الدوحة- الشرق
كتاب “إستراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية النقدية والمالية في ظل الربيع العربي ، يخص به فضيلة الشيخ د. علي محي الدين القره داغي الشرق في رمضان من هذا العام ليكون عونا لكل شعوب الأمة العربية والإسلامية في مسارها ونهضتها وإنقاذ البشرية مما يعتريها من ظلم وفقر وحرمان، إذ يقدم الكتاب عبر الفصول المختارة التي ننشرها تباعا استراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية (النقدية والمالية) في ظل الربيع العربي وهي دراسة فقهية اقتصادية، ومحاولة لبديل إسلامي، مع حلول طارئة.. يقول فضيلته:
العقيدة الصحيحة تدفع نحو العمل الجاد، ولا تخدر الإنسان بالتواكل أو العجز أو الكسل وتعطي الإنسان قيمة الحياة، وتمنحها الخلود. وإصلاح النظام السياسي شرط أساسي لتحقيق التنمية الشاملة المستدامة والتربية الأخلاقية الصحيحة تجعل المسلم صالحاً نافعاً في تصرفاته، غير ضار بأحد من إنسان، أو حيوان، أو بيئة.
علاقة الإعداد الإيماني والأخلاقي بالتنمية:
أ. ان العقيدة الصحيحة هي التي تعطي الانسان القيمة للحياة، وتمنحها الخلود، بحيث لا تنتهي بعمر قصير، بل تمتد إلى الآخرة، لذلك فهو يعمل لأجل هذا الخلود، ولتحقيق جنته في الدنيا والآخرة، كما أنه حسب عقيدته خليفة في الأرض، أو خليفة الله في الأرض للتعمير.
ب. إن هذا الايمان يعطيه دفعة قوية لمزيد من العمل الصالح، بحيث إذا كان الكافر يعمل لدنياه القصيرة، ويبذل كل جهده، فماذا عليه أن يعمل لهذه الحياة الخالدة، كما أنه يجعله أمام هدف كبير وهو تعمير الكون على ضوء منهج الله تعالى.
ج. إن إيمانه بالله، وباليوم الآخر وما فيه من نعيم مقيم يمنعه من الظلم والفساد في الأرض، وأكل أموال الناس بالباطل ومن عامة المحرمات والخبائث والمؤذيات، فيصبح إنساناً صالحاً نافعاً غير ضار.
د. ان التربية الأخلاقية الصحيحة تجعل المسلم صالحاً نافعاً في تصرفاته، غير ضار بأحد من إنسان، أو حيوان، أو بيئة.
إذن فعلاقة الإيمان والأخلاق بالتنمية من ناحيتين:
1 — الإيجابية من حيث الاندفاع نحو العمل الصالح النافع الكثير الدائم الباقي.
2 — السلبية من حيث الامتناع عن الإضرار والجرائم والفساد في الأرض وكل ما فيه ضرر.
وإذا فصلنا في مجال العقيدة فيتبين لنا أن العقيدة تقوم بتحقيق ثلاثة أدوار، أو تهيئة النفوس لها، وهي:
الدور الأول: أنها تعطي الأمن الداخلي والنفسي لصاحبها، وتجعله متوكلاً على الله تعالى مع الأخذ بالأسباب، مؤمناً بالقدر خيره وشره، فيكون في حالة الفقر والمصائب صابراً لا يجزع ولا ييأس، ولا يأسى، بل يبقى راضياً برضاء الله تعالى قانعاً بما رزقه، وفي حالة الغنى شاكراً خاضعاً متواضعاً لا يطغى ولا يستغني ولا يتكبر ولا يتجبر، بل ينفق أمواله في سبيل الله لتحقيق التوازن والخير للجميع.
وفي جميع الحالات لا يرتكب الجرائم؛ لا بسبب الفقر والفاقة، ولا بسبب القوة والطغيان، فهو يخاف الله تعالى فيكون كما قال الله تعالى عن ابن آدم الصالح: “لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ”.
الدور الثاني: هو أن العقيدة الصحيحة تدفع نحو العمل الجاد، ولا تخدر الإنسان بالتواكل أو العجز أو الكسل الذي استعاذ منه الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما هي التي تفجر طاقات المؤمن وتدفعه إلى العمل الصالح والتقوى والعفاف والطهارة والنقاء مع توكله على الله، والحفاظ على مصالح الآخرين، ولذلك لا يذكر الإيمان إلاّ والعمل الصالح مقرون به ملازمة لا ينفك عنه.
الدور الثالث: السعي الجاد لتحقيق الإحسان والأحسن في كل شيء، فقال تعالى: “تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ”.
وأما التربية الأخلاقية فهي تحقيق حُسن النية، وحسن التعامل مع الناس، والإيثار، والعفة، والبر والإحسان وغير ذلك من الأخلاق الفاضلة.
الشرط الثاني: العمل الصالح الذي لا ينحصر معناه؛ لا لغة، ولا شرعاً في الشعائر التعبدية، وإنما حقيقته وجوهره هو كل ما عمل طيباً نافعاً للإنسان والحيوان والبيئة..
الشرط الثالث: الإعداد العلمي والتقني للانسان في مجتمعنا الاسلامي، من خلال التزود بالعلم النافع الشامل لكل علوم الحياة الدنيوية والأخروية، ويدخل فيه تحقيق المهارات والقدرات على الابتكار، وصناعة التقنيات الجديدة، واختراعها.
وكل ذلك لن يتحقق إلاّ بالعلم الذي جعله الله تعالى مفتاحاً للاستخلاف والتعمير، ونحن هنا نتحدث بإيجاز عما ذكرته أول سورة تنزل على رسولنا الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الشروط والضوابط، فيما يأتي:
العلم هو الشرط الأساسي، وهو المفتاح للتمكين:
وليس المقصود به محو الأمية، الذي يُعدّ المرتبة الأدنى، بل أن يأتي بعدها محو الجهل بالحقائق، ثم المرتبة الثالثة وهي العلم الشامل النافع المؤثر، ولا سيما في مجال التقنيات والوسائل المؤثرة، أو ما يسمى بالتقنيات والتكنولوجيا المعاصرة.
فالأمة الأمية التي لا تقرأ ولا تكتب، والجاهلة بحقائق الأمور وبواطنها ومآلاتها، والضالة في دينها ودنياها، لا يمكن أن تتحقق لها سعادة الدنيا والآخرة، ولذلك كان من وظائف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ القيام بما يأتي:
1) تزكية نفوسهم وقلوبهم وباطنهم بتخليتها من الحقد والحسد، والبغضاء، والفرقة والخلاف، ثم بتحليتها بجميع الفضائل والقيم السامية من المحبة والصفاء والنقاء والتواضع والإباء، ليكونوا كجسد واحد، وبالتالي ليتألفوا على منهج واحد ولتتكون منهم الأمة.
2) التعليم للكتاب الذي يكون على رأسه القرآن الكريم، لكنه يشمل أيضاً كل كتاب نافع صالح للدين والدنيا.
وهنا تدخل جميع العلوم المكتسبة، لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من خلال القرآن الكريم أعطى مفتاح العلوم كلها لهذه الأمة.
3) الحكمة هي كل شيء نافع، وبالتالي فهي تشمل العلوم إذا طبقت، وذلك لأن نفع العلوم ليس في ذاتها، وإنما من تطبيقها..
ويدل على أن العلم بالمعنى الذي ذكرناه هو مفتاح التنمية الشاملة، بل مفتاح التمكين والاستخلاف في الأرض ما يأتي:
أولاً: أن الله تعالى خلق آدم ليكون خليفة في الأرض، وجعل له غاية ورسالة، فالغاية هي العبادة لله تعالى، حيث بهذه العبودية تتزكى نفسه وتنصلح حاله فيكون صالحاً ومصلحاً.
وأما رسالته فهي تعمير الكون لصالح البشرية، فقال تعالى: “هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا.. “، ولتحقيق هذه الرسالة فإن الإنسان يحتاج إلى العلم الاستنباطي الذي يكتسبه الانسان من خلال اجتهاداته ومعارفه.
ثانياً: إصلاح منهج العلم والتعليم في أول سورة من القرآن الكريم، على عكس ما يتوقعه أي إنسان في نزول كتاب سماوي، من أن يبدأ بتصحيح العقيدة، أو بتصحيح العبادة.. تنزل أول سورة، وأول آية تقول: “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ”.
ولقد فكرت ملياً وعشت مع هذه الآيات سنين طويلة، إلى أن اهتديت إلى الحكمة والله أعلم بها، وهي بيان أن هذه الأمة أخرجت للناس لترث الأرض “وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ، إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ” وهؤلاء هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالاتفاق، وبالتالي فهم محتاجون لمفتاح التوريث والتمكين، فبين الله تعالى لهم أن مفتاح ذلك هو إصلاح النظام التعليمي.
الشرط الرابع: حماية حقوق الانسان وكرامته وحريته، إذ بدونها لا إبداع، ولا قدرة، بل يصبح الإنسان في ظل الاستبداد والدكتاتورية وكبت الحريات، كالعبد الذي فقد حريته وإرادته وبالتالي بوصلته، فقد عبر القرآن الكريم عن خطورة الاستبداد والكبت تعبيراً رائداً ورائعاً، فقال تعالى: “وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ، أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ”.
وباختصار شديد فإني على يقين بأن إصلاح النظام السياسي شرط أساسي لتحقيق التنمية الشاملة، المستدامة.
تنشر الوطن هذا العام عدة دراسات لفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور علي محيي الدين القره داغي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ولعل من أهمها التي نفتتح بها شهر رمضان المبارك هي الوثيقة التي وضعها فضيلته بشأن قضايا الجهاد، والعنف والخلافة، والولاء والبراء وهي من أهم القضايا المعاصرة التي تشغل وتشعل الحوار سواء بين المسلمين أنفسهم أو بين المسلمين والآخر.. وهي مفتتح دراسة موسعة وضع فيها تأصيلا لأهم قضايا العالم الإسلامي في القضايا المذكورة.
الموضوع الثاني: الإرهاب
الإرهاب مصدر: أرهب، وهو في اللغة يراد به التخويف والترويع، سواء كان للآمنين المدنيين أم للمعدتين الظالمين المحتلين المتربصين، وقد استعمله القرآن الكريم لتخويف الأعداء فقط فقال تعالى «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ» سورة الأنفال «الآية 60»، وهذا أمر مشروع في جميع الشرائع السماوية والنظم والقوانين الدولية والإنسانية، بل إن الله تعالى يريد بهذا التخويف عدم وقوع الهجوم والحرب من قبلهم ضد المسلمين– كما سبق.
أما مصطلح الإرهاب اليوم فيستعمل في تخويف الآمنين، وترويع المدنيين، وإيذاء النساء والأطفال، والتفجير والتدمير ضدهم، حيث استغل الأعداء ما حدث من بعض المتشددين من ترويع الآمنين والعمليات الانتحارية ضد الأطفال والمدنيين لوسم الإسلام بالإرهاب.
كما استفادت من هذا الواقع بعض الدول الكبرى لتحقيق مآربها، ولذلك فسرت الإرهاب بنوع من الغموض حيث عرفته فرنسا تعريفا عاماً غامضاً في مشروعها المقدم إلى الأمم المتحدة في عام 1972 بأنه «عمل بربري شنيع» ولم ترد أميركا أن تضع له تعريفاً، حيث بقيت عائمة، وربما هي مقصودة حتى تتمكن هذه الدول من وصف أي إنسان، أو جماعة، أو حزب، أو شعب، أو أمة بالإرهاب، للقضاء عليه.
وهذا المصطلح «الإرهاب» ترجمة حرفية للمصطلح الإنجليزي «TERRORISM» والفرنسي «LE TERRORIME» حيث عرفه «جورج ليناسير» «بأنه الاستعمال العمدي والمنظم لوسائل من طبيعتها الرعب بقصد تحقيق أهداف معينة».
وقد عرّف المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في دبلن في الفترة من 19-26 ذي القعدة 1423 هـ الموافق 22-26 يناير 2003 في قراره 2/10 الإرهاب بأنه يشير إلى الاستخدام المنهجي للعنف غير المشروع، أو التهديد به، وتعمد قتل أو إيذاء المدنيين، أو تحطيم المنشآت المدنية، أو الإضرار بالبيئة، وأن مفهوم الإرهاب ينطبق على الأفراد والجماعات والحكومات، سواء من ناحية ارتكابه منهم أو وقوعه عليهم.
ترويع الآمنين
ومما لا شك فيه أن الإرهاب بهذا المعنى السائد أي ترويع الآمنين المدنيين وقتلهم بأي طريقة– محرم تحريماً قطعياً تدل على حُرمته النصوص القطعية من الكتاب والسنة، وعليه إجماع الأمة، وأكدته قرارات المجاميع الفقهية في العالم أجمع: بأن حرمة الدماء والأموال والأعراض كحرمة البلد الحرام، في الشهر الحرام، وأن الإرهاب بمعناه المعاصر محرم غير مشروع فقد صدر عن مجمع الفقه الإسلامي الدولي «الذي يضم ممثلي جميع الدول الإسلامية، وعدداً كبيراً من الخبراء» قرار رقم 154 «3/17» بشأن موقف الإسلام من الغلو والتطرف والإرهاب:
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في دورته السابعة عشرة بعمان «المملكة الأردنية الهاشمية» من 28 جمادى الأولى إلى 2 جمادى الآخرة 1427هـ، الموافق 24 – 28 يونيو 2006م،
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع موقف الإسلام من الغلو والتطرف والإرهاب، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، وبعد اطلاعه على القرار الصادر برقم 128 «2/14» بشأن «حقوق الإنسان والعنف الدولي»، والذي عرف الإرهاب بأنه: «هو العدوان أو التخويف أو التهديد مادياً أو معنوياً الصادر من الدول أو الجماعات أو الأفراد على الإنسان، في دينه أو نفسه أو عرضه أو عقله أو ماله بغير حق بشتى صنوف العدوان وصور الإفساد في الأرض».
وبعد الاطلاع على ما أصدرته المؤتمرات العربية والإسلامية، الرسمية منها والشعبية، في مجال مكافحة الإرهاب، بمعالجة أسبابه وقطع السبل على الإرهابيين، مع استمرار التمسك بسياسة حق الشعوب المحتلة في الكفاح المسلح. وبما ورد في «رسالة عمّان» الصادرة في 26-9-1425هـ، الموافق 9-11-2004.
قرر ما يلي:
(1) تحريم جميع أعمال الإرهاب وأشكاله وممارساته، واعتبارها أعمالاً إجرامية تدخل ضمن جريمة الحرابة، أينما وقعت وأيا كان مرتكبوها. ويعد إرهابيا كل من شارك في الأعمال الإرهابية مباشرة أو تسببا أو تمويلا أو دعما، سواء كان فرداً أم جماعة أم دولة، وقد يكون الإرهاب من دولة أو دول على دول أخرى.
(2) التمييز بين جرائم الإرهاب وبين المقاومة المشروعة للاحتلال بالوسائل المقبولة شرعاً، لأنه لإزالة الظُلم واسترداد الحقوق المسلوبة، وهو حق معترف به شرعاً وعقلاً وأقرته المواثيق الدولية.
(3) وجوب معالجة الأسباب المؤدية إلى الإرهاب وفي مقدمتها الغلو والتطرف والتعصب والجهل بأحكام الشريعة الإسلامية، وإهدار حقوق الإنسان، وحرياته السياسية والفكرية، والحرمان، واختلال الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
(4) تأكيد ما جاء في القرار المشار إليه أعلاه من أن الجهاد للدفاع عن العقيدة الإسلامية وحماية الأوطان أو تحريرها من الاحتلال الأجنبي ليس من الإرهاب في شيء، ما دام الجهاد ملتزماً فيه بأحكام الشريعة الإسلامية.
وكذلك صدر قرار مفصل من المجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة، هذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
بيان مكة المكرمة
بشأن: التفجيرات والتهديدات الإرهابية
أسبابها– آثارها– حكمها الشرعي– وسائل الوقاية منها
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه. أما بعد:
فإن مجلـس المجمع الفقهـي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته السابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، في الفترة من 19-23-10-1424هـ الذي يوافقه: 13-17-12-2003م، قد نظر في موضوع: «التفجيرات والتهديدات الإرهابية: أسبابها– آثارها– حكمها الشرعي– وسائل الوقاية منها» وقد قدمت فيه أبحاث قيمة. شخصت هذا الداء الوبيل وحذرت مما ينجم عنه من الفساد العريض والشر المستطير وأوضحت حكمه في شرع الله بالقواطع من الكتاب والسنة والحكمة والتعليل، ووصفت العلاج الناجع لقطع دابره، وقلع نبتته الخبيثة من مجتمعات المسلمين.
وقد عرضت ملخصات لهذه الأبحاث من قبل مقدميها، وجرت حولها مناقشات مستفيضة أكدت الحاجة إلى بيان حكم الشرع المطهر فيه لعموم المسلمين أفراداً وجماعات ودولاً وشعوباً، ولغير المسلمين من مفكرين ومنظمات وهيئات ودول.
والمجلس إذ يدرك– بألم بالغ وحزن عميق– خطورة آثار الأعمال الإرهابية والتفجيرات التدميرية في البلدان الإسلامية بخاصة، وفي أقطار العالم وأممه بعامة، وما خلفته من ضحايا بشرية بريئة، ومآس إنسانية خطيرة، وإتلاف للأموال التي بها قوام حياة الإنسان، ودمار في المرافق والمنشآت، وتلويث للبيئة التي ينتفع بها الإنسان والحيوان والطير.
وإذ يذكر المجلس ببيان مكة المكرمة بشأن الإرهاب الصادر عنه في دورته السادسة عشرة التي عقدت في مكة المكرمة في الفترة من 21-26-10-1422هـ الذي يوافقه 5-10-1-2002م.
وما اشتمل عليه من بيان لتحريمه وتجريم مرتكبيه في شريعة الإسلام، وشجب واستنكار لما يلبس به المغرضون والحاقدون من ربطه بدين الإسلام واتهامه به زوراً وبهتاناً، فإنه يقرر إصدار هـذا البيان باسم «بيان مكة المكرمة بشأن التفجيرات والتهديدات الإرهابية».
وذلك وفق ما يلي:
أولاً: إن الإرهاب مصطلح، لم يتفق دولياً على تعريف محدد له، يضبط مضمونه ويحدد مدلوله.
لذا فإن مجلس المجمع يدعو رجال الفقه والقانون والسياسة في العالم إلى الاتفاق على تعريف محدد للإرهاب تنزل عليه الأحكام والعقوبات، ليتحقق الأمن وتقام موازين العدالة، وتصان الحريات المشروعة للناس جميعاً، وينبه المجلس إلى أن ما ورد في قول الله تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ» «الأنفال:60». يعني إعداد العدة من قبل المسلمين ليخافهم عدوهم، ويمتنع عن الاعتداء عليهم وانتهاك حرماتهم، وذلك يختلف عن معنى الإرهاب الشائع في الوقت الحاضر.
ويشير المجمع في هذا الصدد إلى ما ورد في بيان مكة الصادر عن المجمع بأن الإرهاب: هو العدوان الذي يمارسه أفراد أوجماعات أو دول بغياً على الإنسان في دينه، ودمه، وعقله، وماله، وعرضه، ويشمل صنوف التخويف والأذى والتهديد والقتل بغير حق، وما يتصل بصور الحرابة وإخافة السبيل وقطع الطريق، وكل فعل من أفعال العنف أو التهديد، يقع تنفيذاً لمشروع إجرامي فردي أو جماعي، ويهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس، أو ترويعهم بإيذائهم، أو تعريض حياتهم أو حريتهم أو أمنهم أو أحوالهم للخطر، ومن صنوفه إلحاق الضرر بالبيئة أو بأحد المرافق والأملاك العامة أو الخاصة، أو تعريض أحد الموارد الوطنية، أو الطبيعية للخطر فكل هذا من صور الفساد في الأرض التي نهى الله سبحانه وتعالى المسلمين عنهـا، قال تعالى: «وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحبُّ الْمُفْسِدِين» «القصص:77».
ثانياً: إن عدم الاتفاق على تعريف محدد للإرهاب اتخذ ذريعة إلى الطعن في أحكام قطعية من أحكام الشريعة الإسلامية، كمشروعية الجهاد والعقوبات البدنية من حدود وتعزيرات وقصاص، كما اتخذ ذريعة لتجريم من يدافع عن دينه وعرضه وأرضه ووطنه ضد الغاصبين والمحتلين والطامعين، وهو حق مشروع في الشرائع الإلهية، والقوانين الدولية.
إلصاق تهمة الإرهاب بالإسلام
ثالثاً: استنكار إلصاق تهمة الإرهاب بالدين الإسلامي الحنيف– دين الرحمة والمحبة والسلام– ووصم معتنقيه بالتطرف والعنف، فهذا افتراء ظالم تشهد بذلك تعاليم هذا الدين وأحكام شريعته الحنيفية السمحة، وتاريخ المسلمين الصادق النزيه. قال تعالى مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين» «الأنبياء 107» وقال عز من قائل: «الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ* اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ» «إبراهيم:1-2» وقال: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهـمْ…» «آل عمران:159»، وقال: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ» «الأعراف:199»، وقال: «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ» «التوبة: 128». وقال صلى الله عليه وسلم: «بعثت بالحنيفية السمحة» وقال لأصحابـه: «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين» رواه البخاري في صحيحه، وقال: «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا» متفق عليه، وقال: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه» رواه مسلم في صحيحه، وقال: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه» وقال: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله» رواهما مسلم.
رابعاً: لوجود الغلو والإرهاب في بعض المجتمعات الإسلامية أسباب عديدة ومتنوعة، قد توجد جميعها في بيئة معينة أو زمن معين، وقد تختلف باختلاف البيئات والأزمان، منها ما يعود إلى المنهج العلمي، كالتأويل واتباع المتشابه، أو إلى النهج العملي، كالتعصب ونحوه، وتحديد الأسباب ومعالجتها، عمل علمي يجب أن يتوافر عليه مختصون، يدرسون الواقع عن علم، فلا تكون الأقوال ملقاة على عواهنها، وقد لحظ المجلس كثرة الخلط في الكتابات عن أسباب الغلو والإرهاب، مما يستدعي دراستها بعلم ورشد ووضع السبل لمعالجتها، ويرى المجلس في مقدمة هذه الأسباب:
1» اتباع الفتاوى الشاذة والأقوال الضعيفة والواهية، وأخذ الفتاوى والتوجيهات ممن لا يوثق بعلمه أو دينه، والتعصب لها. مما يؤدي إلى الإخلال بالأمن وشيوع الفوضى وتوهين أمر السلطان، الذي به قوام أمر الناس وصلاح أمور معاشهم وحفظ دينهم.
2» التطرف في محاربة الدين وتناوله بالتجريح والسخرية والاستهزاء والتصريح بإبعاده عن شؤون الحياة، والتغاضي عن تهجم الملحدين والمنحرفين عليه وتنقصهم لعلمائه أو كتبه ومراجعه وتزهيدهم في تعلمه وتعليمه.
3» العوائق التي تقام في بعض المجتمعات الإسلامية في وجه الدعوة الصادقة إلى الدين الصحيح النقي المستند إلى الكتاب والسنة وأصول الشرع المعتبرة على وفق فهم سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين والأئمة المعتبرين.
فإن التدين فطرة فطر الله عباده عليها، ولا غنى لهم عنه، فمتى حرموا من العلم بالدين الصحيح والعمل به تفرقت بهم السبل وتلقفوا كل خرافة وتبعوا كل هوى مطاع وشح متبع.
4» الظلم الاجتماعي في بعض المجتمعات؛ وعدم التمتع بالخدمات الأساسية، كالتعليم والعلاج، والعمل، أو انتشار البطالة وشح فرص العمل، أو تدهور الاقتصاد وتدني مداخيل الأفراد، فكل ذلك من أسباب التذمر والمعاناة، مما قد يفضي إلى ما لا تحمد عقباه من أعمال إجرامية.
5» عدم تحكيم الشريعة الإسلامية في بلاد غالبية سكانها من المسلمين، وإحلال قوانين وضعية محلها مع وفاء الشريعة بمصالح العباد وكمالها في تحقيق العدالة للمسلمين وغيرهم ممن يستظل بظلها، ويتمتع برعايتها، كيف لا وهي شرع الله الذي «لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» «فصلت: 42».
6» نزعة التسلط وشهوة التصدر التي قد تدفع ببعض المغامرين إلى نشر الفوضى وزعزعة أمن البلاد، تمهيداً لتحقيق مآربهم غير آبهين بشرع ولا نظام ولا بيعة.
خامساً: آثار الإرهاب
إن أعمال الإرهاب عدوان على النفس والمال وقطع للطريق وترويع للآمنين، بل وعدوان على الدين، حيث تصور الدين بأنه يستبيح حرمة الدماء والأموال، ويرفض الحوار، ولا يقبل حل المشكلات والنزاعات مع مخالفيه بالطرق السلمية، كما يصور المسلمين بأنهم دمويون ويشكلون خطراً على الأمن والسلم الدوليين، وعلى القيم الحضارية وحقوق الإنسان، وهذا يؤدي إلى أضرار ومفاسد تنعكس على مصالح الأمة الإسلامية الأساسية، وتعوق دورها الرائد في نشر السلام والأمن وتبليغ رسالة الإسلام للناس، وحماية حقوق الإنسان، وتضر في نفس الوقت بعلاقات المسلمين السياسية والاقتصادية والتجارية والثقافية والاجتماعية مع غيرهم من الشعوب، وتضيق على الأقليات الإسلامية التي تقيم في دول غير إسلامية وتعزلهم سياسياً واجتماعياً وتضر بهم اقتصادياً، سواء أكان هؤلاء مواطنين في هذه الدول، أم وافدين إليها لدراسة أو تجارة أو سياحة أو سفارة أو مشاركة في المؤتمرات والمحافل الدولية.
سادساً: الحكم الشرعي في الأعمال الإرهابية من تخريب وتهديد وتفجيرات:
الأعمال الإرهابية التخريبية من تفجير للمنشآت والجسور والمساكن الآهلة بسكانها الآمنين معصومي النفس والمال من مسلمين وغيرهم ممن أعطوا العهد والأمان من ولي الأمر بموجب مواثيق ومعاهدات دولية، وخطف الطائرات والقطارات وسائر وسائل النقل وتهديد حياة مستخدميها وترويعهم وقطع الطرق عليهم وإخافتهم وإفزاعهم، هذه الممارسات، تشتمل على عدد من الجرائم المحرمة التي تعتبر في شرع الإسلام من كبائر الذنوب وموبقات الأعمال، وقد رتب الشارع الحكيم على مرتكبيها المباشرين لها والمشاركين فيها تخطيطاً ودعماً مالياً وإمداداً بالسلاح والعتاد وترويجاً إعلامياً يزينها ويعتبرها من أعمال الجهاد وصور الاستشهاد، كل ذلك قد رتب الشارع عليه عقوبات رادعة كفيلة بدفع شرهم ودرء خطرهم، والاقتصاص العادل منهم، وردع من تسول له نفسه سلوك مسلكهم، قال تعالى: «إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ» «المائدة:33».
سابعاً: وسائل الوقاية من التطرف وما ينجم عنه من أعمال الإرهاب والتخريب
1» المبادرة إلى إزالة الأسباب المؤدية للجريمة، والعمل على إحقاق الحق وإبطال الباطل، والاحتكام إلى شرع الله تعالى وتطبيقه في مختلف شؤون الحياة، فلا شرع أو في ولا أكمل منه في جلب مصالح العباد ودفع المفاسد عنهـم، ولا أرفق منه ولا أقوم بالعدل ولا أرحم « ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون» المائدة:50».
2» بيان فداحة الضرر العام والخاص الذي يصيب الدولة والأمة والمجتمع والأفراد من جراء أعمال العنف والتخريب والتدمير.
3)التربية الواعية الهادفة المخطط لها من أهل العلم والصلاح والخبرة، ووضع منهاج عملي واضح سهل ميسر لتحقيق ذلك.
4) تحرير المصطلحات الشرعية وضبطها بضوابط واضحة، وذلك كمصطلح الجهاد، ودار الحرب، وولي الأمر، ما يجب له وما يجب عليه، والعهود: عقدها ونقضها.
نسأل الله– عز وجل– أن يحمي بلاد المسلمين وأجيالهم من كل سوء.