الله عليه وسلم ومعظم صحابته ـ إن لم يكن جميعهم ـ يدخل في هذا الإطار الكفائي التكافلي .
ثم إن الوقف تنوعت أشكاله ، وتعددت مصادره ، وموارده ، ومصارفه ، وشملت مؤسساته مختلف مجالات الحياة ، نذكر هنا أهمها :
1 ـ أوقاف ضخمة على المساجد والجوامع وعلى رأسها الوقف على المساجد الثلاثة ، المسجد الحرام ، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، والمسجد الأقصى .
2 ـ أوقاف عظيمة على المدارس والجامعات ، بدءاً من المحاضر ، والكتاتيب ، والمدارس الملحقة بالمساجد ، ومراكز تحفيظ القرآن الكريم ، والسنة المطهرة ، إلى الجامعات والمدارس النظامية ، وبشكل متكامل حتى نستطيع القول بأن الوقف هو الذي تحمل أعباء التعليم في الأمة .
3 ـ أوقاف عظيمة على الأماكن الخاصة بالتربية ، والتزكية كالتكايا ، والخانقاه والرُّبُط ونحوها ، حيث ساهمت هذه الأوقاف في تمويل هذه المؤسسات باستمرار .
4 ـ أوقاف عظيمة على الجهاد في سبيل الله ، وحماية الثغور ، ونحو ذلك ، حيث ساهمت هذه الأوقاف في تحمل أعباء كثيرة للدفاع عن الأمة ودينها .
5 ـ أوقاف عظيمة على البيمارستانات ( المستشفيات ) بأنواعها الكثيرة وبشكل تكفي أموال الوقف لإدارة هذه المستشفيات على صورة مؤسسية وعلى الرفاهية، ولذلك نستطيع القول بأن الوقف وحده هو الذي تحمل أعباء الصحة والمستشفيات في الأمة الإسلامية خلال عصورها الزاهية .
6 ـ أوقاف خاصة بالفقراء والمساكين .
7 ـ أوقاف خاصة بالذين انقطع بهم السبيل وهم محتاجون إلى مساعدات لتوصيلهم إلى بلادهم وأوطانهم.
8ـ أوقاف خاصة بالخانات ، أي أماكن الاستراحات بين المدن ( أي الفنادق المجانية للمسافرين ) لتطوير حركة السفر ، وحتى لا يكون عدم المال مانعاً من السفر ، والرحلات العلمية ، أو التجارية.
9 ـ أوقاف خاصة بالعلماء من الدعاة والمدرسين ، ونحوهم .
10 ـ أوقاف خاصة بطلبة العلم ، لمعيشتهم وكفالتهم حتى يستكملوا العلوم المطلوبة .
11 ـ أوقاف خاصة بالثغور ( أي حماية الحدود الإسلامية ) .
12 ـ أوقاف خاصة بالقرآن الكريم من حيث كتابته ونسخه ، وتعليمه ، وحفظه ، ونشره .
13 ـ أوقاف خاصة بالسنة المشرفة من حيث حفظها وتعليمها ، ونسخها ونشرها بين المسلمين ، بل هناك أوقاف خاصة بصحيح البخاري ، أو صحيح مسلم.
14 ـ أوقاف خاصة بنشر الدعوة من حيث تخصيص ريع الوقف للدعاة ، والمدعوين والمسلمين الجدد ، أو المهتدين الجدد ، ومن حيث الانفاق على الأدوات والوسائل الجديدة للدعوة من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة ، والمقروءة والمكتوبة .
وفي عصرنا الحاضر يمكن الوقف على الدعوة من حيث الأشرطة ، ووسائل التواصل الاجتماعي المعاصرة من الانترنت وهكذا .
15 ـ أوقاف خاصة لتزويج غير القادرين من الرجال والنساء ، بحيث تضمن لهم مصاريف الزواج ، بل والنفقة إلى أن يجدوا العمل المناسب .
16 ـ أوقاف خاصة بالنساء الأرامل ، وأوقاف خاصة للأرامل اللائي لديهن أولاد ، بل وجدنا أوقافاً خاصة بالأرامل التي لديها بنات فقط .
17 ـ أوقاف خاصة باليتامى وكفالتهم .
18 ـ أوقاف خاصة بأداء الديون .
19 ـ أوقاف خاصة بالمكتبات ، والكتب للقراءة والبحث ، حتى اشتهرت الحضارة الإسلامية بالمكتبات الضخمة منذ زمن قديم .
20 ـ أوقاف خاصة للجسور ، والطرق .
21 ـ أوقاف خاصة بمشاريع المياه من حفر الآبار ، وشق الترع ، ونحو ذلك .
22 ـ أوقاف خاصة بالمقابر ، حيث أوقفت أراضي كثيرة لتكون مقابر للمسلمين
23 ـ أوقاف خاصة لصالح العجزة وذوي الاحتياجات الخاصة ، بل وجدنا بعض الأوقاف الخاصة بالأعمى فقط ، أو بالأصم ، وهكذا .
24 ـ أوقاف خاصة بالمسنين .
25 ـ أوقاف خاصة بالخدم والخادمات في حالات كسر الأواني ، أو الإضرار بأموال أسيادهم .
26 ـ أوقاف خاصة بمن حبس عنه أجره ظلماً من قبل أصحاب العمل .
27 ـ أوقاف خاصة بالحيوانات أو الطيور عامة ، أو أنواع معينة مثل الخيل .
28 ـ أوقاف خاصة لأماكن الوضوء للنسوة خاصة .
29 ـ أوقاف خاصة لمن يدخل السرور في قلوب المرضى من الوعظاء والقصاصين .
30 ـ أوقاف خاصة بالحيوانات عند عجزها أي تخصيص الأموال لحالات الحيوانات التي تحال على المعاش بسبب السن ، أو المرض وبعبارة أخرى الضمان لحالات العجز وكبر السن .
31 ـ أوقاف خاصة بالخيول بصورة عامة ، وبالخيول العاجزة عن العمل .
32 ـ أوقاف خاصة بنزهة العوائل ، كما فعل ذلك السلطان نور الدين زنكي ، حيث كان له قصر ، فقام بتعميره وأضاف إليه أراض واسعة وربوة فجعلها منتزهاً خاصاً بالفقراء وعوائلهم وسماها :” قصر الفقراء ” حيث أنشد فيه تاج الدين الكندي شعراً قال فيه :
إن نورالدين لمــا أن رأى من البساتين قصور الأغنياء
عمَّر الربـوة قـصـراً شاهقاً نـزهـة مطلقــة للفقـراء
33 ـ أوقاف خاصة لشراء حلي العروس وإعارتها إياها عند عرسها .
وهذه بعض أنواع الوقف السائدة في العصور الزاهرة لحضارتنا الإسلامية ، وقد أبدع الحاج أحمد بن شقرون في ذكر هذه الأنواع شعراً حيث قال :
اصغ تدر ما أسدى أخ الذوق جدا وفي حبس يستحسن السبق للخير
إذا عطب اللقلاق يومـاً فإنــه بمال من الأوقاف يجبر من كسر
وإن لم تجد أنثى مكاناً لعرسهـا فدار من الأوقاف تنقذ من فقـر
وإن لم تجد عقداً لجيد ، فإنــه يعار من الأوقاف يوصل للخـدر
وإن جن مجنون ، فإن علاجـه بمال من الأوقاف يصرف للفـور
وقد أوقفوا جبر الأواني ، ربمـا يهشمها طفل ، فتقطع من أجــر
ولكن بمال الوقف يأخذ غيرهـا بلا عوض منه ، فيسلم من خسر
وقد أوقفوا دار الوضـوء لنسوة يردن صلاة في حياء وفي ستـر
وقد أوقفوا وقفاً يخص مؤذنــاً يؤذن للمرضى بعيداً عن الفجـر
ليكشف عنهم من كثافة غربــة حجاب ظلام الليل والسقم والوتـر
مبرات أوقات الألى قصدوا إلى معان من الإحسان جلت عن الحصر
وأشار الشاعر العراقي معروف الرصافي في قصيدة رائعة إلى أهمية الوقف وتنوعه فقال :
للمسلمين على نــزوة وفرهم كنز يفيض غنى من الأوقـاف
كنز لو استشفوا به من دائـهم لتدجروا منه الـدواء الشــافي
ولو ابتغوا للنشء فيه ثقــافة لتثقفوا منـه بخـير ثقـــات
ولو ارتقوا بجناحه في عصرهم لأطـارهم بقـوادم وخــوافي
لكنهم قــد أهملـوه وأعملـوا في جانبيه عوامـل الإتـــلاف
فإذا نظرت رأيت ثمــة أرضه تجري الرياح بها ، وهن سـوافي
قد تابعوا الموتى عليه وما وقوا أهـل الحياة بـه من الإجـحاف
وقفوا به عند الشروط لواقــف وتغـافلوا عن حكمـة الإيقـاف
تركوا له في العصر نفعاً ظاهراً وتعاملــوا فيه بنفـع خــافي
لم يستجدوا فيه شيئاً ، واكتفـوا في كل حــال منه بالسفسـاف
قل للذين تقيــدوا بشروطــه ماذا التوقف عند ” رسم ” عـافي
غرسوه غرساً مثمراً ، لكن جرت غير الزمان فعــاد كالصفصاف
هل بين شرط الواقفين ، وبين ما نفع العمـوم ، تناقض وتنــافي
أزيد أن يقفو الزمــان أمـورنا وأمورنا ، هي للزمـان قــوافي
هلا جعلن مدارســا فيــاضة من كل علم بالـزلال الصــافي
ينتابها أبناؤكــم كي يأخــذوا من كل فــن بالنصيب الــوافي
فيفيض فيض العـلم حتى يرتوي منه بنو الأمصــار والأريـاف
إن لم يكن شرف البـلاد محصنا بالعلم ، كان مهــدد الأطـراف
وإذا النفوس تسافلت من جهلـها لم يعلــها شمم على الآنــاف
هذي الخزانة أنشئت فبنــاؤهـا للأمر فيـه تــدارك وتــلاف
34- وقف جميع الأراضي المفتوحة في عصر عمر وقفاً على الدولة والأجيال القادمة .
وفي نظري أن أعظم وقف في تاريخ البشرية كلها هو ما قام به عمر من وقف الأراضي المفتوحة عنوة في العراق ، والشام ، وغيرهما وقفاً على مصالح الدولة والأجيال اللاحقة.
فقد اتفق المؤرخون على أن سيدنا عمر رضي الله عنه لما فتح العراق ، والشام ، والبلاد الأخرى لم يوزع الأراضي المفتوحة على الفاتحين كما هو الحال لبعض الأراضي المفتوحة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما أبقاها بأيدي أصحابها ، وجعل ريعها وما ينتج منها من الخراج لصالح الدولة والأجيال اللاحقة ، وهذا محل إجماع واتفاق بين الفقهاء ، وإنما الخلاف في التكييف ، بل إن الإمام مالكاً وأصحابه يذهبون إلى أن على الإمام ـ بعد عمر ـ إذا فتح أرضاً أن يقفها على المسلمين كما فعل رضي الله عنه في أرض سواد العراق ، وقال أبو حنيفة والكوفيون يتخير الإمام بحسب المصلحة في قسمتها ، أو تركها في أيدي من كانت لهم بخراج يوظفه عليها وتصير ملكاً لهم كأرض الصلح .. ” .
وذكر ابن عابدين أن أرض سواد العراق ، وأرض مصر والشام تبقى بأيدي أصحابها ، ولكن الخراج يكون للدولة ، وهذا يعني أنها مملوكة ـ ملكية المنفعة والتصرف لأهلها ، حيث قال :” وهذا ـ أي ثبوت الملكية لهم ـ على مذهبنا ظاهر ، وكذا عند من يقول : إنها وقف على المسلمين ، فقد قال الإمام السبكي : إن الواقع في البلاد الشامية والمصرية : أنها في أيدي المسلمين فلا شك أنها لهم إما وقفاً وهو الأظهر من جهة عمر رضي الله عنه وإما ملكاً وإن لم يعرف من انتقل منه إلى بيت المال..” .
يقول القرطبي :” وفي الروايات المستفيضة من الطرق الكثيرة : أن عمر أبقى سواد العراق ومصر ، وما ظهر عليه من الغنائم ، لتكون من أعطيات المقاتلة وأرزاق الحشوة والذراري ، وأن الزبير وبلالاً وغير واحد من الصحابة أرادوه على قسم ما فتح عليهم … وأنه تأول في ذلك قول الله تعالى : ( لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ …..) إلى قوله تعالى :(وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ) .
ويقول ابن عاشور : (وقد انتزع عمر بن الخطاب من قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ ) دليلاً على إبقاء أرض سواد العراق غير مقسومة بين الجيش الذي فتح العراق ، وجعلها خراجاً لأهلها قصداً لدوام الرزق منها لمن سيجيء من المسلمين) .
عند الشافعية أن سيدنا عمر عندما فتح سواد العراق ، والشام ، ومصر اتفق مع الفاتحين على جعلها وقفاً .
والخلاصة أن الفقهاء اختلفوا في الأراضي المفتوحة عنوة (سواد العراق ، والشام ومصر) هل هي وقف أم لا ؟ على رأيين أساسيين :
الرأي الأول لجمهور الفقهاء حيث ذهبوا إلى أنها أراض وقفية ، فلا يجوز بيع رقبتها ، ولا رهنها ، ولكنهم اختلفوا فيما بينهم على رأيين :
1 ـ فذهب المالكية في المشهور عنهم ، والحنابلة في رواية ، والأوزاعي والإمامية إلى أنها تصبح وقفاً بالفتح نفسه من غير حاجة إلى صيغة وقف ، حيث تدل على ذلك آيات سورة الحشر وهي (وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ) .
وجه الاستدلال بها أن الله تعالى ذكر في هذه الآيات حكم الفيء الذي يتم دون حرب ولا قتال حيث يكون تحت تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم فينفق منه نفقته ، ويجعل الباقي في الكراع والسلاح وإعداد القوة ، والمصالح العامة للأمة ، حيث بين الله بأن هذا الفيء الذي جاء عن طريق الصلح مع بني النضير ليس للمقاتلين حق فيه ، ولذلك قسّم النبي صلى الله عليه وسلم أراضيهم ونخيلهم بين المهاجرين ، لأنهم كانوا محتاجين ، ولم يعط للأنصار شيئاً إلا ثلاثة فقراء منهم .
ثم بعدما ذكر القرآن الكريم هذا الحكم تحدث عن فيء آخر يتم بغير الصلح ( أي الغنيمة ) ، فهذا النوع يكون مآله لهؤلاء الذين ذكرتهم الآيات اللاحقة وهي لله وللرسول (أي الدولة والحق العام) ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) أي لهم الخمس وبالتالي فيكون الباقي للمهاجرين ، والأنصار ، والذين جاؤوا من بعدهم ، حيث دلت الآيات بوضوح أن الأراضي المفتوحـة يجب أن يستفيد منـها جميع هؤلاء (في الجملة) وهذا لا يتحقق إذا وزعت على المقاتلين فقط ، وإنما تكون وقفاً يستفيد من ريعها وثمارها وخراجها الجميع إلى يوم القيامة .
ولكن هذا الاستدلال يستكمل بأن هذه الآيات في سورة الحشر خاصة بالأراضي وما فيها من نخيل وزروع وثمار ، وأن آيات الأنفال (الغنائم) في سورة الأنفال بما عدا الأرض وما عليها ، وبذلك انتظمت الحالات الثلاث وفقاً للآيات الثلاث .
ويرد إشكال آخر ، وهو أن الفيء خاص بما يؤخذ من غير قتال ، والغنيمة خاص بما يؤخذ بقتال:
للجواب عن ذلك نقول : إن أهل اللغة متفقون على أن الفيء يطلق على الغنيمة أرضاً أو أنه أعم منها فإن قيّد بالقتال فهو غنيمة كما رأينا في آيات سورة الحشر ، حيث قيدت الآية 6 بعدم القتال (وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي لم تحصلوا عليه بالقتال ، وإنما بالصلح حيث قذف الله في قلوب بني النضير الخوف فضاقت عليهم الأرض فتنازلوا عن جميع أموالهم .
في حين نرى الآية الثانية من السورة نفسها غير مقيدة بالصلح ، حيث قال تعالى : (مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) حيث يظهر منها أنها تتحدث عن جميع الغنايم التي تحصل من أهل القرى بالحرب والقتال ، لأنها في بيان حكم جديد ، ولذلك صيغت الآية بصيغة القطع دون الوصل بالعطف .
وبناءً على هذا الرأي والتفسير فهناك ثلاثة أنواع من الغنايم ، والفيئ وهي :
1- غنايم منقولة (غير العقارات) حصلت بالحرب فإن حكمها قد ذكرته آيات سورة الأنفال .
2- وغنايم غير منقولة (الأراضي والأشجار) فهذه تصبح وقفاً لمصالح الأمة .
3- وفيء تحقق بدون قتال فهذا يتصرف فيه الإمام حسب المصالح العامة ، وأما سهم الرسول فهو خاص به فقط ، فلا يقاس غيره عليه .
وقد ذكر القاضي ابن العربي أن : (الآية الأولى (وما أفاء الله على رسوله منهم …) لرسول الله خاصة ، أي فإن الله تعالى خصَّ هذه الأموال التي جاءت من بني النضير لرسوله صلى الله عليه وسلم ولذلك لما جاء العباس وعلي إلى عمر يطلبان بما كان في يد النبي صلى الله عليه وسلم من المال ، وذلك بحضرة عثمان وعبد الرحمن بن عوف ، والزبير ، وسعد ، قال لهم عمر : أحدثكم عن هذا الأمر أن الله خصَّ رسوله صلى الله عليه وسلم من هذا الفيء بسهم لم يعطه أحداً غيره وقرأ ( وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل … ) فكانت هذه خالصة لرسوله صلى الله عليه وسلم وأن الله اختارها ، والله ما أحتازها دونكم ولا أستأثر بها عليكم …) .
يقول ابن العربي :” واختلف الناس هل هي ـ آيات سورة الحشر ـ ثلاثة معان ، أو معنيان ، ولا إشكال في أنها ثلاثة معان في ثلاث آيات ، أما الآية الأولى فهي قوله ( هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر) ثم قال ( وما أفاء الله على رسوله منهم .. ) ولذلك قال عمر إنها كانت خالصة لرسول الله … الآية السادسة قوله تعالى ( ما أفاء الله على رسوله .. ) هذا الكلام مبتدأ غير الأول لمستحق غير الأول) أي تحمل على الفيئ بمعنى الغنيمة ، ولكن في الأراضي .
وهناك تفاصيل كثيرة حول توجيه هذه الآيات لا يسع الخوض فيها .
2 ـ وذهب الشافعية ، والمالكية في قول ، والظاهرية ، والحنابلة ، إلى أن هذه الأراضي آلت إلى الوقف ، حيث طيَّب عمر رضي الله عنه نفوسهم فوافقوا على جعلها وقفاً ، وهناك تفاصيل داخل هذه المذاهب لا تسمح طبيعة البحث بالخوض فيها .
وأياً كان فإن النتيجة واحدة وهي أن هذه الأراضي المفتوحة هي وقف للأمة تشرف عليها الدولة ، وتنفق من ريعها للصالح العام ، وهذا هو الرأي الراجح الظاهر الذي ذكرنا بعض أدلته ولا يسع المجال للخوض في ذكر بقية الأدلة .
الرأي الثاني للحنفية : حيث يذهبون إلى أن هذه الأراضي بمثابة الوقف وليست وقفاً ، ولذلك يحق لأصحاب هذه الأراضي بيعها ورهنها ، ولكن يبقى الخراج مصاحباً لها ، وتنتقل مع الأرض إلى المالك الجديد ، يقول الكاساني : ( ويجوز بيع أراضي الخراج … والمراد من الخراج أرض سواد العراق التي فتحها سيدنا عمر رضي الله عنه ، لأنه منَّ عليهم ، وأقرهم على أراضيهم ، فكانت مبقاة على ملكهم فجاز لهم بيعها .. ) وقال ابن عابدين :” وأرض السواد ـ أي سواد العراق .. وكذا كل ما فتح عنوة وأقر أهله عليه ، أو صولحوا ، ووضع الخراج على أراضيهم فهي مملوكة لأهلها … ويجوز بيعهم لها ـ أي الأراضي الشامية والمصرية ـ وتصرفهم فيها بالرهن ، والهبة ، لأن الإمام إذا فتح أرضاً عنوة له أن يقر أهلها عليها ، ويضع عليها الخراج .. فتبقى الأرض مملوكة لأهلها ” .
والذي يهمنا هنا أن جماهير الفقهاء متفقون على أن تلك الأراضي المفتوحة وقف وقفها عمر ر