بقلم: ا.د. علي القره داغي
جريدة الوطن- الدوحة
الرأي الثاني: القول بعدم جواز اشتراط التعويض في العقد:
وهذا رأي الدكتور زكي الدين شعبان، والدكتور نزيه حماد، والدكتور عبدالناصر العطار والدكتور شبير والاقتصادي الدكتور رفيق المصري، ويمكن تلخيص أدلتهم فيما يلي:
1 ـ إن اشتراط التعويض عن تأخير الدين إن هو إلاّ اشتراط لربا النسيئة، وهو غير جائز، وأن حصيلته هي الربا النسيء بعينه.
2 ـ إن ذلك تحايل للوصول إلى الربا يقو الدكتور رفيق المصري بخصوص رأي الشيخ الزرقا: «إن هذه الاقتراحات أخشى أن تتخذ ذريعة في التطبيق العملي إلى الربا فتصبح الفائدة الممنوعة نظرياً تمارس عملياً باسم العقوبة (جزاء التأخير) وينتهي الفرق إلى فرق في الصور والتخريجات فحسب.. وهي اقتراحات تحوم حول الحمى، وربما تؤول إلى الدخول من النوافذ بعد أن أقفل الباب حتى إذا كثرت النوافذ المشروعة رجاء بعضنا على الأقل إلى الدخول من الباب الرسمي».
وهذا الذي خيف منه قد تحقق فعلاً فقد استطاع أحد البنوك -بعد تركي مراقباً شرعياً له- تحصيل الموافقة من الهيئة الشرعية على اشتراط التعويض عن التأخير، وعلى غرامة التأخير، فوافقت الهيئة على أن تصرف في وجوه الخير، ولكن الإدارة كانت ذكية فأخذت موافقة أخرى من الهيئة على اقتطاع جزء من هذه الغرامة في مقابل الإجراءات الإدارية، وحينئذ كلفت الإدارة أحد موظفيها باحتساب مقدار التكلفة الإدارية حيث بلغت قريباً من الغرامة المحصلة، وبالتالي دخلت في جيب البنك.
3 ـ إن التعويض المالي عن التأخير في السداد مخالف لما جرى عليه العمل منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين إلى عهد الدولة الإسلامية التي التزم قضاؤها بالإسلام، حيث كان القضاء يحكم على المدين الموسر المماطل الدين مع التعزير بالحبس، أو نحوه والإفلاس، ولم يسجل لنا الفقه الإسلامي أو القضاء الإسلامي حالة واحدة حاكم فيها القضاء الإسلامي بالتعويض عن التأخير في سداد الدين مع كثرة هذه الحالات المعروضة على القضاء كما لم نرً فتوى بهذا الصدد على الرغم من كثرة النوازل والوقائع التي تخص مماطلة الديون.
وقد ناقشو أدلة المجيزين، بأن الأحاديث المذكورة من اعتبار مطل الغني ظلماً يحل عرضه وعقوبته، لا تدل أبدأً على جواز التعويض عن تأخير الدين، ولم يفسر أحد من علماء الحديث أو الفقه هذه الأحاديث بالتعويض عن تأخير الدين -كما سبق- وكذلك الاستدلال بحديث: (لا ضرر ولا ضرار) في غير موقعه يدل على نفي الضرورة وإقراره، وأنه يجب أن يزال لا بضرر بمثله، ولكنه لا يدل على على أن كل ضرر يوجب الضمان والتعويض.
يقول الشيخ علي الخفيف: (إن التعويض في الفقه الإسلامي لا يكون إلاّ عن ضرر مالي واقع فعلاً، لأنه السبب في التعويض، والمسبب لا يتقدم سببه، وإلاّ لم يكن سبباً له، ولكن إذا وقع الضرر فعلاً وجب التعويض -أي شروطه- ولا يكون الضرر المالي الموجب لتعويض إلاّ في متقوم).
ثم ذكر الشيخ شمولية الضرر لبعض الأعمال مع أنها لا تستوجب التعويض مثل الامتناع عن تنفيذ التزام كالوديع يمتنع عن تسليم الوديعة إلى مالكها حيث ليس فيه تعويض مالي على ما تقضي به قواعد الفقه الإسلامي، وذلك محل اتفاق بين المذاهب.
وقد ناقش المجيزون أدلة المانعين بما يأتي:
أولاً: أننا لا نسلم أن اشتراط التعويض عن تأخير الدين اشتراط لربا النسيئة، وأن حصيلته هي عين الربا لوجود الفروق الجوهرية بينها
وخلاصة الرد على هذه الفروق أن الربا في حقيقته الزيادة بلا عوض في مقابل الأجل وهي متحققة في التعويض المذكور، لأن الربا في اللغة هي الزيادة، وفي الشرع قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء) وفي رواية صحيحة أخرى: فمن زاد أو ازداد فقد أربى وإلاّ ما اختلفت ألوانه) أي أجناسه، وفي رواية ثالثة: (فمن زاد أو استزاد فهو ربا).
ثانياً:أن الربا في حقيقته ظلم واستغلال من الدائن المرابي للمدين،في حين أن التعويض عدل لأنه يزيل ظلم المدين للدائن.
والجواب أن هذا هو بيان الحكمة، وأما العلة والسبب الشرعي فهي الزيادة -كما سبق- ولذلك أصبح المعطي المظلوم آثماً، كما في الحديث السابق الصحيح.
الرأي الراجح
أرى أن الرأي الراجح هو عدم جواز اشتراط التعويض عن تأخير السداد في العقود الآجلة (الديون) وهذا هو قرار المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي -كما سبق- وقرار مجمع الفقه الدولي رقم 53(2/6)، وذلك لأن أدلة المجيزين لم تنهض حجة على دعواهم، ولم تسلم من المناقشة، وأن مباني رأيهم لم تكن سليمة قائمة على أصول شرعية، وقد ذكرنا إجماع العلماء على أن كل قرض شرط فيه الزيادة فهو حرام.
ومن جانب آخر فإن البنوك الإسلامية بما أن معظمها لا تتعامل في التجارة، بل في المرابحات والبيوع الآجلة والبدائل عن القروض الربوية، فإنها إذا أضيف في عقودها شرط التعويض عن التأخير بقرض مبل من المال بمقدار نسبة الربح المتحقق في البنك فلا يبقى حينئذ فروق جوهرية بينها وبين البنوك الربوية، فالمرابحات بل كل العقود الآجلة ينظر في هامش ربحها إلى نسبة الفوائد الربوية السائدة (لايبور) هذا في البداية، ثم في النهاية عند التأخيرتؤخذ عليها فوائد محددة وهي 3% مثلاً حسب نسبة أرباح البنك المتحققة (حيث هذا الاحتساب هو السائد في البنوك التي تجيز التعويض والغرامة المالية).
ثالثاً: التعويض عن طريق القضاء أو التحكيم
وهذا إنما يتحقق إذا خلا الاتفاق بين الدائن (البنك) والمدين عن أي شرط جزائي ثم تأخر المدين في السداد مماطلة، وتضرر البنك فعلاً بسبب تأخر ديونه، والتجأ إلى القضاء أو إلى التحكيم، وحكم له بتعويض مالي، فهل يجوز للبنك أن يسلك هذا الطريق وأن يأخذ التعويض الذي حكم له ؟
هذا ما سنتناوله في هذا المبحث، وقبل أن نجيب عليه نمهد له بتعريفه وحكمه في الشريعة والقانون.
التمهيد في التعريف بالتعويض وأحكامه في الشريعة والقانون بإيجاز:
التعويض لغة من العوض، وهو البدل وأصله: عاض فيقال: عاضه بكذا، وعنه، ومنه عوضاً، أي أعطاه إياه بدل ما ذهب منه فهو عائض، وعوّضه، وأعاضه، وعاوضه بمعنى واحد، واعتاض منه: أخذ العوض، واعتاض فلاناً: سأله العوض، واستعاضه، ومنه أي سأله العوض.
وفي اصطلاح الفقهاء هو: دفع ما وجب من بدل مالي بسبب إلحاق ضرر بالغير، وعلى ضوء ذلك فهو أخص من الضمان الذي يترتب على إلزام الشارع كالديات، والالتزام (والعقود) والفعل الضار، يد الضمان.
والتعويض لدى الفقهاء لا يكون إلاّ في مقابل ضرر، ومن ثم فهو واجب الأداء، ولكن ليس كل ضرر يترتب عليه التعويض، وإنما الضرر المعوض عنه لدى الفقهاء بشمل الضرر الواقع على المال بما فيه المنفعة سواء كان عن طريق الغصب أم الاتلاف، ام الاعتداء على النفس وما دونها وهي الدية والارش، أم عن طريق التفريط في الأمانة ونحو ذلك، ويكون التعويض بدفع مال مقدر أو مصالح عليه يدفع لمن وقع عليه الضرر، أو لورثته بدلا لما فقد وقطعاً للخصومة والنزاع بين الناس.
والتعويض عن الضرر بإتلاف العين أو المنفعة، أو النفس، أو ما دونها، ولكن ليس هناك تلازم بين التعويض والإتلاف، حيث يكون التعويض عن تفويت العين بالمثل إن كانت مثلية، وبالقيمة إن كانت قيمية.
وأما التعويض عن تفويت المنفعة للأعيان المغصوبة سواء كانت مستعملة أم لا فيمون بأجرة المثل عند جمهور الفقهاء الشافعية، والحنابلة، والظاهرية، والزيدية، والامامية، والاباضية، في حين ذهب جمهور الحنفية إلى عدم تعويض منافع المغصوب إلاّ إذا كان المغصوب مال يتيم، أو وقف، أو كان مالكه قد أعده للاستغلال، وأما المالكية فذهبوا إلى التعويض في حالة استعمالها.