استدل القائلون بالتفرقة ِفي القبض بين ما يكال أو يوزن , وبين غيره بالسنة و العرف .

 

أما السنة ُفقد وردت في ذلك عدة أحاديث :

 

1- منها: ما رواه البخاري تعليقاً عن عثمان (رضي الله عنه ) أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال له : ” إذا بعتَ فكِل وإذا ابتعتَ فاكتل ” [1] ,  وقد وصله الدار قطني, وله طريق أخرى أخرجها أحمد ابن ماجــه , والبزّار [2].

 

2- ما رواه ابن ماجه عن النبي (صلى الله عليه وسلم ) أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان : صاع ُالبائع , وصاع ُالمشتري .[3]

 

3- الأحاديث الواردة الدالة على أن القبض لا يتم فيما يباع بالجُزاف إلا بالتحويل , فقد روى مسلم عن ابن عمر أنه قال : ” كانوا يضربون على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) إذا اشتروا طعاماً جُزافاً أن يبيعوه في مكانه حتى يحولوه ” وفي لفظ : ” كنا نبتاع الطعام جزافاً فبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتاعه فيه إلى مكان سواه , قبل أن نبيعه ” وفي لفظ : ” كنا نشتري الطعام من الركبان جزافاً فنهانا رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) أن نبيعه حتى ننقله ” , والرواية الأخيرة رواها البخاري بلفظ ( …. حتى يؤووه إلى رحالهم ) .[4]

 

4- ما رواه الحاكم بسنده عن ابن عمر عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه نهى أن تباع السلع حيث تشترى حتى يحوزها الذي اشتراها إلى رحله وإن كان ليبعث رجالاً فيضربونا على ذلك , وقال : ” حديث صحيح على شرح مسلم , ووافقه الذهبي . [5]

 

 وفي رواية أخرى له عن طريق ابن اسحاق قال ابن عمر : ” ابتعتُ زيتاً في السوق , فلما استوجبته لقيني رجل, فأعطاني به ربحاً حسناً , فأردت أن أضربَ على يديه فأخذ رجل من خلفي بذراعي فالتفتُ إليه فإذا زيد بن ثابت فقال : لا تبعه حيث ابتعته حتى تحـوزه إلى رحلك فإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) نهى عن أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم .

 

وأما العرف فهو جار على هذا التقييم يقول ابن قدامة : لأن القبضَ مطلق في الشرع فيجب الرجوع فيه إلى العرف كالإحراز والتفرق , والعادة في قبض هذه الأشياء ما ذكرنا [6] ,  واستدل القائلون بأن القبض هو التخلية في المنقول وغيره بالسنة و الآثار :

  

أما السنة فمنها :

 

1- ما رواه البخاري وغيره عن ابن عمر (رضي الله عنهما ) قال: كنا مع النبي (صلى الله عليه وسلم ) في سفر , فكنت على بكر صعب لعمر , فكان يغلبني , فيتقدم أمــام القــوم , فيزجره عمر , ويرد ّه , ثم يتقدم فيزجره عمر , ويردّه , فقال النبي (صلى الله عليه وسلم ) لعمر : بعنيه  قال : هو لك يا رسول الله . قال رســول الله (صلى الله عليه وسلم ) ” بعنيه ” فباعه من رسول الله فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ” هو لك يا عبد الله بن عمر تصنعُ به ما شئت ” [7] .

 

وجه الاستدلال بهذا الحديث واضح ٌحيث دخل الجمل في ملكية الرسول (صلى الله عليه وسلم) بمجرد العقد  مع أنه منقول , فلو كان النقل الفعلي شرطاً لأخذه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أولا ً , ثم يهبه لابن عمر وقد أشار ابن بطال وغيره أن الحديث حجة في أن البيع يتم بالعـقد مع شروطه – وأنه لا يحتاج إلى نقل المعقود عليه فعلا ً , قال الحافظ ابن حجر : ” وقد احتج به للمالكية والحنفية في أن القبض في جميع ِالأشياء بالتخلية , وإليه مالَ البخاري..[8] .

 

2- ما رواه البخاري ومسلم بسندهما عن جابر قال : (…. ثم قال – أي النبي صلى الله عليــه وسلم )  أتبيع جملك ؟ قلت نعم . فاشتراه مني بأوقية , واستثنيت عليه حملانه إلى أهلي ,…. فجئنا إلى المسجد , فوجدته على باب المسجد و قال : الآن قدمت ؟ قلت نعم . قال ( فدع جملك , فادخل , فصل ركعتين , فدخلت فصليت , فأمر بلالا ً أن يزنَ له أوقية ً……… فانطلقت حتى وليت … ثم قال : خذ جملك , ولك ثمنه ” [9] و الحديث واضح في دلالته على أن البيع قد تم دون أن يتم تحويل الجمل – وهو المنقولات – إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ولذلك ترجم له البخاري ” باب … وإذا اشترى دابــة ً, أو جمــلا ً , وهو عليه , هل يكـون ذلك قبضــاً قـبل أن ينزل ” وكذلك أورد بعض الحديث الأول تحته , وهذا مشعر بأن البخاري فهم من الحديثين أن القبض هو التخلية في المنقول وغيره .[10]

 

3- ما رواه البخاري وغيره عن عائشة في حديث الهجرة وفيه أن أبا بكرقال : ” إن عندي ناقــتين أعددتهما للخروج , فخذ إحداهما . قال : قد أخذتها بالثمن ” [11].

 

 قال الحافظ ابن حجر ” قال المهلب : وجه الاستدلال به أن قوله ” أخذتها ” لم يكن أخذاً باليد , ولا بحيازة شخصها , وإنما كان التزاماً منه لابتياعها بالثمن وإخراجها عن ملك أبي بكر …. , وقال ابن المنير : مطابقة الحديث للترجمة من جهة أن البخاري أراد أن يحقق إنتقال الضمان في الدابة ونحوها إلى المشتري بنفس العقد , فاستدل لذلك بقوله (صلى الله عليه وسلم ) وقد أخذتها بالثمن وقد علم أنه لم يقبضها بل أبقاها عند أبي بكر[12] .

 

وهذا من المنقولات التي هي محلُ خلاف ٍ, فيكون القبضُ هو التخلية ُمطلقاً .

 

4- ما رواه الخمسة , والحاكم عن ابن عمر قال ” كنا نبيعُ الإبلَ بالنقيع – بالنون سوق المدينة , وبالباء مقبرتها – كنا نبيع بالذهب ِونقضي الورق , ونبيع بالورق ونقضي بالذهب , فسألت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك , فقال ” لا بأسَ إذا كان بسِعر يومه , إذا تفرقتما وليس بينكما شيء ” [13].

 

فالحديث دليل على أن القبضَ هو التخلية والتمكن من القبض , وليس النقل الفعـــلي , حيث أن ابن عمر كان يشتري من بائعه الذهب المستقر في ذمته بالفضة , مع أن بائعــه لم يستلم بعد ذهبـه الذي كان ثمناً لإبله , فهذا دليل على أن القبض هو التخلية و التمكن , وليس النقل الفعـــلي  ولكن العملية الثانية لما كانت من الربويات اشــترط الرســول (صلى الله عليه وسلم ) القبض الفوري في المجلس .

 

المناقشة و الترجيح :

 

ويمكن أن نناقش أدلة الفريق ألاول بما يأتي :

 

أولا ً : نناقش الاستدلال بالحديث الأول بما يأتي :

 

1 ) أنه ضعيف ٌلا ينهض حجة ً, ولذلك ذكره البخاري تعليقاً بصيغة  ” ويذكر ” دون الجزم , وقد وصله الدار قطني لكن في سنده منقذاً مولى ابن سراقة , وهو كما قال الحافظ ” مجهول الحال ” [14] , وقال أيضاً : ” لكن له طريق أخرى أخرجها أحمد وابن ماجه …. ” وفيه ابن لهيعة ولكنه من قديم حديثه …. ”  ومن المعروف أن عبد الله بن لهيعة َمختلف في الإحتجاج به , فكـثيـر من النقاد لا يحتجون بحديثه مطلقاً , وبعضهم يقبله إذا كان قبل إحتراق كتبه , قال البخاري عن الحميدي كان يحيى بن سعيد لا يراه شيئاً , وقال ابن المديني عن ابن مهدي : لا أحمل عنه قليلا ً ولا كثيراً  وعن أحمد : ما حديث ابن لهيعة بحجة , ونقل عنه : أنه وصفه بالضبط والإتقان , وقال أحمد بن صالح : ” ابن لهيعة صحيحُ الكتاب ” وقال ابن خراش : كان يكتب حديثه , فلما إحترقت كتبه كان من جاء بشيء قرأه عليه , حتى لو وضع أحد حديثاً وجاء به إليه قرأه عليه , قال الخطيب : فمن ثم كثرت المناكير في روايته لتساهـله ” وذكر ابن حبان أنه سبّر أخباره قبل حرق كتبه , وبعده فوجدها لا تصلح , حيث في روايـات المتقدمين عنه تدليس عن المتروكين , وفي رواية المتأخرين عنه مناكير فوجب ترك الاحتجاج بها .[15]

 

2) ولو سلم قبوله , فإنه لايدل على المطلوب , وذلك لأنه لا يدل على أن القبـض لا يتم في المكيل والموزون إلا بالكيل , وإنما يدل على وجوب الكيل و الاكتيال مطلقاً , بل إن شراح الحديث فسروه بأنه أمر بالعدالة في الكيل والوزن , قال ابن القيم :” والمعنى أنه إذا أعطى , أو أخذ لا يزيد , ولا ينقص أي لا لك ولا عليك ” [16] ,  وقد فهم البخاري منه أنه يدل على أن مؤنة الكيل على المعطي ,   ولذلك ترجم له : باب : الكيل على البائع والمعطي [17] ,  وإذا لم يفسر هكذا فإن ظاهر الحديث يدل على وجوب الكيل في كل بيع , وهذا لم يقل به أحد – على ما نعلم – لجواز البيع جزافاً , وبالعدّ والوزن .

 

 ثانياً  : أن حديث ابن ماجه ضعيف , وذلك لأن في اسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى , وهو كما قال في الزوائد ضعيف [18] ,  وكان يحيى بن سعيد يضعفه , وأحمد يقول فيه : سيءُ الحفظ مضطربَ الحديث كان فقهه أحب إلينا من حديثه , وقال شعبة : ما رأيت أسوأ حفظاً من ابن أبي ليلى , وقال العجلي : كان فقيهاً صاحبَ سنة , جائز الحديث , وقال ابن معين : ليس بذاك , وقال أبو زرعة : ليس بالقوي , وقال أبو حاتم : محله الصدق , كان سيءَ الحفظ شغل بالقضاء فساءَ حفظه , لا يتهم بشيء ٍمن الكذب , إنما ينكر عليه كثرة الخطأ , يكتب حديثه , ولا يحتج به .[19]

 

فعلى ضوء ذلك لا يحتج بحديثه , ولا ينهض حجة في إثبات هذا الحكــم . وبالإضافة إلى ذلك فإن هذا الحديث في بيع الطعام قبل القبض , فلا يمكن تعميمه في جميع التصرفات , ولا في جميع المنقولات , فقد  يكون النهي عن بيعه لخصوصية , حيث إن البيع مبني على المساومة , وأن كلا العاقدين يريد الحصول على أحسن مكسب , فلو باعه قبل القبض وربح فيه فربما يقضي ذلك إلى أن يحاول البائع الوصول إلى الفسخ ولو ظلماً , وإلى الخصام والنزاع , ولذلك قطع الشارع هذا الطريق , وسدّ هذه الذريعة , ولذلك لا يقاس عليه غيره , ومن هنا أجازوا للمشتري إعتاقه قبل القبض .[20]

 

وكذلك إن للطعام خصوصية ًفي نظر الشريعة , ولذلك منع الاحتكار فيه دون غيره , وخصه  مع النقود بأحكام لا تتوفر في غيرهما , ومن هنا فلا يقاس عليه غيره من المنقولات وغيرها .[21]  ولذلك كله لم ينهض حجة على المطلوب فسقط الاستدلال به .

 

ثالثاً  : إن الأحاديث التي رواها مسلم خاصة بنهي البيع عن بيع الطعام الذي اشترى جزافاً قبل نقله وتحويله , فلا يعم ما هو قد اشترى بالكيل والوزن , بدليل أن القائلين بالتفرقة بين المنقول وغيره في القبض يقولون : أن وزنه , أوكيله قبض حتى ولو كان في مكانه .

 

هذا من جانب , ومن جانب آخر فالأحاديث كلها في بيع الطعام قبل القبض فلا يقاس على البيع غيره إلا بدليل معتبر , وكذلك لا يقاس على الطعام غيره لما ذكرنا آنفـاً .

 

 رابعاً  : حديث الحاكم كما أوضحته الرواية الثابتة أيضاً في الطعام , بدليل أن المحتجين به أنفسهم لا يقولون بأن جميع السلع يتم القبض فيها بالتحويل إلى الرحال , بل إن الإمام النووي صرّح بأن ” حوزه إلى الرحال ليس بشرط بالإجماع ” ولذلك احتاج إلى التأويل بأن المراد به أصل النقل ” وأما التخصيص بالرحال فخرج على الغالب , ودل الإجماع على أنه ليس بشرط في أصل النقل .[22] 

 

ولا شك أن هذا التأويل يجعل التمسك بظاهر النص ضعيفاً , ويفتح باب التأويل في معنى النقل أيضاً بأن يفسر التخصيص به على الغالب , أو من باب الإرشاد و النصح دون الوجــوب والإلزام .

 

خامسا : إن جميعَ الأحاديث في النهي عن البيع قبل القبض , وليس في القبض نفسه , فلا تكون نصاً في المطلوب .

 

وأما القولُ بأن العرف قاض ٍبهذه التفرقة بين المنقول وغيره , أو بين ما يكال ويوزن وبين غيره فغير مسلم على اطلاقه , بل فيه تفصيل وهو أننا إذا قصدنا به العرف العام فلن يستقيم المعنى بدليل الخلاف الكبير بين الفقهاء , وكلهم يلتجؤون إلى العرف , ولو أردنا به العرف الخاص فلا يكون عرف بلد حجة على عرف بلد آخر , ولا عرف زمن معين على عرف زمن آخر ,  فقد ذكر ابن عابدين في رسالته الشهيرة في العرف أن الناس لو تعارفوا على بيع شيء بالوزن مع أنه كان النص الوارد  فيه على أنه يباع بالكيل فإن هذا العرف الأخير مؤثر عند أبي يوسف , وذلك ” لأن النص في ذلك الوقت إنما كان للعادة , فحيث كانت العلة للنص على الكيل في البعض والوزن في البعض هي العادة تكون العادة هي المنظور إليها فإذا تغيرت تغير الحكم فليس في اعتبار العادة المتغيرة الحادثة مخالفة للنص , بل إتباع النص , وظاهر كلام المحقق ابن الهمام ترجيح هذه الرواية , أو استقراضها بالعدد كما في زماننا لا يكون مخالفاً للنص ….” [23] .

 

ويمكن أن نناقش أدلة الرأي الثاني بما يأتي :

 

أولا ً : يمكن الجواب عن حديث ابن عمر في البكر الصعب بأنه يحتمل أن يكون ابن عمر كان وكيلا ً في القبض قبل الهبة وهو اختيار البغوي .[24]

 

وأجاب بعضهم بأنه يحتمل أن يكون النبي (صلى الله عليه وسلم ) ساقه . أي ساقَ الجملَ – بعد العقد … وسوقه قبض له , لأنه قبض كل شيء  .

 

ولا يخفى أن هذين الاحتمالين بعيدان جداً لا يمكنهما التأثيرُ في ظاهر الحديث الدال على أن القبض يتم بمجرد التخلية و التمكن من القبض دون الحاجة إلى التحويل والحيازة الفعلية .

 

ثانياً  : يمكن مناقشة حديث جابر بالاحتمالين السابقين , ولكن يجاب عنهما بالسابق .

 

ثالثاً  : يمكن مناقشة حديث عائشة بأنه لا يدل على أن القبض قد تم بل كل ما يدل عليه هو أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قد أخذها بالثمن , ولا يلزم منه تمام القبض .

 

 

رابعاً  : وأما حديث ابن عمر في بيع الذهــب بالفضــة في الذمة ففــيه مقال ٌحيث قال فيه الترمــذي : ” هذا حديث لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث سماك بن حرب عن سعيد بن جبير عن ابن عمر ” [25] ,   وسماك هذا قال فيه ابن حزم : ضعيف يقبل التلقين , شهد عليه بذلك شعبة , وأنه كان يقول له : حدثك فلان عن فلان ؟   فيقول : ” نعم ……” [26] .

 

وقد تبع الشيخ الألباني ابن حزم وحكم بضعف الحديث , ورجح كونه موقوفاً وأتى لذلك بعض شواهد حسنة تجعل هذا الأثر الموقوف قويــاً .[27]

 

ويمكن الإجابة على ذلك بأن الحديث قد حكم عليه الحاكم بالصحة وأنه على شرط مسلم , ووافقــه الذهبي [28] , ووصفه شيخ الإسلام ابن تيمية بأنه من السنة الثابتة .[29]

 

 ومن جانب آخر إنهم ضعفوا الحديث بأمرين :

 

 أحدهما : أن في سنده سماكُ بن حرب وهو ضعيـف , وهذا غير مسلم على إطلاقه , بل إن بعض النقاد وصفوه بأنه يمكن تلقينه , ولا سيما في أحاديثه عن عكرمة , أما أحاديثه عن طريق سعيد بن جبير – مثل الحديث الذي معنا – وغيره فأكثر النقاد وثقوه , وحكموا له بالضبط , بل إن جماعة منهم قبلوا حديثه مطلقاً , وقال ابن عدي : وأحاديثه حسان , وهو صدوق , وقال صالح بن أحمد عن أبيه : سماك أصح حديثاً من عبد الملك بن عمير , وقال ابن معين : ثقــة وكان شعبــة يضعفه , وقال العجلي بكري : جائز الحديث إلا أنه كان في حديث عكرمة ربما وصل الشيء , وقال أبوحاتم : صدوق ثقة , وقال يعقوب : وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة , وهو في غير عكرمة صالح , وليس من المثبتين , ومن سمع منه قديما مثل شعبة وسفيان فحديثهم عنه صحيح مستقيم , والذي قاله ابن المبارك – من أنه ضعيف – إنما نرى أنه فيمن سمع منه بآخره . وربما هذا التقويم الأخير هو المعتمد , والجامع بين الأقـوال المختلفة حوله , وهذا الحديث هو ما رواه عنه حماد , وهو من متقدمي الرواة عنه , وقـد تابعه إسرائيل بن يونس . ومهما قلنا في هــذا الحديث فإنه لا ينزل إلى درجة الحديث الحســن , وهو ينهض حجة  وكيف لا , وقد حكم بصحته بعض النقاد مثل الذهبي , والحاكم , كما سبق . 

 

ثانيهما : أنه موقوف . ويمكن أن يناقش بأنه وإن كان موقوفـاً لكنه في حكم المرفوع , ولاسيما من ابن عمر الذي كان شديد التمسك بالآثار , ولا يخوض في الرأي إلا نادراً ولا سيما في مثل القضايا الربوية .

 

ومن جانب آخر إذا كان للحديث طريقـان طريق مرفوع , وطريق موقـوف , فالرفـع هو المرجـح , ولا سيما أن الأئمة الخمسة قد رفعــوه .[30]

 

الترجـيـــح :

 

الذي يظهر لنا رجحانه بعد هذه الأدلة و المناقشة أن القبضَ هو التخلية , والتمكن من الاستلام الفعلي فيما عدا الطعام حيث تدل الأحاديث على أن له من الخصوصية و الاهتمام لم توجد لغيره  فالتحقيق لا يمكن إهمال هذه الأحاديث الدالة على وجوب قبض الطعام وكيله , أو وزنه إذا كان قد بيع بالكيل أو الوزن , ووجوب نقله وتحويله إذا كان قد بيع جزافاً , وأما فيما سوى الطعام فالأدلة ظاهرة ومتعاضدة في أنه لا يحتاج إلى النقل والتحويل , فقد رأينا أحاديث صحيحة دلت على أن القبض في الإبل – مثلا ً – قد تم بمجردالعقد , حيث قام الرسول (صلى الله عليه وسلم ) بهبتها بعد العقد مباشرة دون النقل و التحويل , ولذلك لا يقاس على الطعام غيره من المنقولات .

 

وفي جميع الأحوال لا يشترط أن يستلم المشتري بالفعل المعقود عليه حتى في الطعام , حيث نرى أن البائع إذا كاله له , أو وزنه له , أو حوله إليه , أو أودعه في سيارته , أو سفينته فإن القبض قد تم , وأما في غير الطعام فمجرد التخلية يكفي , وذلك لأننا لو اشترطنا – حتى في الطعام – الاستلام الفعلي من المشتري فإنه قد يتعسف في استعمال حقه فلا يستلمه , وقد أبرز الكاساني هذا المعنى بصورة رائعة فقال : ” فأما الإقباض فليس في وسعه – أي البائع – لأن القبض بالبراجم [31] فعل اختياري للقابض , فلو تعلق وجوب التسليم به لتعذر عليه الوفــاء بالواجب  وهذا لا يجوز ” [32]  .

 

ثم إن القبض لغة ً قد جاء بمعنى التمكين والتمكن دون الاستلام الفعـلي , ولا نجد دليلا ً في الشرع على تقييده غيرالأحاديث الواردة في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه أو استيفائه , أو تحويله , وهذه الأحاديث – في الواقع – ليست شرحاً للقبض , ولا تقييداً له , وإنما هي في عدم جـواز البيع قبل القبض , لكنه مع ذلك يدل على نوع خصوصية للطعام , حيث يقول القرافي في الفروق بين الطعام وغيره في هذه المسألة : ” إن الطعام أشرف من غيره لكـونه سبب قيام البنية  وعماد الحياة فشدد الشرع على عاداته في تكثير الشروط فيما عظم شرفه كاشتراط الولي والصداق في عقد النكاح دون عقد البيع ….” [33] .

 

وعلى ضوء ذلك تبقى القاعدة العا مة هي أن القبض والتسليم هو التخلية والتمكن من الاستلام وليس الاستلام الفعلي باليد يقول الكاساني : ” ولنا أن التسليم في اللغة عبارة عن جعله سالماً خالصاً , يقال : سلم فلان لفلان أي خلص له , وقال الله تعالى : {ورجلا ًسلماً لرجل }[34]  أي سالماً خالصاً لا يشركه فيه أحد , فتسليم المبيع إلى المشتري , هو جعل المبيع سالماً للمشتري , أي خالصاً بحيث لا ينازعه فيه غيره , وهذا يحصل بالتخلية , فكانت التخلية تسليماً من البائع , والتخلي قبضاً من المشتري وكذا هذا في تسليم الثمن إلى البائع , لأن التسليم واجـب , ومن عليــه الواجب لا بد وأن يكون له سبيل الخروج عن عهدة ما وجب عليه , والذي في وسعه هو التخلية , ورفع الموانع , فعلى ضوء ذلك إن جميع الأحكام المترتبة على القبض تترتب على التخلية والتمكن من القبض , لكنه لا يجوز بيع الطعام قبل استيفائه و تحويله أو كيله ووزنه , وبهذا يتم الجمع والتوافق بين جميع الأدلة , ويكون للعقد أيضاً أثره دون أن يلغي أي دليل , والقاعدة الأصولية تقضي بأن الجمع بين الأدلة أولى من إلغاء أحدهــا .

 


 


([1]) صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب البيوع , ط . السلفية (4/343) .

([2]) مسند أحمد (1/62- 75) وفتح الباري (4/344) .

([3]) رواه ابن ماجه في سننه , كتاب التجارات (2/750) في الزوائد : في اسناده أبو عبد الرحمن الأنصاري وهو ضعيف .

([4]) صحيح مسلم , البيوع (3/1160- 1162) وصحيح البخاري – مع الفتح – (4/350) .

([5]) المستدرك , و بهامشه التلخيص للذهبي , ط . دار المعرفة ببيروت (2/39- 40) . 

([6]) المغني لابن قدامة (4/126) والمجموع (9/283) .

([7]) صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب البيوع (4/334) .

([8]) فتح الباري (4/335) .

([9]) صحيح البخاري – مع الفتح – البيوع (4/320) ومسلم , المساقاة (3/1221) .

([10]) فتح الباري (4/321  , 335) .

([11]) صحيح البخاري – مع الفتح – البيوع (4/351) .